حسين الموزاني التقيت ذات مرّة بفنّانة عراقية وممثلة معروفة من الجيل الستيني والسبعيني، ولم أكن قد رأيتها من قبل إلا مرّةً واحدةً في مهرجان...
حسين الموزاني
التقيت ذات مرّة بفنّانة عراقية وممثلة معروفة من الجيل الستيني والسبعيني، ولم أكن قد رأيتها من قبل إلا مرّةً واحدةً في مهرجان للمسرح العراقي أقيم ببلجيكا. وعندما جلسنا في مقهى "التاء المربوطة" ببيروت، بدأت الممثلة تتحدث بصوت عال، ثمّ ارتفع صوتها وبدا وكأنها على منصّة مسرح مجانيّ وفي الهواء الطلق. وأخذت يداها تعبثان بقنية مياه لبنانية بعصبية وتوتر، لدرجة أنّ بعض الزبائن التفتوا إلى طاولتنا وقد بانت الدهشة على وجوههم. فقالت الممثلة: „تعرف عيني، ترى العراقيين ما يستحقون بلدهم"، ورمقني بنظرة حادةً ثمّ صرخت من جديد: „ما يستحقون العراق، لأنّه أكبر منهم، لأن كلشي بيه، من تاريخ وحضارة وثروات وطبيعة ساحرة. لك داد ليش العراقيين ما عندهم غيره وحميّة على وطنهم؟ ليش ما عندهم روح وطنية؟" فشعرت برغبة في الصراخ مثلها، لأنّني أعلم تماماً بأنّ كلامها صحيح، وأن العراقيين ينكرون وطنهم، بل ويناصبونه العداء. فهم مستعدون من ناحية أن يقتلوا ويُقتلوا من أجل طاغية أو من أجل فتوى لرجل دين طائفي أو حتّى من أجل المحتل وعملائه، لكنّهم من ناحية أخرى لا يحركون ساكناً إذا ما تعلّق الأمر بحماية أرأضيهم ووحدتهم الوطنية وميراثهم الثقافي وثرواتهم الطبيعية واستقلالهم السياسيّ.
ولو ضربنا مثلاً بشخصين إثنين لاتضحت الصورة تماماً ونعني بهما زعيم المرجعية الشيعية آية الله علي السيستاني، الإيراني الأصلّ، والمخرج محمّد خان، الباكستاني الأبّ والمصريّ الأمّ والذي رحل عن عالمنا قبل بضعة أيّام. فقد رفض السيستاني على سبيل المثال العرضَ الذي تقدمت به الحكومة العراقية لمنحه الجنسية العراقية – لا أعلم بناءً على أيّ خدمات قدّمها للعراق!- وذلك إلى جانب جنسيته الإيرانية. وألحّت الحكومة العراقية الغارقة في وحل العمالة والفساد والكذب وبرعاية تامة من المرجعية الشيعية، ألحت عليه لعلّه يقبل أخيراً الجنسية
العراقية. ولم تفعل الحكومة ذلك حبّاً بالعراق أو لدوافع وطنية أو إنسانية، بل لتبرير عمالتها لإيران، بعد أن يصبح ممثلها الواسع النفوذ في العراق مواطناً عراقياً. فردّ السيستاني بالقول إنّه يكتفي بجنسيته الإيرانية. على الرغم من أنّه أمضى أكثر من خمسين عاماً في العراق، ونضيف إليها الآن عشرة أعوام أخرى، فتصبح ستين عاماً. ومع ذلك فلا نكاد نسمع صوته ولا نرى صورة له، لأنّه لا يتحدّث أمام وسائل الإعلام على الإطلاق، مثلما كان يفعل مثله الأعلى، آية الله روح الله الخميني الذي يدلي بكلّ يوم بتصريحات عديدة، وذلك بسبب لكنته الفارسية التي ستفضحه وتقلل من هيبته حسب اعتقاده ، وستكشف عدم إتقانه اللغة العربية، لغة القرآن، وذلك على الرغم من المجازر اليومية والعمليات الانتحارية الإرهابية وجرائم الخيانة العظمى التي ارتكبها ساسة العراق. ولا أريد أن أتوسّع في هذا الموضوع، نظراً لوضوحه الساطع، لمن يريد أن يرى.
بيد أنّني أودّ أن أتحدّث قليلاً عن النزعة الوطنية لدى المصريين. فقد ولد محمّد خان، الملقّب بمخرج التفاصيل الصغيرة، في أحد أحياء الشعبية بالقاهرة من أمّ مصرية مثلما ذكرنا. وحرمته الحكومة المصرية من الجنسية، لأنّ أباه قادم من الباكستان، والجنسية المصرية تمنح فقط لمن كان أبوه مصرياً، وليس أمّه، على الرغم من أن المصريين يقدّسون الأمّ بعد الوطن. وكان خان يحمل الجنسية البريطانية ولم يكن عملياً بحاجة إلى الجنسية المصرية التي لا تمنحه أي ميزة أو أفضلية، بل إنها تكون عادةً بطاقة مرور سهلة إلى البؤس والفقر والصراع من أجل القوت اليومي. لكنّه كان ينظر إليها من ناحية معنوية ويعتبرها رمزاً للهوية الوطنية، وكان يريد أن يقال عنه "المخرج المصري محمّد خان" مثلما يقال عن "صادق خان" المواطن البريطاني وعمدة لندن. وظّل محمّد خان يناضل من أجل نيل الجنسية المصرية سبعين عاماً، حتّى منحتها له الحكومة المصرية أخيراً وبقرار خاص عام ٢٠١٣ أي قبل رحيله بثلاثة أعوام. ويكمن سرّ سعادته في الحصول على الجنسية في أنّه سيموت مصرياً، وهذا الموقف حسب اعتقادي أنضج مراحل الشعور بالوطنية.
وترى العراقيين في الوقت نفسه يهرولون فرادى وجماعات إلى الموت، فيضحّون بأنفسهم من أجل مرجعية طائفية وافتراضية ولا تريد لوطنهم أو لهم خيراً. ولو كانت تتحلّى بأدنى قدر من الشعور بالمسؤولية الوطنية وحبّ العراق لأفتت مثلاً بعدم شرعية حكومة المنطقة الخضراء العميلة والفاسدة، ولطالبت بانتخابات تشريعية جديدة مثلاً. ولذلك نرى أنّ إسقاط حكومة النجف الفارسية السريّة أولى بكثير حتّى من إسقاط حكومة المنطقة الخضراء، لأنّها رأس الطائفية والعمالة والفساد. ولا بأس أن نختم ملاحظاتنا بمثل عراقيّ يقول إنّ "النجف بئر العلم وبئر الجمال وبئر الفساد"!
كاتب ومترجم عراقي
المقال عن الفايسبوك

ولو ضربنا مثلاً بشخصين إثنين لاتضحت الصورة تماماً ونعني بهما زعيم المرجعية الشيعية آية الله علي السيستاني، الإيراني الأصلّ، والمخرج محمّد خان، الباكستاني الأبّ والمصريّ الأمّ والذي رحل عن عالمنا قبل بضعة أيّام. فقد رفض السيستاني على سبيل المثال العرضَ الذي تقدمت به الحكومة العراقية لمنحه الجنسية العراقية – لا أعلم بناءً على أيّ خدمات قدّمها للعراق!- وذلك إلى جانب جنسيته الإيرانية. وألحّت الحكومة العراقية الغارقة في وحل العمالة والفساد والكذب وبرعاية تامة من المرجعية الشيعية، ألحت عليه لعلّه يقبل أخيراً الجنسية
العراقية. ولم تفعل الحكومة ذلك حبّاً بالعراق أو لدوافع وطنية أو إنسانية، بل لتبرير عمالتها لإيران، بعد أن يصبح ممثلها الواسع النفوذ في العراق مواطناً عراقياً. فردّ السيستاني بالقول إنّه يكتفي بجنسيته الإيرانية. على الرغم من أنّه أمضى أكثر من خمسين عاماً في العراق، ونضيف إليها الآن عشرة أعوام أخرى، فتصبح ستين عاماً. ومع ذلك فلا نكاد نسمع صوته ولا نرى صورة له، لأنّه لا يتحدّث أمام وسائل الإعلام على الإطلاق، مثلما كان يفعل مثله الأعلى، آية الله روح الله الخميني الذي يدلي بكلّ يوم بتصريحات عديدة، وذلك بسبب لكنته الفارسية التي ستفضحه وتقلل من هيبته حسب اعتقاده ، وستكشف عدم إتقانه اللغة العربية، لغة القرآن، وذلك على الرغم من المجازر اليومية والعمليات الانتحارية الإرهابية وجرائم الخيانة العظمى التي ارتكبها ساسة العراق. ولا أريد أن أتوسّع في هذا الموضوع، نظراً لوضوحه الساطع، لمن يريد أن يرى.
بيد أنّني أودّ أن أتحدّث قليلاً عن النزعة الوطنية لدى المصريين. فقد ولد محمّد خان، الملقّب بمخرج التفاصيل الصغيرة، في أحد أحياء الشعبية بالقاهرة من أمّ مصرية مثلما ذكرنا. وحرمته الحكومة المصرية من الجنسية، لأنّ أباه قادم من الباكستان، والجنسية المصرية تمنح فقط لمن كان أبوه مصرياً، وليس أمّه، على الرغم من أن المصريين يقدّسون الأمّ بعد الوطن. وكان خان يحمل الجنسية البريطانية ولم يكن عملياً بحاجة إلى الجنسية المصرية التي لا تمنحه أي ميزة أو أفضلية، بل إنها تكون عادةً بطاقة مرور سهلة إلى البؤس والفقر والصراع من أجل القوت اليومي. لكنّه كان ينظر إليها من ناحية معنوية ويعتبرها رمزاً للهوية الوطنية، وكان يريد أن يقال عنه "المخرج المصري محمّد خان" مثلما يقال عن "صادق خان" المواطن البريطاني وعمدة لندن. وظّل محمّد خان يناضل من أجل نيل الجنسية المصرية سبعين عاماً، حتّى منحتها له الحكومة المصرية أخيراً وبقرار خاص عام ٢٠١٣ أي قبل رحيله بثلاثة أعوام. ويكمن سرّ سعادته في الحصول على الجنسية في أنّه سيموت مصرياً، وهذا الموقف حسب اعتقادي أنضج مراحل الشعور بالوطنية.
وترى العراقيين في الوقت نفسه يهرولون فرادى وجماعات إلى الموت، فيضحّون بأنفسهم من أجل مرجعية طائفية وافتراضية ولا تريد لوطنهم أو لهم خيراً. ولو كانت تتحلّى بأدنى قدر من الشعور بالمسؤولية الوطنية وحبّ العراق لأفتت مثلاً بعدم شرعية حكومة المنطقة الخضراء العميلة والفاسدة، ولطالبت بانتخابات تشريعية جديدة مثلاً. ولذلك نرى أنّ إسقاط حكومة النجف الفارسية السريّة أولى بكثير حتّى من إسقاط حكومة المنطقة الخضراء، لأنّها رأس الطائفية والعمالة والفساد. ولا بأس أن نختم ملاحظاتنا بمثل عراقيّ يقول إنّ "النجف بئر العلم وبئر الجمال وبئر الفساد"!
كاتب ومترجم عراقي
المقال عن الفايسبوك
ليست هناك تعليقات