الحلقة 14 من مقالة الدكتور محمد الحجيري عن والده "كان أبي، بين الحنين وصادق القول"
كانَتْ تَكْميلِيّةُ التَحويطَةْ الرسميّة للصِبيان، أو تَكْميلِيّةُ جورج قمر كما كانَ يَحْلو لِلْبَعْضِ آنذاك أنْ يُسَمِّيَها، على مقربةٍ من تقاطُعِ سكّةِ الحديدٍ مع طريقِ الشام، بَيْنَما كان بَيْتُنا في حيّ جسرِ الباشا في وسَطِ بُستانٍ ملاصقٍ لنهر بيروت، وعلى مقربةٍ من الجسر الأثري المنهار. وفي كلِّ يومٍ مِن أيّام الدراسةِ، كان عَلَيّ أن أقطعَ المسافةَ التي تفصلُ بيتي عن مدرستي ذهاباً وإياباً، وَمَشْياً على الأقدام، ولمدّة أربع سنوات متتالية. وقد عادلت تلك المسافة 5350 خطوة كنت قد أحصيتها عدة مرّات، إنّها بداية العام 1971حيثُ كنتُ في السنة الثالثة المتوسّطة. وكان والدي قد حصل على إجازته السنويّة وقرّر أن يلازمَ البيتَ ليرتاح قليلا من العمل الوظيفيّ في وزارة الصحة، لأنّه كان مُتعباً من الناحية الصحيّة، وقد بدأ يمقت تلك الوظيفة لأسباب إداريّة وتنظيميّة مختلفة. كنت شديد الحرص على أشيائي الخاصّة، ولكن، لسوء الحظّ في صبيحة ذلك اليوم استيقظتُ متأخّراً قليلاً، وخشيةَ الـتأخّرِ على بدءِ الدرس، أسرعتُ بالخروج من البيت، ونسيتُ دفتري الكبيرَ الذي اعتدْتُ أن أكتبَ عليهِ خواطري وملاحظاتي الخاصّة، كما أنّني كُنْتُ قد ضمّنْتُهُ بعضَ الأقاصيص الخياليّة التي كتبتُها عن مدرستي الأولى ومعلّمتي أندريه التي افتقدتها طويلاً ولا زلت، وعندما انتهى اليومُ الدراسيُّ وعُدْت الى البيت، بحثتُ عن دفتري فلم اجدْهُ، وسألتُ والدتي فقالت لي: إنّ أبي كان يتصفّحَهُ وربّما يكونُ عندَهُ في غرفتِهِ. فطرقتُ البابَ، فقال أبي: ادخلْ، ودخلتُ، فوضعَ الدفترَ الذي كان بين يديه، وقال لي: اجلس، فجلست بقربه. فقال: لقد قرأتُ أقاصيصَك الأربع المكتوبةَ هنا والتي تتناولُ بصورةٍ خرافيةٍ، وربّما الأصحّ أنْ يقالَ "تخريفيّة"، قُدراتي الروحيّةَ الخارقةَ التي جَعَلْتَني بواسطتها أتحكّم بالأرواح وأحيط بعلم الغيب،كما تتناول تلك أقاصيصُ الغِنَى الأسطوريَّ لمعلّمتك الّتي جَعَلْتَها مالِكَةً لمئات ملايين الدولارات، وذلك فضلاً عن حديثك عن قدراتك العلميّة التي لا يليق بك أن تتكلّم عنها حتى ولو كانَتْ صحيحةً، والذي لفتني في مكانٍ ما أنّك توردُ هذا البيت لزهير بن أبي سلمى: "وإنّ أشعر بيتٍ أنت قائلُه بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَه صدقا"، بعد أن حوّرتَهُ ولم تحترمْ الوزنَ في كتابَتِهِ، حيثُ كتبتَ: "إنّ أجمل بيتٍ أنت قائلُه بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَه صدقا"، وعلى الرُغْم من مضمونِ هذا البيت وموعظتِه، فقصصُك الأربع تفتقرُ إلى الصدقِ وحتّى إلى ما يُشبه الصدقَ. ولكن، لكي أقولَ الحقيقةَ كاملةً، ينبغي أن أضيفَ ما يلي: على الرغم من "التخريف" الكارثيّ الذي عاينتُه في قصصِك والذي لا يمتُّ بصلةٍ حتّى إلى ما يُسمّى بِ "أدب الخيال العلميّ، فإنّ سبك التعابير اللّغوية مقبولٌ، وثمّة أخطاءٌ نحويّةٌ بسيطةٌ ينبغي تلافيها.
أنا أعرف يا بني أنّك كنت متعلّقا بمعلّمتِك، وهذه الكتابةُ عن خوارقَ وهميةٍ ربّما تعكس نوعاً من التنفيث عن ألمٍ أو كآبةٍ عبرَ المخيّلة، وربّما تكوّنَت هذه الكآبة لديك من رواسبَ مرتبطةٍ بفترة الطفولة والمعاناة، لن يستطيعَ أحدٌ أنْ يساعدَك أكثرَ من نفسِك. عليك أن تُدركَ أنّ مرحلةَ الطفولةِ قد ولّت إلى غير رجعةٍ، وأنت من الآن وحتّى نهايةِ العمرِ مُلزَمٌ أنْ تواجهَ الواقعَ بالأساليبِ الملموسةِ الحسيّةِ، لأنّ المسائلَ الواقعيّةَ لا يُمكنُ أنْ تُحَلَّ بإطلاقِ العنان للمخيّلة وللأوهام. فخذْ دفترَك وأصلِحْ ما ينبغي إصلاحُه، والأهمُّ من ذلك هو أنْ تغيّرَ أسلوبَك الطفوليَّ في التعاطي مع العالمِ المحيطِ بك أكانَ حجرا أم بشراً، فالطريقُ طويلةٌ ومحفوفةٌ بالصِعابِ والكبواتِ والأخطاءِ الحقيقيةِ التي ينبغي اختزالُها إلى الحدّ الأدنى الممكن بواسطةِ الممارسةِ الفاعلةِ الملموسةِ والواقعيّة تحديداً، والخيال في هذه الحالةِ لا ينفع. لم أقُل شيئاً، خرجتُ من غرفة أبي وأخذت دفتري معي وجلستُ على كنبةٍ في صالون البيتِ مفكّرا في ما قاله أبي عن الخرافةِ والتخريف، وانتهاء مرحلة الطفولة، والجنوح إلى التنفيث عن النفس، عبر الخيال والخوارق الوهمية. ونهضتُ بسرعة وخرجت من البيت، جرياً على الدرج، وطرقت باب الجيران المقيمين في الطابق الأرضي، فُتح البابُ فإذا به فارس، فقلت له: مرحبا، فردّ: مرحبا، تفضّل بالدخول، فقلت: لا أنا مشغول، قلْ لي هل ما زلت تريد شراء مجلدات "سوبرمان"؟ فقال نعم، فقلتُ: سوف أبيعُ مجموعتي المؤلَّفةَ من 30 مجلّداً بتسعين ليرة، فتشاور مع والدتك وأخبرني. فقالت أمُّه من الداخل: تفضّل يا محمد، فقلت: مرحبا سيدة أم فارس، أودّ أن أبيعَ بعضَ القصصِ التي يبحث عنها فارس، وسأبيعها بتسعين ليرة أي بأرخص ممّا أشتريتُها بخمس عشرة ليرة، فلا أدري إذا كنت موافقةً على الأمر؟ فطلبت منّي أن أُحضرَ المجموعةَ، فأحضرتها بسرعة. أخذَتْها منّي وتفقّدتها بسرعة مجلداً تلو الآخر. وقالت حالتُها جيّدة، وأخرجت من حقيبة يدها مئة ليرة وأعطتني إيّاها، فوجدت معي عشر ليرات أعطيتها إياها. ولم أشترِ عقِبَ ذلك لا مجلات "سوبرمان" ولا مجلات الفتى الجبّار. أمّا القصصُ الأربع التي قرأها والدي وسمّاها قصص التخريف الطفوليّ، فقد أصلحت بعضَ الأخطاء فيها ولم أغيّر شيئا في مضمونها، تركتها على حالها وضمّنتها ما كتبته كمثالٍ حيٍّ عمّا يحلُمُ به طفلٌ أحبَّ والدَه الفقيرَ البائسَ فجعله في حكايته خيرَ الخليقة وأكثرها علماً وشهامةً وإنسانيةً وبُعدَ نظرٍ؛ وأحبَّ معلّمتَه التي أهتمت بأمره فجعلها في حكايته أجملَ النساء وأطهرَهن وأكثرهن ثراءً.
لقد كانت فترةُ دراستي الإعداديّة هي الفاصلَ الحقيقيَّ الحاسمَ بين طفولةٍ هزيلةٍ ربّما لم أعِشْها كما يجب، ولكنّها كانت ملأى بالأحلام والأوهام والغيلان والأرواح والجبابرة والـمُثل الخيالية وبين مراهقةٍ مرّت سريعاً وكانت مجبولةً بالهموم والقلقِ من المستقبلِ الذي ما كان يبدو مبشرا بالخير. كثيرا. ففي الفترة اللاحقةِ مرِضَ والدي مرضاً شديداً يُشبهُ مرضُ الشقيقة وتوقّف عن العمل لمدّة عامٍ كامل مما اضطرني أن أعملَ خلال الفرص المدرسيّة كما اضطّر أخي الأصغرَ أن يَتركَ المدرسة نهائيّاً بهدف مساعدة والدي في كسب لقمة العيش. يردّني الحنين أحيانا إلى ذلك الزمن البعيد ولكنني لم التقِ من زملائي ولا من أساتذتي الذين عرفتهم في تكميلية جورج قمر أحداً بعد نيلي الشهادة الإعدادية سنة 1972. غير أنّني خلال تدريسي مادّة المنطق في قسم الفلسفة في كليّة الآداب في طرابلس سنة 1991 تعرّفتُ على دكتور زميل لي اسمه ريمون عيش كان يأتي من بيروت ليدرّس يومين في الأسبوع في القسم. وكنت أقيم في شقّة استأجرتها في منطقة القبّة. فسألني عن إمكانية المبيت عندي إذا لزم الأمر فقلت له: أهلا وسهلا. واستقبلتُه في ذلك اليوم وطلبتُ من السيّدة التي كانت تهتمُ بتنظيف شقّتي وبإعداد طعامي أن تأخذَ بعين الاعتبار وجودَ ضيف عندي. أعدّت لنا السيّدةُ الطعامَ وتناولنا العشاء وتبادلنا أطراف الحديث، فسألني: أين درستَ؛ فقلت له: في المرحلة الابتدائية غيّرت أربع مدارس في بيروت، ونلت الشهادة الابتدائة في مدرسة تقع في حيّ اللّيلكي، كان مديرها يدعى مقداد المقداد، أما المرحلة الإعداديّة فامضيتها في تكميليّة التحويطة، وقد نلت فيها شهادتي الإعداديّة. وأمضيت المرحلة الثانوية في ثانوية فرن الشباك (سنة أولى) ومن ثمّ ثانوية رأس بعلبك(السنتان الثانية والثالثة) حيث نلت الثانوية العامّة. فسألني: من علّمك اللّغة الفرنسية في تكميليّة التحويطة في السنة الثانية فقلت له: أعتقد أنّها آنسة تُدعى عفاف ولكن لا أذكر عائلتها. فقال لي: إنّها أختي. دعاني الرجل بعد ذلك إلى منزله في بيروت فقبلت الدعوة إذ شدّني الحنين إلى ذلك، على أمل لقاء السيّدة عفاف. للأسف كانت السيّدة المذكورة قد سافرت هي وزوجها. منذ سنوات شاهدت فيلما عن الخيال العلميّ لأنجيلينا جولي حيث استطاعت بوسيلة ما التواصل مع أبيها المتوفى الذي بدا وفق الفيلم يعيش في عالمٍ فيه شمسان وليس سبع شموس فتذكّرت قصّتي الخياليّة عن الطفل المفقود يوسف الذي يعيش في عالم فيه سبع شموس والذي استطاع التواصل من أخته بواسطة أبي. إنه خيال محض وربما هو "تخريف" محض ولكنّ هذا ال "تخريف" المحض كافٍ لتحريك العواطف وذكريات الماضي السحيق والطفولة والحنين. فسلام لك منّي يا معلّمتي الحنونة أندريه يا معلّمتي التي أردتها أغنى وأجمل السيّدات. وسلام لك مني يا والدي الذي أردته أشرف وأذكى وأعلم وأقدس بني البشر.
التصنيÙ:
الدكتور محمد الحجيري