حسين الموزاني: ذكرياتي عن ثورة تموّز

alrumi.com
By -
0

كان عمري أربع سنوات عندما قامت الثورة، أو وقع الانقلاب العسكري، في الرابع عشر من تموّز عام ١٩٥٨. وكنّا نقيم آنذاك خلف السدّة التي كانت تعزل أرقى أحياء بغداد وهو "الوزيرية" عن أفقرها وهو حيّ "الصرائف“. وقد اصطحبتني والدتي معها إلى تلك السّدة ووقفنا ننتظر قدوم جثّة الوصي عبد الإله التي تقطعّت إرباً أثناء سحلها في شوارع بغداد طولاً وعرضاً. فرأيت سيّارةً صغيرةً تقف أمام فيلا ضخمة كانت تعود إلى المحامي إبراهيم الحمامي الذي اغتيل فيما بعد، وفي ظلّ ظروف غامضة. وكنا نشترى "النبق" من البستاني الذي كان يعمل في منزل الحمامي وكان يضع النبق في أكياس صغيرة ويبيع الكيس الواحد بعشرة فلوس. فكنّا نشتريها بعد عودتنا من مدرستنا في محلّة "الوزيرية" حيث كان يقيم كبّار المسؤولين في الدولة العراقية. ولا أعلم لماذا ترسّخت صورة السيارة في ذاكرتي باعتبارها سيارة فولكس فاغن ألمانية، بيضاء اللون، لكنّها لم تكن تشبه "الخنفساء" المعروفة. ولم يكن المنظر ممتعاً، ولم أسأل والدتي عن رأيها بما حدث، وقد شعرت بالخوف في ذلك الغروب العجيب. ثمّ صرت اسمع باسم عبد الكريم قاسم يتردد في أحاديث الناس، وخاصةً الأطفال الصغار. فكنت أتخيله رجلاً مرهوب الجانب، على اعتبار أنّ رئيس الدولة يجب أن يكون رجلاً قويّاً بالضرورة، وبذلك يكون أبناؤه أقوياء مثله. ولم أكن أعلم بأنّ عبد الكريم قاسم لم يكن متزوجاً أصلاً. فامتلأت أذناي الصغيرتان بقصص بطولاته الخارقة التي استحالت بين الأوساط الشعبية إلى أساطير فيما بعد. وأتذّكر أنّ موكبه مرّ بمنطقة الصرائف ذات يوم فهرع الناس يحملون الجرادل الفارغة ويركضون وراء الموكب وهم يهتفون: „يا كريم انطينا أميّه/ تحت السدّة وزيرية"، لأنّ الناس كانوا يحصلون على الماء عبر مقطورات المياه. ويقال إنّ والدي كتب رسالة لعبد الكريم قاسم ناشده فيها أن يجد له عملاً، فاشتغل والدي في "معمل القطن الطبّي الحكومي"، المحلج، في الوزيرية إثر وساطة الزعيم. 
وعندما وقع انقلاب الثامن من شباط المشؤوم عام ١٩٦٣في ذلك اليوم الشديد البرد، برد جويريد، استيقظت فجراً مع الناس الذين رأيتهم يسيرون أفراداً وجماعات في اتجاه الوزيرية وكانوا مسلحين بالعصي و"المكاوير" ولم أر أسلحةً أخرى آخرى. وسمعت إطلاق نيران يأتي من بعيد، ولم أكن أعرف أنّ انقلاباً قد حدث في وزارة الدفاع وأسفر عن مصرع الزعيم عبد الكريم قاسم. 
ومنذ تلك اللحظة وإلى يومنا هذا لم أر في العراق سوى الإعدامات والتصفيات الجسدية والمؤمرات والاعتقالات التعسفية والقمع المنظّم والطرد من العمل لأسباب سياسية والظلم الاجتماعي والتمييز العرقي والديني والذي انتهى الآن بالاحتلال والحرب الأهلية المفتوحة وتدمير آخر ما بقي من البلد ومن نسيج المجتمع العراقي. واليوم بتّ مقتنعاً تماماً من أنّ القوى التي أطاحت بعبد الكريم قاسم، ويمكن أن نسميها هنا وهي: النظام الكويتي والسعودي والأردني والمخابرات البريطانية والاستخبارات الأمريكية والزعيم المصري جمال عبد الناصر، بالإضافة إلى القوى الداخلية مثل حزب "البعث" وحركة القوميين العرب ورجال الدين، وخاصة المرجعية الشيعية بقيادة عبد المحسن الحكيم، الذي ورث عنه حفيده عمّار الحكيم العمالة جينيّاً، نعم، بتّ مقتنعاً بأنّها هي التي وقفت وتقف الآن وراء تدمير العراق وسوريا واليمن والمنطقة العربية برمّتها.


(*) كاتب ومترجم عراقي النص عن الفايسبوك

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)