الدكتور محمد الحجيري: مدرستي الأولى بين الارستقراطية وعاطفة الحبّ التي تتحدّي البعد الزمني 10

alrumi.com
By -
0

الحلقة العاشرة من مقالة الدكتور محمد الحجيري "كان أبي بين الحنين وصادق القول"

منذ وصولنا إلى بيروت وحتّى قبل ذلك، كان الهمُّ الأوّلُ والأكبرُ الذي لم يفارق بال والدي هو أن يجدَ لأخي عمر ولي مدرسةً مناسبةً تضمّنا إلى تلامذتها. وكان أخي عمر يصغرُني بحوالى سنة ونصف. ولدى تقصّى والدي إحداثيات المدارس الابتدائية في محيط سكننا الجغرافيّ في القلعة، وجد خياره الأول، ذلك أنّ أقربَ تلك المدارس هي مدرسةٌ خاصّةٌ تقع في شمالي غربيّ حرج تابت، على الطريق التي تصل ما بين القلعة ومنطقة سن الفيل. وكانت تلك الطريق تفصل ما بين حرج تابت من جهة الشرق وبساتين الليمون من جهة الغرب حيث امتدّت تلك البساتين حتّى نهر بيروت. وكان أبي عند تفحّصه المنطقةَ قد لاحظ مرور بعض تلامذة  المدارس على تلك الطريق مشياً على الأقدام، وهم يحملون حقائبهم المدرسية، كما لاحظ أيضا ندرةَ عبور السيارات لتلك الطريق التي بدت للمراقب طريقاً شبه زراعية بكلّ المعايير. أمّا الخيار الثاني فهي مدرسة جسر الباشا الرسميّة  التي كانت تقع شرقيّ حرج تابت في القسم المتاخم لمستديرة المكلس من حيّ جسر الباشا؛ وكان الوصول إلى هذه المدرسة يتطلّب اجتيازَ الجادّة الواصلة ما بين سنّ الفيل وفرن الشباك، وهي طريق سريعة وبدون ممرّات مقوننة للمشاة، ممّا يجعل الأمر صعباً وخطيراً بالنسبة إلى طفلين. وازن والدي ما بين الخيارين، فوجد أنّ الخيار الأوّل أنسبُ وأفضلُ إذا ما كانت الاقساط المدرسية في متناول اليد. 

كان صاحب تلك المدرسة ومديرها أستاذاً ذائع الصيت يُدعى جوزيف شهوان. ولقد رأيت الأستاذ جوزيف غداة الموعد الذي أخذه والدي بواسطة سكرتيرة المدير في المدرسة، وكان الرجل لطيف المحيّا، ممتلئ الخدود، حليق الذقن، متوسط القامة، ثاقب النظر، يضع في خنصر يده اليُمنى خاتما ذهبيّا مُلفتاً وكبير الحجم، فيه حجرٌ أسودُ لامعٌ.. 


كان الأستاذ جوزيف، لدى تشاوره مع السكرتيرة عبر الهاتف، قد اقترح على والدي أن يستقبله قبل بدء ساعات التعليم، باكرا في صبيحة اليوم اللاحِق، ربّما راهن في ذلك على إلحاقي بزملائي التلامذة مباشرةً ومنذ الصباح. وفي ذلك اليوم ايقظتني أمّي باكراً وغسلت وجهي وأطعمتني وألبستني بذتي ومشطت شعري. وانطلقتُ بمعيّة أبي، فبلغنا المدرسة قبل الموعد المضروب بخمس دقائق. وكان المعروف عن أبي أنّه يحترم المواعيد ولا يخلّ بوعده إلا مكرهاً. رافقنا ناطور المبنى إلى حيث الإدارة. وها هو الأستاذ جوزيف يستقبلنا في مكتبه  الرحب الواقع في الدور الثالث من المبنى بابتسامة عريضة قائلا أهلا وسهلا بالسيد يوسف، تفضّل بالجلوس، فشكره والدي وجلس على كرسيٍّ متاخم لطاولة المكتب الواسع. ومن ثم التفت نحوي حيث كنت واقفاً إلى جوار والدي، وقال أهلاً بالشاب الصغير؟ ما اسمك يا شاطر؟ فأجبته، شكراً لك على الترحيب، اسمي محمد. فنظر ببعض الدهشة وقال من أين تعلمت كلمة ترحيب، فقلت من والدي. فهزّ برأسه، وسألني أنت في أي صفّ فقلت، كنت في الصفّ الأوّل التمهيدي (للصغار) ولكنني لم أنهه بسبب تركنا بلدتَنا ومجيئنا إلى بيروت. في هذه الأثناء دخلت سيدةٌ تحمل ركوةَ قهوة، فوضعت فنجانا أمام والدي وسكبت فيه القهوة وسألت والدي إذا كان يرغب بإضافة بعض السكر فشكرها قائلا لا، انا احتسي القهوة بدون سكر. ومن ثم سكبت القهوة للأستاذ جوزيف وهُمّت بالمغادرة، فبادرها المدير بالقول: فلتصعد الآنسة أندرية إلى مكتبي فور مجيئها. وتابع الأستاذ جوزيف أسئلتَه، فقال: هل تُحسن القراءة؟ فقلت إذا كانت الكتابه مطبوعة في كتاب فنعم! فابتسم وطلب منّي أن أقترب منه، ففعلت ففتح صحيفة من درج مكتبه وقال لي هل تستطيع قراءة هذه العبارة، فقرأت بعد ثوانٍ من التهجئة الخافتة: "بعد عامين من ولايته، أي في العام 1960، وإثر إجراء الانتخابات النيابية في حزيران من ذلك العام، رأى الرئيس فؤاد شهاب أنّ الأوضاع قد استقرت وأنّ الحياة الديموقراطية الطبيعية قد عادت إلى الوطن، فقدّم استقالته". وفي هذه الأثناء كان قد وضع كفّه على رأسي وكأنّه يتحسّس حجم جمجمتي، ثم ترك رأسي وعدت أدراجي إلى جانب والدي؛ فقال برافو وسألني، هل تحسن الحساب الذهني؟ لا أعرف ماذا يعني الحساب الذهني! فقال ان تحسب دون استعمال القلم والدفتر. فقلت نعم سأحاول فقال لي: "أتى سميرٌ وقال لسامي معي ضعفا ما معك من القِطَعِ النقديّة فقال له سامي ولكن إذا ما وضعنا ستَ قِطَعٍ ممّا معك جانباً فسيصبح ما معي ضِعْفَي ما معك. كم كان مع كلٍّ منهما". فقلت له بعد ثوانٍ معدودة: كان مع سمير ثماني قِطَعٍ ومع سامي اربع. فقال لي ولكن كيف فعلت لتصلَ إلى النتيجة. فخطر على بالي قولٌ كان أبي غالباً ما يكرّرة عندما يُسْأل "كيف عرفت؟"، فقلت له لقد عرفت يا سيّدي ولكن لا أعرف كيف عرفت. فابتسم وأعمل تفكيره قليلا وقال لي: هل تعرف ما هو الشِعر، فقلت نعم إنّه كلامٌ مرتّبٌ في نسقٍ محدّدٍ يجعله جذّاباً للسامعين؛ فقال برافو، وهل تعرف بيتا ًما من الشعر؟ فقلت نعم أعرف هذا البيت: إنّ أجملَ بيتٍ أنت قائلُه، بيتٌ، يُقالُ إذا أنشدته صدقا"، فنظر الأستاذ إليّ وقال لي هل تعرف غيره؟ فقلت "إنّ النساء شياطينٌ خُلِقن لنا، نعوذ بالله من شرّ الشياطين" في هذه اللّحظة طُرق الباب ودخلت الآنسة أندريه ملقيةً التحية فبادرها الأستاذ  جوزيف: اسمعي ماذا يقول هذا الشاب الصغير عن النساء وليس نثراً بل شعراً. وطلب منّي أن أكرّر ما قلته، ونظرت إلى أبي لأجد على وجهه بعض الإحراج، ونظرت إلى تلك الآنسة الجميلة، بشعرها الطويل الفحمي، وعينيها النقيتين السوداوين اللتين رمقتاني بمنتهى العطف الذي لم يخفَ على غريزتي الطفولية اليقظة، فقلت: "النساء رياحينٌ خُلِقْن لنا وكلّنا يُحبّ شمّ الرياحين" فانفرجت أساريرُ أبي، ونظرت اليّ المعلّمة أندرية بغبطة، ودُهش الأستاذ جوزيف الذي سكت بضع ثوانٍ، ثم قال لي برافو برافو لقد أصلحت ذات البين مع الجنس اللّطيف يا محمد. وتكلّم مع الآنسة أندرية بالفرنسية، وفهمت بصعوبة أنّه قد طلب منها ضمّي إلى صفّها واصطحابي مباشرةً إلى الدرس. فاقتربت منّي وأمسكت يدي اليُسرى بلطفٍ وقالت هيّا بنا. قال لي أبي سآتي لأصطحبك عند انتهاء الدروس، وأعطاني ليرة لاشتري طعاماً عند الظهيرة. لا أدري على ماذا اتفق أبي والأستاذ جوزيف، ولكنني علمت لاحقا أنّ الأستاذ جوزيف قد خفّض قيمة قسطي المدرسي إلى الربع وقيمة قسط أخي عمر إلى النصف. دخلت إلى الصفِّ بمعيّة الآنسة أندرية التي طلبت من العمّ سمعان (أمين المخزن والمسؤول الفني عن المدرسة) أن يُحضر من المخزن طاولةً وكرسيّاً. لقد لاحظت دهشة الطلاب في الصف عندما رأوني، لا أدري ما هو سبب ذلك، ربّما كان لباسي شبه الرسمي أو شيء آخر. قالت المعلّمة  أندريه "بونجور" فردّ الجميع بصوت واحد "بونجور ديموازيل"، فقالت لهم هذا الشاب اسمه محمد وهو زميل جديد لكم فالقوا التحية عليه. فقالوا كلهم وبصوت واحد "بونجور محمد" فأجبتهم أنا "بونجور يا أصدقائي". كان عديد التلامذة في الصف اربعة عشر تلميذاً بينهم ست فتيات. والآن بعد ضمّي، أصبح العديد خمسةَ عشر تلميذا. 

كان موضوع الدرس مزيجاً من اللغة الفرنسية والحساب، لم أجد صعوبة في الفهم ولكنّ ثمّة كلماتٍ باللغة الفرنسية كانت جديدةً عليّ، لأنّ والدي كان يعلّمني الحسابَ باللّغة العربية. أعطتني الأنسةُ أندريه دفتراً وقلماً  لكي أكتبَ ما تشرحُه على اللوح. وفي آخر الحصّة الثانية أعطتنا فرضا في الحساب فكنت أنسخُ الـمُعطَى والمطلوبَ عن اللوح وأكتبُ الأجوبةَ مباشرةً. وعندما دقّقت بما كَتَبَهُ زملائي ووصل دوري اعملت تفكيرها قليلا واخذت الدفتر وقالت لزملائي: اخرجوا إلى قاعة الطعام بهدوء مستبقيةً إيّاي. وسألتني هل انت جائع، فقلت ليس كثيراً، فقالت: أنتظرني هنا سأعود بعد قليل، بعد قليل من الوقت عادت ومعها دفتري وكيسٌ ورقي، فوضعت الدفتر على الطاولة قائلةً هيّا بنا لنغسل أيدينا، ودلّتني على مرحاض الذكور وعند مروري فوجئت بصالة واسعة حيث جلس زملائي خلف موائد الطعام التي كانت عامرة بما لذ وطاب ومن حولهم مجموع من الراشدين الذين يخدمونهم؛ غسلت يديّ وعدت، فوجدت المعلمّة قد سبقتني. جلست قربي وفتحت الكيس وأخذت منه شطيرتين وأعطتني واحدةً فتردّدت في أخذها وقلت لها: آنستي أشكرك فانا أحمل نقوداً، وسأشتري طعاماً، ومن غير اللائق أن التهم طعامك، فقالت لي: سوف نتناول الغداء سويّةً، فلدي ما يكفينا معاً، وسأكون مسرورةً إذا شاركتني طعامي، وبالتأكيد سأكون غير مسرورةٍ إذا لم تفعل. فقلت لها، شكرا آنستي، وأخذت الشطيرة التي كانت تحتوي على قِطَعٍ من الجبنة التي أحبُّها. ورحنا نراقب بعضنا البعض ونتبادل الابتسامات. بعد انتهائنا من الشطيرة أخرجت من الكيس تفاحتين متساويتين في الحجم، وقارورتين صغيرتين من المرطبات... أنهينا غداءنا. وبادرتها بسؤالي: هل يوجد مطعم في المدرسة، فقالت لا ولكن أهالي بعض التلامذة يرسلون الطعام بواسطة خدمهم الخاص إلى أبنائهم، فقلت هذا بعني أنّ أهلي غير ملزمين بفعل ذلك؟ فقالت: غير ملزمين. وتابعت: قُلْ لي كيف تعلّمت الحساب، قأجبتها، كان أبي يعلّمني، لقد درس علم الحساب والجبر والمقابلة في كتب أبي كامل وبهاء الدين العامليّ... ومن هما أبو كامل والعامليّ: فقلت هما عالمان في الرياضيات عاشا منذ زمن بعيد، أحدهما وُلد في جنوب لبنان في منطقة تُسمّى جبل عامل. هل تريدين أن أقرأ لك مقطعاً من كتاب أبي كامل الذي اسمه شجاع بن أسلم؟ فقالت نعم. فقرأت لها عن ظهر قلب: "فإن قيل: كم، عشرةُ دراهمَ إلاّ شيئاً، في، عشرةِ دراهمَ إلاّ شيئاً؟ فَقُل: مائةُ درهمٍ ومالٌ إلاّ عشرين شيئاً. وبابُه أن تضرِبَ عشرةَ دراهمَ في عشرةِ دراهمَ فيكون مائةَ درهمٍ. ثم تضرِب شيئاً ناقصاً في عشرةِ دراهمَ فيكون عشرةَ أشياءَ ناقصةٍ. ثم تضرِب شيئاً ناقصاً في عشرةِ دراهمَ أيضاً فيكون عشرةَ أشياءَ ناقصةٍ. ثم تضرب شيئاً ناقصاً في شيءٍ ناقصٍ فيكون مالاً زائداً. فتجمع ذلك كلَّه فيكون مائَةَ درهمٍ ومالاً إلاّ عشرين شيئاً". فدُهِشَت، وقالت وماذا يعني الشيءُ والمالُ، فقلت: الشيءُ يعني المجهولَ العدديَّ والمالُ يعني مربّعَ الشيءِ. فأعملت تفكيرها بما ذكرتُ لها ونظرت إليّ بعطفٍ شديدٍ، ولم تتمالك نفسَها فضمّتني إلى صدرها بقوّة كما تضمّني والدتي، فسمعت دقّات قلبها وتنشّقت عطرها عن قرب دون أدري لماذا تفعل ذلك...

(*) باحث في الجامعة اللبنانية، كلية الهندسة الفرع الاول له عدة مؤلفات منشورة وغير منشورة. 

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)