«وبعبارة أوضح، فلن يبقى إلا التوظيف الباطني للتخدير المحرف للدين صراحة في التشيُّع، وبصورة أخبث في التصوف الذي يدعي التفلسف والذي هو أداة الاختراق الشيعي للسنة» (أبو يعرب المرزوقي في وصمه لعدنان إبراهيم).
1- الثنائيات المصطنعة تاريخياً والملفقة عقائدياً أوحصيلة ضرورة مجهولة، مثل السنة والشيعة، لا تعنيني في شيء، أسماء لمسمّيات لا نعرف ماهي ولا من هي. برهن التاريخ على أن الانفصام الذي وقع في السرديات الكبرى، مثل انقسام المسيحية على نفسها إلى طوائف، خصوصاً إلى طائفتين نافذتين هما الكاثوليكية والبروتستانتية، ما هذا الانفصام سوى أنَّ الواحد لا يحتمل الوحدة. لا بدَّ للواحد أن يتعدَّد ويتمدَّد ويتشرَّد، في الدين كما في السياسة. الكل يميل بطبعه إلى الانقسام والانشطار، بدءً من سرّ الخليقة ذاتها في انقسام الكائن إلى نُسخ هو لها بمثابة الأب والأصل، وهي له بمنزلة الابن والفرع. الانقسام في الوجود ضرورة طبيعية وتاريخية، لذا كانت الأصناف والأنواع والطوائف والأحزاب والجماعات والملل والنحل. أن تحترس شظيَّة من شظيَّة أخرى هما قطعتان من سرديات كبرى انكسرت تحت وطأة التاريخ، مَثَل ذلك كفقير يضحك على فقير أو أعمى يستهزئ من أعمى. من كانت له الكلمة الحق والفيصل بين الكاثوليكية والبروتستانتية في اقتتالهما المرير؟ لا أحد. بعد الحروب الطاحنة والويلات القاصمة، خرجتا منهزمتين معاً. سيكون حظ السنة والشيعة المصير نفسه إذا لم يتعلما أن التاريخ والطبيعة من أشدّ الكوائن وطأة لا ينفع معهما دعاء أو شموع أو دموع.
2- لكن، ليست الحبكة المضحكة بين الطوائف الثنائية الرؤوس (bicéphale) هي التي شدَّت انتباهي في هذا الوصم، لكن نعت التصوف بأنه يدّعي التفلسف وأنه أداة في اختراق توأم لتوأمه، من أمهما بالميلاد والرضاعة. كنتُ دائماً أخشى هذا الموقف السلبي والحكم الخاطئ تجاه التصوف بأنه خرافات وخزعبلات وشطحات وأنه وسيلة امبريالية في التوسُّع الغربي أو الاختراق الشيعي. فقط لأننا لم نلق بأعيننا نحو الأفق لنرى المهمَّة الأساسية للتصوُّف، ليس فقط في تربية شيء في النفس على ما يقول المعلّم إكهرت (etwas in der Seele bilden)، لكن أيضاً في توفير الصورة التي تتولّد عنها الفكرة. كان ميشال دو سارتو من القلائل المتخصصين في التصوف المسيحي الذي تفطَّن إلى أنّ الفلسفة مدينة في عُدَّتها المفهومية للتصوف، حيث لا نفهم هايدغر ما لم نقرأ المايستر إكهرت (التصوف المسيحي)، ولا نفهم إيمانويل لفيناس ما لم نقرأ إسحق لوريا (التصوف اليهودي).
3- لقد فهم أنَّ الفلسفة مدينة للتصوف في تركيباتها المفهومية، ومن الاختزال إذاً أن نقول بأنَّ التصوف يدّعي التفلسف، لأن التفلسف خرج أساساً من رُحم التصوُّف، بدءً من الدهشة الأرسطية وحتى الإنارة الهيدغرية في كون الحقيقة عبارة عن طلوع أو شروق أو انكشاف. عندما عكف جاك لاكان على بلورة تحليل نفسي يفكر مع فرويد ضدّ فرويد نفسه، لم يكن لجاك لاكان من بُد سوى الغور في النصوص العرفانية لدى هادفيش الأنفرية وتيريز دافيلا والعرفان أو الكِنان الريناني (mystique rhénane) وساعده ميشال دو سارتو في استعارة المباحث العرفانية وترجمتها إلى مصطلحات نفسية. لم يرَ الغرب في التصوُّف حصيلة تجارب مبهمة أو شاذّة، بقدر ما نظر إليه التجربة المتفاقمة التي تقول شيئاً عن تفاقم الوجود (hyperbolisme): فالتصوُّف يهب الشكلية (formalité) والتحليل النفسي يُضفي المادية (matérialité) والمضمون (contenu). التحليل النفسي، الفينومينولوجيا، الهيرمينوطيقا، والعديد من المناهج النظرية لها شيء يضرب بجذوره في الحدس العرفاني. فلا يمكن، بعد كل هذا، أن نعيّر التصوُّف ونرى فيه استراتيجية سياسية في الهيمنة. إذا كنا لا نُحسن قراءة النصوص العرفانية، فعلينا أن نتهّم إخفاقنا في القراءة وعدم قُدرتنا على الولوج في الحدوس الأصلية للتجربة العرفانية لنشتق منها أشكال الفكر وصور الكينونة.
مراجع النص:
Michel de Certeau, La Fable mystique I, 1982 ; La Fable mystique II, 2013 (Paris, Gallimard, coll. « Bibliothèque des Histoires »).
Michel de Certeau, « Mystiques et philosophies : itinéraires occidentaux », in : Christian Delacampagne et Robert Maggiori, Philosopher I, Paris, Fayard, 1980, nouvelle édition 2000.
Jacques Lacan, Ecrits, Paris, Seuil, 1973.
Meister Eckharts Mystische Schriften, Vorwort von Gustav Landauer, Berlin, 1903.
عن الفايسبوك