
منذ ارتكب المجزرة في نيس في الرابع عشر من الشهر الجاري، وصف محمد لحويج بوهلال بالضعيف والمكتئب والمحبط وصاحب الميول الذهانية. والقاتل كان مصاباً بأعراض تظهر أنه «يعاني مشكلات مع صورة جسده»، قال طبيب امراض عقلية تونسي كشف عليه في وقت سابق. «هذا فعل مجنون أو من ذهب عقله»، أسرّت جارة بوهلال الى هذه الصحيفة. ومذ ذاك كثر تساءلوا: هل في الإمكان وصف فعل يُقدم عليه رجل به مسٌّ بالفعل الإرهابي، على رغم ان «الممسوس» خطط لمجزرة نيس ونفذها؟ والسؤال هذا يبرز إثر كل هجوم. وبروزه يسلط الضوء على صلتنا بالجنون. فالسؤال هذا يوحي بأن القتل، حين يلابسه الهذيان، يفتقر الى معنى سياسي وديني. وعليه، ليس الانعطاف الدموي لنفس «مضطربة» مثل محمد لحويج بوهلال، من بنات افعال «الدولة الإسلامية». ويقال ان تبني الحركة «الجهادية» المجزرة هو دليل على تعثر التنظيم الإرهابي: فهو يكتفي بـ «التقاط» افعال يرتكبها اصحاب نفوس ضعيفة. وهذا مؤشر إلى وهن يصيب التنظيم الإرهابي.
وعلى خلاف ما يساق، العته الفردي مرتبط بالتاريخ الجماعي وهو يسلط الضوء على ابرز حوادثه. فالجنون مسكون بالسياسة وأطيافها. وفي بحث جميل عنوانه «الرجل الذي حسِب أنه نابوليون» (دار غاليمار، 2011)، أظهرت المؤرخة لور مورا أن الهذيان مرآة عهد أو مرحلة. ففي 1793، حين كان نصل المقصلة يكاد لا يهدأ، كانت المصحات العقلية مليئة بأشخاص هم على قناعة بأنهم «فقدوا رأسهم». وفي 1840، حين اعيد رماد نابوليون الى فرنسا، نصَّب أكثر من مريض نفسه امبراطوراً... وحين ينتخب الهذيان شؤون الحاضر يميط اللثام عن جانب من جوانبه (الحاضر) ويسلط الضوء عليه. والجنون هو مرآة الخيال السياسي وموازين القوى فيه. وعليه وفي هذا السياق، يبدو ما اقدم عليه محمد لحويج بوهلال متضارباً: فمن جهة، يفترض انه فعل فردي من غير ان ينسب على الفور الى غيره من فصول ارهابية مماثلة والانزلاق الى مزاديات امنية. ومن جهة أخرى، هو دليل على جاذبية تنظيم «الدولة... وقدرتها على استمالة امثاله». وحاكى القاتل في نيس النموذج العملاني «الجهادي». وليست جريمته دليلاً على قدرة التنظيم على استمالة نزعات التماهي معه ما وراء الحدود الوطنية والاجتماعية فحسب، بل على قدرته كذلك على الاستقطاب ما وراء العقل والمنطق. ومهما كانت حال العلاقات الفعلية بين القاتل والتنظيم الإرهابي، يبدو أن «الدولة...» تهيمن على الرؤوس وأن ارتكاب مجزرة هو فعل انتساب وانتقال إلى «داعش». فهذا التنظيم خلف أثره في تاريخ الخروج على العقل.
ويسلط السعي الى نفي القصد السياسي من مجزرة نيس من طريق التذرع بأن مرتكبها غير مستقر نفسياً، الضوء على صلة مجتمعاتنا بالجنون، وعجزها عن احتساب تنظيم «الدولة...» احتساباً جدياً وتناول دحضه طرق تفكيرنا العادية او السائرة، وقدرته على استمالة نساء ورجال من منابت اجتماعية متباينة - سواء كانوا من العمال أو البورجوازية، أميين أو خبراء في مجالاتهم، متحولين «أخيراً» أو مؤمنين راسخين في إيمانهم منذ سنوات - إلى أفق مشترك. ويرى غير المؤمنين بعقيدة داعش انها غير منطقية، وأن كل مغال في التدين ومتطرف هو مجنون ذهب عقله. وإذا ربطنا بين «الجهادية» والهذيان ربطاً تلقائياً وفورياً، من اين لنا نفي الانتماء «الجهادي» عن الأشخاص الضعفاء نفسياً. وفي شريط تبنيه قتل شرطي وزوجته في مانيانفيل في حزيران (يونيو) المنصرم، ختم القاتل لاروسي أبالا خطابه بالقول:» المؤمن هو مرآة المؤمن». وكأن يقيننا ان العقيدة وهم مطلق هو انعكاس مقلوب ليقين الجهادي.
* صحافي، عن «لوموند» الفرنسية، 21/7/2016، إعداد منال نحاس.