ردّ الدكتور أبو يعرب المرزوقي على محمد شوقي الزين،

alrumi.com
By -
0

النص جيد وحجاجه محترم، لكن يمكن أن يُردَّ عليه بأن هذا الذي يتكلم عليه ليس تصوفا بل هو عين الفكر المبدع الذي إذا صار تصوفا يصبح فكرا منحطا، وهو متقدم على تصنيف الفكر إلى تصوف وفلسفة وشعر ودين، هو اليبنوع الوجداني وهو معلوم لكل المبدعين وخاصة لكبار الشعراء والفلاسفة والأنبياء والعلماء.
والتصوف أحد أشكال انحطاط هذا الينبوع، وقد عزا ابن خلدون هذا الانحطاط الصوفي إلى محاولة جعله كسبيا أي صناعة توظف للترؤس وقيادة الضمائر، وتلك هي "الكنسية الصوفية" التي أتكلم عليها وليس "الحدس الوجداني" المشروط في كل إبداع، الأخ شوقي الزين يخلط بين الأمرين ولعل اكتفاءه بمثال اكهارت وهيدجر هو الذي أوقعه في سوء التأويل، وحتى هيدجر فإنه لا يعتبر ذلك تصوفا بل شعرا وإبداعا سواء تكلم على اكهارت أوعلى هلدرلن. والسلام
تعقيب محمد شوقي الزين على الدكتور أبو يعرب المرزوقي،
الشكر موصول إلى الدكتور أبو يعرب المرزوقي على تفاعله مع النص الذي كتبته. ربما يأتي سوء الفهم في تحديد طبيعة التصوف الذي تمت مرادفته بالتشيُّع، منذ هنري كوربان، بل حصل انقسام في الإدراك المعرفي نفسه لطبيعة هذا الينبوع الوجداني، بين "تصوُّف" أهله السنة، و"عرفان" أهله الشيعة. لهذا السبب، وبناءً على قراءتي لأعمال ميشال دو سارتو، اخترتُ تسمية أخرى لكلمة "ميستيك" (mystique) وهي الكلمة "كِنان"، لأترفَّع على الصراع الضمني بين "التصوف" (soufisme) و"العرفان" (gnose)، فضلاً عن "الباطنية" (ésotérisme) التي كانت تتمتَّع في الغالب بمدلول سلبي منذ الغزالي على الأقل. لماذا الكنان؟ لأنه ينطوي على شيء جوهري لدى المتصوفة وهو "السرّ" (secret) والأمر "الملغز" (énigme)، الشيء المكنون، المودع في أغلفة من "الشعور الأقيانوسي" كما سمَّاه رومان رولاند (Romain Rolland) في رسالة إلى فرويد بتاريخ 5 ديسمبر 1927. 
أعتقد أن جوهر التصوف/العرفان هو هذا المكنون، لكن لصراع ضمني بين المصطلحين، نتيجة صراع مذهبي بين توجُّهين (السنة والشيعة)، اكتسب أحدهما والآخر مدلولاً سلبياً وقدحاً صريحاً. لكن، سؤالي إلى الدكتور المرزوقي: هل يبقى الينبوع الوجداني في دائرة مغلقة من الشعور الأقيانوسي بمفهوم رولاند؟ ألا يتمظهر في التاريخ بالمعنى الهيغلي للكلمة في تمظهر الروح في معطيات موضوعية؟ ربما يعزو ابن خلدون الانحطاط من وراء تصوُّر أرسطي كان مستحكماً لدى المفكرين العرب والمسلمين، وهو الخروج من القوة (dunamis) إلى الفعل (energeia)، وهو تغيير، وكل تغيير يحمل بذور الكون والفساد (altération). بمعنى أن التصوُّر الأرسطي جعل عمل السلب في النهاية في سيرورة تؤول نحو الانحطاط، عندما جعله هيغل في البداية. لا بد أن يكون هنالك سلب في البداية للارتقاء جدلياً وإيجابياً نحو النهاية. إذا أخذنا بالتصوُّر الهيغلي، يبدو لي أن التصوُّف المتجسّد في صنائع (الفكر أو الروح الموضوعي) لا يؤول حتماً إلى الانحطاط، بل هو يخلّد شيئاً من الروح في التاريخ، بما في ذلك مؤسسات أو تنظيمات، في شكل طرق صوفية. 
عندما درس ميشال دو سارتو الظاهرة الصوفية في المسيحية في منعطف القرنين 16 و17م، لمس هو الآخر النعت بالانحطاط الذي اتّخذ صورة أخرى هي "المرض"، "الأمر الشاذّ"، "الخيال الفاسد"، إلخ؛ في أزمنة (حديثة) كانت تتبلور طبياً بوضع الجسد على طاولة التشريح وقراءة السمات والعلامات الدالة على باثولوجيا كامنة. لكن، أفلح في قلب المعادلة عندما أظهر أن التصوُّف هو قبل كل شيء قول أو كلام (fable, fari, parole) بالمعنى التداولي للكلمة: "قول يفعل"، فهو أدائي (performatif). بهذا الإقرار، لم يجعل دو سارتو من التصوُّف صناعة (poièsis) ولكنه فعل أدائي له غايته في ذاته (praxis)، ربما للإفلات من المدلول السلبي الذي لحق بمفهوم الصناعة الآيلة نحو الأمر المكتسب والمخزّن لقيمة معيَّنة هي بمنزلة رأسمال مال لصفقات ممكنة، لما تحتمله الصفقات من رهانات فيها الربح والخسارة، أي التجارة وكل تجارة هي رمزية بين البشر قبل أن تصبح مادية بين الأموال والبضائع. 
أعترف أن الوصف "الكنسية الصوفية" لم أصادفه من قبل، ولا أدري الوجاهة التي يتمتَّع بها، بالمقارنة مع تصوُّف إسلامي لا يؤمن أساساً بالتراتب على الطريقة المسيحية في شقها الكاثوليكي والأرثوذكسي، فقط في حالة ما إذا أخذنا بفكرة الشيخ والمريد، وهذه الفكرة لا تشذُّ عن قاعدة كونية بين المعلّم والمتعلّم أو الأستاذ والطالب (من صورة سقراط إلى جدلية السيّد والعبد التي عمَّمها جاك لاكان على الخطابات الأربعة، خصوصاً الخطاب الثاني، "الخطاب الجامعي"). التراتُب كائن في كل الأحوال، لا مناص منه؛ وكل مؤسسة بشرية مبنية في جوهرها على التراتب. إذا كان التصوُّف هو مؤسسة الاجتماع حول موضوع الاعتقاد والوجدان، فهو ليس مؤسسة الواحد، الراهب المتنسك والمنعزل، لكن مؤسسة المتعدّد من الأفراد والجماعات، وهنا تكمن قيمة التصوُّف الذي قال عنه ميشال دو سارتو: التصوُّف مؤسسة اجتماعية.
مراجع النص:
Michel de Certeau, « Mystique », Encyclopædia Universalis, vol. 12, 1985. 
Henry Corbin, Face de Dieu, Face de l’homme : herméneutique et soufisme, Paris, éd. Entrelacs, 2008.
Hegel, La phénoménologie de l’esprit, tr. Jean Hyppolite, Paris, Aubier, 1941, nouvelle édition, 1987.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)