آنا ديلا سوبين ـ حسين عمر
في فبراير الماضي، وفي خطبة عرض فيها خططه لسداد ديون مصر الهائلة، قال الرئيس عبدالفتاح السيسي "أقسم بالله، لو كان ينفع أتباع، كنت بعت نفسي". وفي غضون ساعات، عرض بائع مجهول السيسي للبيع على موقع إيباي eBay، مشيرا إلى أنه "لم يستعمل كثيرا" من قبل ملاكه السابقين (أي حكّام الخليج) موضحا أن "الشحن مجاني، وأن البضاعة المباعة لا ترد". ووصلت المزايدة إلى أكثر من مائة ألف دولار قبل إزالة الإعلان.
في السنوات الثلاث المنصرمة منذ أطاح السيسي بالرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي في انقلاب عسكري، تم إخراس المعارضة العلنية في مصر بعنف، إذ أغار أمن الدولة على مقرات الصحف، واعتقل الصحفيون، وطردت المنظمات غير الحكومية، و"اختفى" قسريا المئات من الناشطين المشبوهين. غير أن المظاهرات اندلعت مرة أخرى في شوارع القاهرة في ابريل من العام الحالي بعد أن أعلن السيسي إعطاء جزيرتين في البحر الأحمر لحكومة المملكة العربية السعودية. وقد يبدو أن مصير الجزيرتين غير المأهولتين بالسكان غير ذي أثر يذكر على حياة المصريين اليومية، ولكن هذا على السطح فقط. فقد بدا الخبر لكثير من المراقبين دليلا على نفاق نظام السيسي. فالرئيس نفسه هو الذي عدّل الدستور ليمنع حاكم البلد من التنازل عن الأراضي المصرية للقوى الأجنبية، ثم تزامنت هبة الجزيرتين مع وعد العربية السعودية بصفقة نفط واستثمار بقيمة 1.5 بليون دولار أمريكي. فبدا من السهل الإحساس بأن السيسي يبيع أجزاء من مصر لصاحب أعلى عرض. وفي التاسع من ابريل أطلق الساخر المصري المنفي باسم يوسف تغريدة عبر تويتر قال فيها "قَرَّبْ قَرَّبْ يا باشا، الجزيرة بمليار، الهرم باتنين، وعليهم تمثالين هدية".
وهناك كاريكاتير من القرن التاسع عشر يحمل نفس المشهد. يظهر فيه حاكم مصر جالسا إلى مائدة عند أهرام الجيزة وفي يده مطرقة مزايدة وأمامه جمع من المزايدين الأجانب المهتمين بالشراء. "محبي الآثارـ الأهرام وأبو الهول للبيع نقدا. العملة هي الجنيه: ألا أونا، ألا دو، باسم شعب الله، بعنا".
نشرت هذه الصورة في عدد مايو 1879 من جريدة ساخرة اسمها "أبو نضارة زرقا". كان الاقتصاد المصري آنذاك ـ مثلما هو الآن ـ في حالة فوضى، ولم يكن يساعد البلد غير ديون ثقيلة من متبرعين أجانب. كان خديو مصر المتلاف اسماعيل، حاكم مصر العثماني، الذي اشترى لقبه من سلطان اسطنبول، قد انطلق في مشاريع إنشائية جامحة، استدان من أجلها من البنوك البريطانية والفرنسية بغزارة. وفي مقابل ذلك وضع دائنو الخديو الأوربيون أنفسهم في مجلسه الوزاري، ومضوا يشترون مساحات شاسعة من أرض مصر وبنيتها الأساسية، في الوقت الذي فرض فيه اسماعيل ضرائب فادحة على الفقراء. وفي حين كان الغضب يجيش في البلد، بدأت منشورات غامضة تنتشر، مكتوبة بخط اليد. (واعذروني حين أقول إن نص المنشور كان يقول إن "حروفي تنتصب انتصاب آذان الحمار" [والحمار رمز الحزب الديمقراطي الأمريكي ـ المترجم]. على غلاف بعض الأعداد، يظهر شخص مرتديا عمامة وله شارب، مقيما محكمة، ومن حوله تماثيل أبي الهول، ويرتدي نظارة هائلة الحجم مقارنة برأسه.
كان مؤسس الجريدة ـ ذو النظارة الزرقاء نفسه ـ هو جيمس صنوع James Sanua، وهو يهودي مصري إيطالي ولد في القاهرة سنة 1839 [واسمه الأشهر هو يعقوب صنوع ـ المترجم]. كان ماسونيا يجيد عددا من اللغات، واشتهر أول ما اشتهر ككاتب مسرحي قبل أن يحوِّل مواهبه إلى الصحافة الساخرة. أقسم الرجل أن "أبو نضارة" لا علاقة لها بالسياسة، وجعل لها شعارا يثبت أنها "مجرد شيء نضحك عليه". ولكن من خلال مزيج خاص جدا من الخرافات والحكايات والحوارات الكوميدية، تناول صنوع بجرأة نقائص السياسة في زمنه: كقسوة الفرعون القمعية، والاقتصاد الخرب، والرقابة على الصحافة.
يظهر الخديو في كاريكاتير مرتديا عمامة درويش حاملا دفا، مغنيا في الشوارع متسولا النقود لسداد دين مصر. وفي كاريكاتير آخر يظهر رأس الخديو على جسد ثعلب في قفص من أقفاص السيرك، والمتفرجون الأوربيون يتابعون العرض المثير. انتشرت المجلة في مصر انتشارا كبيرا، فكان الفلاحون يحتشدون في المقاهي للاستماع إلى من يتلوها عليهم، وأشيع أن الشيوخ كانوا يخفونها في عمائمهم. وكتب مراقب بريطاني في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر يقول "لقد كانت في كل ثكنة عسكرية، وكل مصلحة حكومية، كما كانت تقرأ في كل مدينة وكل قرية ببهجة ما بعدها بهجة".
وأخيرا، بفضل جهود فريق من الأكاديميين الألمان، ترقمن أرشيف أبو نضارة كله. غير أن الجريدة تبقى مجهولة إلى حد كبير في مصر اليوم، وشأن كثير من الوثائق المتعلقة بماضي مصر، يكاد يستحيل العثور على نسخ مادية منها داخل البلد. ووصول العامة إلى الأراشيف الوطنية محدود، إذ تمنع قواعد الأمن الدراكيولية الوصول إلى ماضي مصر إلا على فئة من أهل الامتيازات. وهذه المحاذير قد تفضي إلى نوع من فقدان الذاكرة التاريخي في مصر. في الخامس والعشرين من يناير، حينما تدفّق آلاف المتظاهرين على ميدان التحرير، أعلن كثير من المحللين والفقهاء السياسيين الحائرين، سواء من الأجانب أو المصريين، أن هذه الثورة كانت غير مسبوقة، وأنها نشأت من العدم. وتذكر أحد هؤلاء أن "مصر أذهلت العالم كله، ولكن أهم من ذلك، أن المصريين أذهلوا أنفسهم" وهم يغيرون "الرأي الثابت" بأن المصريين "خانعون فاترو المشاعر".
ولكن أحداث زمن أبو نضارة تثبت أن هذه الصور النمطية لم تتأسس إلا على النسيان. في يوليو 1879، وردًّا على تصاعد الدين المصري، استولى البريطانيون على أصول الخديو اسماعيل وخلعوه وولّوا بدلا منه ابنه الجبان توفيق ليكون دمية لهم على العرش. وكان جيمس صنوع ـ الذي تعرض لمحاولتي اغتيال ـ قد سافر بحلول ذلك الوقت إلى فرنسا وأطلق على جريدته اسما جديدا فصارت "رحلة أبو نضارة من مصر القاهرة إلى باريس الفاخرة". وحتى في المنفى، كان لا يزال بوسع الناشر ضعيف النظر أن يرى بوضوح ما يجري من أحداث في أرض وطنه. أصدر الجريدة في قطع أصغر، ليتسنى تهريبها إلى مصر داخل إصدارات أقل إثارة، وكلما كانت السلطات تحظر توزيعها، كان يعمد ببساطة إلى تغيير اسمها. وفي باريس، وبمفرده تماما، اخترع مجتمعا كاملا وخياليا من الناشطين ـ من قبيل أبي نضارة خضرا وأبي نضارة صفرا وأبي نضارة حمرا ـ الذين نشروا مقالات مثيرة في جريدته. (وكتب يقول "جريدة إذا قرئت على البحر هاج وماج"), وكان من بين أقنعته الشيخ أبو نضارة الذي كان يكثر من الاستشهاد بالقرآن، ويوبخ المصريين بنبرة وعظية تأخذ عليهم تراخيهم بعبارات منذرة: "عما قريب تجدون أنفسكم محتلين! وهذا اليوم منكم قريب! ستصبح مصر في يوم أغبر إنجليزية تأكل أولادها"، داعيا المصريين إلى الثورة قائلا "للمرة الأخيرة ... سوف أدمر جريدتي وأكسر نظارتي"، وكانت الجريدة منتشرة بصورة سرية بين أيدي قوات الجيش المصري التي كانت على شفا التمرد.
كان هناك ضابط مصري شاب قوي الكاريزما يدعى أحمد عرابي يقرأ الجريدة فيجد فيها ما يحركه. رفع الرجل شعار "مصر للمصريين" وقاد الآلاف من الفلاحين والجنود إلى قصر توفيق، وعلى مدار ثلاثة أشهر عابرة خلع الثوار الخديو وحكموا في قصره. ومن باريس صوّر صنوع عرابي في صورة الملاك ميخائيل الذي يمنع البريطانيين من دخول فردوس مصر المسورة، وصوّر نفسه مهللا للثورة من سلة معلقة في منطاد. ولكن الجيش البريطاني سرعان ما أخمد تلك الثورة بالمدافع والبنادق. لقي الآلاف مصرعهم، "ونفي عرابي إلى سيلان، وبدأ منذ ذلك الحين احتلال بريطاني لمصر دام سبعة عقود. وفشلت أول ثورة كبيرة في تاريخ مصر.
منذ عام 2011، ذهب كثير من المصريين إلى المنفى، سواء فرض عليهم أم فرضوه هم على أنفسهم. وشأن صنوع، لا يزال كثير من هؤلاء المهاجرين المحدثين مستمرين في الدفاع عن ثورتهم من الخارج، ومن هؤلاء باسم يوسف الذي غالبا ما يطلق عليه "جون ستيوارت مصر". غالبا ما يوصف هؤلاء داخل مصر بالمخربين: بأي حق يتدخلون في شؤون بلد ما عادوا يعيشون فيه؟ هل كان من العدل أن يشجع جيمس صنوع الشعب على الثورة من أمان شقته الباريسية؟ قد يرد المقيمون في الخارج قائلين إن مسؤوليتهم هي التي تدفعهم إلى الكلام، ما دام المصريون في الداخلين مكرهين على الصمت. ولكن المنفيّ واقع دائما في ورطة أخلاقية: فبدلا من أن يكون بنفسه عنصرا للتغيير الذي يرجو أن يراه، لا يكون بوسعه إلا تحريض الآخرين على إحداثه والمخاطرة بحياتهم في ثنايا ذلك.
استمر صنوع في إصدار جريدته على مدار ثلاثة عقود، محفزا الشعب بمختلف طبقاته الاجتماعية، من خلال قطط متفلسفة، وآباء هول باكين، ومجتمع عجيب من نسخه ضعاف النظر. ولم يتوقف عن النشر إلا حينما تجاوز السبعين، بطلب من أطباء العيون الباريسيين الذين دعوه إلى الحفاظ على البقية الباقية من نظره الكليل. لكن صنوع سرعان ما مات بعد ذلك، حزينا على بلده التي لم يتغير فيها أي شيء. ولكن بوسع المرء أن يتخيله اليوم حاضرا بطريقة أو بأخرى، مطلا من أعلى، عبر نظارته، على أحدث ما في مصر من اضطرابات، منتظرا الثورة القادمة.
· آنا ديلا سوبين كاتبة ومحررة في مجلة Bidoun.
· حسين عمر باحث في تاريخ الشرق الأوسط بجامعة أوكسفورد.
ذي نيويوركر في 6 يونيو 2016
عن مدونة أحمد الشافعي