الروح العراقية شقيقة الشجن

alrumi.com
By -
0


نصير شمه *

Jul 15, 2016

كلما استمعنا إلى الأغنية العراقية وجدنا أن الشجن استثير بنا واستأثر بقلوبنا، فالشجن في الموسيقى العراقية ليس سطحيا إنما هو عميق عمق الجرح العراقي، وعمق الحروب والمعارك والخسائر والموت المتواصل.
لم يأت هذا التراث الذي طبعه الشجن من فراغ، بل كان ألما طويلا ومعاناة كبيرة عاناها العراقيون على مدى ازمان وأزمان.
هذه المعاناة لم تنطبق على الأغنية وحسب، ولم تطبع الموسيقى وحدها، بل أن الصوت العراقي نفسه نشعر به وكأنما خرج للتو من وسط الموت. ليس صوتا ميتا، بل إنه صوت حي، لكنه صوت موجوع، والآه العراقية لا تشبهها أخرى في هذا الكون، لأنها تجمع في داخلها كل التاريخ العراقي بمآسيه وأيضا بأفراحه المختطفة.
الشعر العراقي أيضا لم يستطع أن يخرج أبدا من دائرة الشجن، حتى أن الشاعر مظفر النواب كنا كلما استمعنا اليه خصوصا في قصائده العامية نشعر وكأن جبالا من الشجن تثار في دواخلنا، وهذا الشيء نفسه ينسحب على الفنانين المسرحيين والتشكيليين العراقيين.
وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من المبدعين العراقيين في كافة مجالات الابداع غادروا العراق لفترات طويلة وفي أزمنة مختلفة، نجد أن خيط الشجن لا يفارق أعمالهم، وكأن الروح العراقية نفسها أصبحت شقيقة الألم الممتد.
أكتب هذه المرة، وحزني يتضاعف ويتضاعف ليملأ كل ضلع من ضلوعي، فالكرادة العراقية البغدادية التي عشت فيها أجمل سنوات عمري أراها على شاشات التلفزيون الآن تحترق، والنار تأكل فيها كل شيء، البشر والحجر والشجر سواء بسواء.
لم يأت القاتل في وضح النهار، ولم يكن أحد في انتظاره، فقد كان غالبية من الناس يتسحرون استعدادا لاستقبال يوم رمضاني جديد، بل أن الفجر كان أيضا هناك ينتظر المصلين الذين يتلون صلواتهم قبل أن يذهبوا للنوم، كانوا أيضا ينتظرون العيد، وكان جيران لها في الدين وأخوة في الهوية ينتظرون معهم، فالكرادة تضم جموعا من العراقيين الذين لم تفرقهم طائفة ولا دين على مدى عشرات السنوات، ويبدو أن الارهاب أيضا لم يفرق بينهم فأخذهم جميعا في لحظة واحدة.
كنت في المساء كعادتي أفتح بريدي الإلكتروني، وأقرأ دائما من يسألني لماذا لم تؤلف موسيقى لمدينة كذا أو كذا، لماذا لم تضع عملا موسيقيا للحدث الفلاني، ولماذا ولماذا.. واليوم كأن العالم كله كان يهتف بالكرادة، فقد امتلأ بريدي بها وغص قلبي باللوعة.
الموسيقى ليست صنعة يتقنها المؤلف، هي روح تتغلغل في أعماق نفسه وتحاكي روحه، تراكم طويل لآلام أو أفراح ولمشاعر شتى، هي صورة لداخله، وقد تراكمت في عراقنا الصور حتى ما عدنا نستطيع أن نرى سوى الدم ولا نسمع الا عويل الأمهات وصراخ المظلومين.
كثيرا ما أتساءل لماذا كتب علينا نحن العراقيين هذا الشجن والألم الطويل؟ ولماذا لا نستطيع أن نخترق لحظة لنؤلف فيها موسيقى الفرح، فحتى أفراحنا يشوبها شجن خفي..
الكرادة، لم تستطع أن تكتمل في أصابعي لأن كل جسدي كان يتحرك بها، ولم أستطع في لحظة أن أستدعي أصابعي من وسط الموت لأعزفها بكاء مريرا وطويلا، لم أستطع أن أمسك عودي وأنا أرى عشرات الأجساد المحترقة، كل ما استطعته في تلك الليلة ألا أنام بل أجلس مغمض العينين وأنا أحاول أن أزيح هذه الصور.
في أذني بكاء مرير لأطفال كانوا يحترقون، لا ذنب لهم، كانوا ينتظرون العيد ويحسبون الأيام على أصابعهم الصغيرة، وفي كل مرة يحسبون أيضا عدد الأعمام والأخوال ويفكرون بالعيدية ويخططون ماذا سيشترون وكيف سيفرحون، لكن الإرهاب كان أسرع من أمنياتهم فأحرقها وأحرقهم كي لا يحلموا مرة أخرى.
بعد أيام من صرخة الكرادة، أمسكت بعودي، لم يكن كما اعتدته، أنا الذي لا يمر يوم من غير أن تداعبه أصابعي، كان كأنه يعاقبني على غيابي عنه، وكنت أنا وعودي كأننا في مباراة مع الشجن والملامة، وكأنما كان عودي يتمرد على يدي، فتزداد ضربات أصابعي قوة كأني أمسك به كي لا يهرب مني.
وكتبت عملا عن الكرادة، لم أكن أنوي أن أقوم به، رأيتها تخرج من كل روحي لتستوي عند أطراف أصابعي وهي تلامس الوتر، وظللت أعيد المقطوعة مرات ومرات وأنا أشعر بأن كل قطعة مني تقف عند أوتار عودي.
واكتمل ألم الكرادة بين أصابعي والوتر..
لكن الموت نفسه لم ولن يكتمل، فسلسلته طويلة وعمره مديد، والإرهاب لا يرحم، ولا يفرق بين طفل ومسن، ولا بين دين ودين، اسمه الإرهاب لأنه وجد ليسرق الفرحة من القلوب.
الشجن العراقي يتأصل في كل شيء، حتى في الفرح المنتزع من وسط الموت، شجن طويل وقاتل يمضي بين ثنايانا ويأكل دواخلنا ومع هذا نقرر أن نعيش وأن نمضي وسط الشجن ونتساءل جميعا عن يوم قريب يرسم فيه العراق أفراحه عالية تجاور جبال كردستان فيه.
الموسيقى تعبير وسط الألم، ليس همها فقط أن ترسم الصورة، بل أن تمضي خلف الصورة لتمسح جبال الألم وتفتتها على الوتر، هي ترسم المستقبل الذي نأمله جميعا، ولهذا تذكرنا بالماضي، لأن من لم يعش ماضيه ليس بوسعه أن يوجد في غده.
٭ موسيقي عراقي القدس العربي
Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)