أحدث المنشورات

محسن يمين... امبراطورية صوتها2

مهداة الى روح الشاعر الراحل جورج يمين في ذكرى رحيله(2)

كم كان يحلو لنا ان ترافقنا أغاني فيروز الصباحية في السيارة التي كانت تقلنا من زغرتا، الى مدرسة الفرير في طرابلس، خلال سنواتنا الدراسيّة الاولى، مصحوبة بقراءات ناهدة فضل الدجاني الشعرية، تحملها تموجات أثير الاذاعة اللبنانية، قبل أن تفرّخ بقية الاذاعات على وهج نيران الحرب. ما من شيء على وجه الارض كان يمكن ان يكسر حدّة هذه اللحظة التي كنا نتوجه فيها، مع حمولتنا من الكتب والفروض والاطعمة، الى يوم دراسي جديد في ذلك المعهد المقيم جوّاتنا بعد زواله، أو يلطّف من رهبتها، أو يخفّف من عناء حشرنا، كالسردين في العلب، في سيارات المرسيدس ال180، سوى تلك الاغاني البالغة الرقة والشفافية. أغان تحطّنا على أجنحتها غير المرئية، ماضية بنا الى حيث تريد لنا مخيلتنا. فتمضي، وتمضي، هكذا الى أن ترتطم عيوننا الذاهلة بالجدران العالية لذاك الصرح الذي كان يجثم على حيّز واسع من أرض الزاهرية، والمعروف بمعهد العائلة المقدسة، جنبا الى جنب معهد مار يوسف المجاني الذي لم يكن حظه بالبقاء بأفضل.
وسيمرّ وقت طويل قبل ان نشعر بمتعة مماثلة ونحن على متن الحافلات التي كانت تقلنا، قبل وقوع سوريا في براثن الحرب، من طرابلس الى حمص، ومن حمص الى دمشق وحلب، في رحلات دورية، قاسمها المشترك الفيروزيات. فيروزيات لا تتأخر في دفعنا الى الشعور بأننا بمغادرتنا لبنان للتو، لم نغادر فيروز. ويلازمنا هذا الاحساس ونحن في الفنادق، او في المطاعم، او في الساحات، و الشوارع. فصوتها العابر للحدود، الموحد للعرب ، على طريقته، حيث فشلت الانظمة، وتعثرت العقائد ، يظل يغمرنا بحنانه المتدفق حتى نعود الى الديار.
لم يمتلك اي صوت من الاصوات الذهبية، في أي من المطارح والاوقات ، مقدار ما يمتلكه صوتها من قدرة على التماهي بوطن ، قدر تماهي صوتها، بوطننا، بأمه وابيه. بحيث يحمل ، سواء تعالى، ام انخفض، تسارع ، ام بطىء، انكسر حزناً، أم اندلع فرحاً، ذاب صلاة أم تفجّر غضباً ، تيّم حباً، ام اشتعل وطنيةً، هدهد طفولةً، أم نادى عنفوانا، أذكى حرية، أم أضرم حنينا، يحمل وطنا بكامله ما بين شاطئه، والسلسلتين. يحمله الى داخل كل من في الداخل. والى داخل كل من في الانتشار، ليوغل في الوعي، وفي اللاوعي، ويستقر عميقا بين الاضلاع، ما بقيت.
الوعد بأيام أفضل، في لبنان أفضل، صوتها. ذهب البيادر. ثريات العرائش. ألوان الفصول. فضة الفقراء. قهوة الصباح. تنهيدة العشاق. أحلام الصبايا. مكاتيب الشوق. أجراس النصر. وجع المشتتين. زفرة المقهورين. رائحة التراب. هدايا العيد. تراتيل الريح. مواويل المياه. زغاريد الساحات. وسادة القمر. بخار الوقت. قجة الامل. وبيارق السلام.
وقد أسست فيروز بصوتها ، وبالحان الرحابنة : زوجاً، شقيقين، ابناً، وبقية الاسرة المجلية في ابداعها، أمبراطورية لا تغيب عنها الشمس... داخل كل منا. ولن تغيب ، لاستمرارها في من سنستمر بهم.
محسن أ.يمّين.
عن الفايسبوك

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads