حتى اليمين اللبناني بات عاجزًا عن تشكيل أحزاب جديدة. آخر هذه الأحزاب ينتظم في عقد الأحزاب المرتكزة على شخص عون. القوات وليدة حرب. حزبٌ صَهَر في ذاته أعضاء شبابًا من أحزاب يمينية ضاقوا ذرعًا بالسنين التي أثقلت كاهل أحزابهم التقليدية (الكتائب والوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية، على قلة من تركها). حزب تقلبت قياداته حتى آلت إلى الحكيم، زعيمًا آخر وأخيرًا! إذن، ليست الأزمة أزمة اليسار فقط، الأمر الذي لا يعني على الإطلاق تبرئة له ممَّا يعانيه من عجز بنيوي توالت ثلاثة عوامل على هتكه: ١) انهيار المقاومة الفلسطينية وما ادَّعته من دور في لبنان، فنشرت الفساد بين قواه "الوطنية" (اليسارية)، ليأتي العدو الإسرائيلي في اجتياحه ١٩٨٢ ليهزمها شر هزيمة، ويقضي على مشروعها "اللبناني" قضاءً مبرمًا، ويجعلها أسيرة "أريحا أولًا" وما تلاها ممَّا نعلمه. هذا الانهيار أعاد الصواب إلى وعي اليسار وأماط اللثام عن أزمته البنيوية "الوطنية" اللبنانية. في هذا السياق كان اليسار هذا مفارقًا مشروع الدولة الذي زعمها اليمين لنفسه. ٢) انهيار المعسكر الاشتراكي ثم الاتحاد السوفياتي اللذين شكَّلا المظلة الإيديولوجية الواقية فوق رأس اليسار على تنوعه. هنا صُفع اليسار على ناصيته الكاذبة، فضاع وداخ وانكشف. فالإيديولوجيا لم تكن سلاحًا -كما كان يُعتقد- فبدت كتابوت لتحنيط الأفكار.. كل الأفكار، وأولها: الدولة الوطنية! كل الحياة التي عاشها اليسار، في إبان الحرب، لم يستطع تغليب مطالب الشعب على الحرب التي انخرط فيها، فضلًا عن اهتمامه الأول -ولعله الأخير- بنصرة القضية المركزية! في غياب المظلة وانهزام المقاومة الفلسطينية تعطَّلت لغة اليسار. ٣) الوصاية الأسدية، التي ناهضها بعض اليسار اللبناني، جعلته في نهاية المطاف شيئًا لا يُذكر.. شيئًا لا يزن جناح بعوضة في ميزان القوى السياسية الذي أنتجت منه دولة تسوية الطائف. استثنيت هنا العامل الإيراني لأنه في المرحلة التي أوصِّفها كان بمعنى ما "سوريًّا" قبل تسلُّم الأسد الابن السلطة في سورية.
ما يمنع اليسار الآن من التشكُّل ١) نأيه عن انتقاد مجمل المرحلة منذ عام ١٩٧٥ حتى الوقت الراهن. ٢) عدم تخلِّيه المستبطن عن إيديولوجياته السابقة التي تعفَّنت، وصولًا إلى تعفُّن الدماغ. ٣) شعوره "بواجبه" انتهاك كنه الحراكات المدنية ولو أدَّى ذلك إلى إجهاضها، وشعوره بأنها فرصته الضائعة للعودة إلى الساحة، فيتهيأ له أنها مشروع الدولة التائه الذي يمكن أن يمده بنسغ حياة.. هيهات، فما مات قد مات. ٤) خوف واصب من تكرار تجربة التنظيم بسبب ضبابية المشروع. هو خوف ناجم عن الهزائم التي مُني بها اليسار.
هذا التوصيف وهذه الاستنتاجات وجهة نظر قابلة للنقاش.
عن الفايسبوك