يؤخذ على كتاب "تارخ بيروت" لسمير قصير الصادر بالعربية عن "دار النهار" انه لم يأت على ذكر مطعم "فيصل" ومقهاه الذي كان في شارع بلس قبالة الجامعة الاميركية، والذي لطالما كتب عنه الشبان وحتى الجيل القديم، متأسفين لأنه تحول من مقهى يلتقي في أروقته اقطاب الشعر والثقافة والسياسة، الى مطعم للوجبات السريعة، وهو مثل مقهى "الدولتشي فيتا" الذي كان له شأن كبير في السياسة والثقافة في بيروت والعالم العربي. وعندما هاجم الرئيس عبد الناصر مقهى "الدولتشي فيتا" هذا، في احدى خطبه النارية، كان على الملك فيصل ان ينسب الى المقهى الذي يحمل اسم ملك سوريا بعضا من افعال العنف، وخصوصا ان بعض رواده هم من قادة العنف الثوري الفلسطيني الذي تخرجوا من الجامعة الاميركية في بيروت.
هكذا كان المقهى في بيروت يشغل بال الأنظمة بل يحرّك المياه الراكدة في المستنقع العربي، وأحيانا يكون المقهى وكراً لانطلاقة انقلابات سياسية في بعض البلدان العربية. من هنا نظرت بعض الانظمة الى لبنان في اعتباره خاصرة رخوة تبعث القلق ولا تدعو الى الاطمئنان. لكن لا شيء يبقى على حاله في بيروت، سواء المقاهي او وجهاء الثقافة. لا أعتقد مثلاً أن الجيل الجديد يعرف أين كان مقهى "الدولتشي فيتا"، ولا يهمّ فئة اخرى ان تعرف أسرار مطعم "فيصل"، بل تجد زهو المدينة في صورتها الجديدة المتغيرة الملتحقة بالعولمة ووسائل الاستهلاك. ربط الصحافي زهير هواري، في تحقيق نشره قبل أعوام، بين ذاكرة مطعم "فيصل" وإقفال مقهى "المودكا" في الحمراء، واستبداله بمتجر للألبسة. لم يكن "الويمبي" أقفل آنذاك، وقد حصل هذا قبل ان يصبح رصيفه تحت مراقبة الميليشيات. كتب هواري أن "موضوع المودكا الذي وصفه كثيرون بأنه حلقة في سلسلة المؤامرات السياسية ـ الثقافية التي تستهدف المدينة، يعبّر في الجانب الفعلي منه عن موت المدينة لصالح السوق. من المتعذر مقارنة "المودكا" مع مطعم "فيصل" أو "الهورس شو" أو "الدولتشي فيتا"...". الاستهلاك كما نعلم، نهش معظم الرموز الثقافية في المدينة والتي باتت مثل صروح للحنين، وبدت بيروت في مظلة المطاعم ودخان النراجيل أشبه بـ"معدة كبيرة" على حد وصف احدهم، او هي تسعى الى تقليد كل شيء في العالم، او أن كل شيء له تردداته في هذه المدينة، من مسلسل "باب الحارة" الى كرة القدم والبرنامج النووي الايراني وطلاسم ما بعد الحداثة والبوب – آرت.
مقهى "فيصل" صورة مصغّرة عن واقع بيروت "العربية" التي نهلت من الغرب طيف الحداثة. كان الرواد الدائمون للمقهى أساتذة وطلاباً في الجامعة وبعض المشتغلين بالسياسة، من قوميين عرب وبعثيين وقوميين سوريين وغيرهم، وكان مخصصاً للأكل والجلوس والسجال في السياسة والفكر والثقافة. اليوم، يأتي ذكر "فيصل" من باب النوستالجيا، وغداً يُكتب عن "مكتبة رأس بيروت" كمكان يضج بالذكريات وحوادث الزمن. انتهى "فيصل" الى ان يكون "ماكدونالدز"، اي ان شبح العولمة سيطر على طيف "الذاكرة الثقافية"، وانتهت "مكتبة رأس بيروت" وليس غريبا أن تنتهي، وستشيّد مكانها عمارة حديثة تلفظ الذكريات من حولها، فتشغل العقل بأسعار شققها، اكثر مما تشغله الرواية بحبكتها، وشبح العقارات ليس ببعيد عن شبح العولمة والسوق والتجارة والربح السريع. على رغم التشكي واللوم، يسارع الناس الى البحث عن شقق وإن تكن على حساب جمالية المدينة او على حساب الواجهة البحرية لبيروت أو الاحياء التراثية التي أصبحت في خبر كان.
في لحظة "قتل" "مكتبة رأس بيروت" قرأنا مقالات كثيرة ينتهي مفعولها وتصبح جزءا من ارشيف شارع بلس الذي طالما اصابته التحولات، كما رأس بيروت، كما بيروت نفسها. سنقرأ اسم المكتبة في مذكرات الكتّاب والشعراء كما قرأنا عن "الهورس شو" و"المودكا" و"الويمبي" وزمن الستينات وبيروت وما قبل الحرب، والحركة الطالبية و"الجمهورية الأولى" و"مجلة شعر" ورواد المسرح ومقاهي الارصفة. انه الحنين العابق في الأنفاس واوردة الدم. الحنين في الديار اللبنانية والعربية أصبح مفهوما وشعراً وغناء، يبدأ من الاندلس ولا ينتهي ببيروت "عاصمة عالمية للكتاب 2009"، وأول من استخدم مفهوم الحنين في الثقافة الغربية كان الطبيب جوهانس هوفر، وقد تطور هذا المفهوم مع تطور الفكر القومي الغربي ونشأة الأمم، وبات ثقافة من الثقافات او جنسا أدبياً اذ جاز التعبير. الحنين ليس صورة بـ"الأبيض والأسود" فحسب، إنه اشكالية تسيطر على الواقع في العالم العربي واللبناني. وإذا كان كلمة جميلة، إلا أنه يدل في الثقافة الجماعية على حاضر مأزوم وكارثي، إذ يُستحضر الماضي بسبب أزمة الحاضر. ثمة مقولة للروائي التشيكي ميلان كونديرا يقول فيها: الاعمال الخالدة ليست المدهشة بل هي التي يعاودك الحنين للعودة اليها دائما". في هذه العبارة قدر كبير من الواقعية في المعيش اليومي اللبناني، فالكثير من سائقي سيارات الأجرة يحنّون الى زمن الرئيس كميل شمعون و"البحبوحة"، والكثير من بقايا اليسار يحنّون الى زمن الثورة البلشفية، بل ان الكثير من القتلة في الحرب الأهلية يحنّون الى البندقية والقنص، وتعود ذاكراتهم دائما الى اناشيد حزبية تحرّض على القتل وهتك اعراض الآخرين.
يعيش ابناء الجمهورية اللبنانية حنيناً بالجملة، وبوجوه كثيرة، وخصوصاً الحنين الى ماضي بيروت العريق. الأرجح ان حمّى هذا الحنين المتنامي هو شعور من اللبنانيين وغيرهم بالإثم والذنب تجاه ما فعلوه بهذه المدينة، بل شعور بالخطيئة يشبه شعور آدم الذي طُرد من الجنة بعد تناوله الثمرة المحرمة او ثمرة المعرفة، بل انه "الشعور الكافكوي" تجاه الأب ورمزيته وسلطانه.
لا شك في ان ثمة إفراطا في الحنين الى ثقافة الماضي في بيروت الخمسينات والستينات، وخصوصا في خضم اختيار هذه المدينة عاصمة عالمية للكتاب، على رغم ان سنوات ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية كانت زاخرة ثقافيا بالمهرجانات والاصدارات والمجلات والنشاطات الثقافية والدواوين الشعرية والروايات، وهذا ما لاحظه الباحث أحمد بيضون في كتابه "معاني المباني". ولما كانت فئة من اللبنانيين تعيش على الذكريات وتميل الى تحنيط ثقافة الستينات وتأبيد "رموزها"، ولما كانت فئة أخرى تميل الى التسطيح والركاكة وتشبه بذلك الوجبات السريعة، يحضر السؤال لماذا يتم "تقديس" كل ما قدّمه كتّاب الخمسينات والستينيات؟ ولماذا تعامَل بعض النصوص الحديثة والراهنة كما لو انها إنتاج ابناء الجواري؟ يحتاج الجواب الى دراسة معمقة لأن تلك الثقافة هي ثقافة الرموز بامتياز، من ماريلين مونرو الى تشي غيفارا والموضة وجون كينيدي والهيبب وأيار 1968. وهي وإن انتجت رموزا وعباقرة إلاّ أنها اخذت اكثر من حقها في النقد والكتابات.
ثمة من يقول ويردد ان الحنين الى الماضي يتضخم عند المزيد من الخيبات والأزمات والفراغ. ربما يكون جوهر تضخم الحنين الثقافي اللبناني بسبب الحرب الاهلية التي شكلت جداراً عاليا او شرخا بين اجيال اللبنانيين. ومهما علا الشأن الثقافي في الربوع اللبنانية بعد الحرب يبقى جرح هذه الحرب اكبر من قدرة الثقافة على تضميده ومداواته، ويأتي الانقسام السياسي الجديد ليثخن الجراح ويستولد العنف الذي نشهد انعكاساته في ثقافة الشتم والتخوين التي يسميها بعضهم سجالاً. في الانقسام السياسي الراهن شيء من حنين مضمر، وشيء من شكوى سياسية، وحنين بعض الفئات الى الجمهورية الأولى، وحنين فئات اخرى الى استعادة لعبة الخنادق والمتاريس.
سؤال الحداثة
السؤال الذي ينبغي طرحه في اطار بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009، ليس في النوستالجيا الى ماضي هذه المدينة، بل يتعلق بحداثتها! لماذا بيروت دون غيرها من المدن هي التي اضحت عنوان الحداثة العربية؟ سؤال كان محور كتاب "تاريخ بيروت" لسمير قصير، وهو محور الثقافة على نحو عام. طبعاً السؤال الرئيسي يستدرج سلسلة طويلة من الأسئلة، التي ترك سمير قصير لصفحات كتابه والتطورات أن تجيب عنها من تلقاء نفسها. ويختصر بالقول: "في إمكان بيروت أن تعرف خلال هذين القرنين وأن ترسم إطاراً لتاريخها، ولنجرؤ على الادلاء بهذا التعريف المتسم بأكبر قدر ممكن من الاختزال. لنقل إن أهمية بيروت المبدئية هي أنها بالنسبة الى المؤرخ حاضرة عربية متوسطية ذات طابع غربي".
يتحدث سمير قصير عن فرصة تاريخية، يقول: "لا شك في أن بيروت تدين لابراهيم باشا بهذه الاندفاعة التي جاءت في حينه، وكأن قدراً عجيباً أدار عقارب الزمن. تحتضن بيروت بدايات النهضة العربيّة. فالمشرق الذي انفتح على التجارة العالميّة انفتح أيضاً على الأفكار الحديثة التي شرعت تنقلها مدارس الإرساليّات الأجنبيّة، والمدارس المحليّة التي سرعان ما أسّست. التعدّديّة تأسيسيّة منذ البداية، يرمز إليها وجود جامعتين، الجامعة الأميركيّة في بيروت، وجامعة القدّيس يوسف. ونجمت عن ذلك منافسة ثقافيّة إيجابيّة، عبّرت عن نفسها أكثر فأكثر باللغة العربيّة وبفضل المعلّم بطرس البستاني، واليازجيين الأب والإبن، وأحمد فارس الشدياق، ويوسف الأثير، ومحمّد أرسلان وسواهم، ففرضت بيروت نفسها مهداً للآداب العربيّة، والقوميّة العربيّة التي تبعتها".
عند قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 وتحديد بيروت عاصمة له ضدّ إرادة وجهائها، بدأت فيها، مطلع الثلاثينات، نهضة ثانية، من أبرز روّادها أمين الريحاني، إيليّا أبو ماضي، الياس أبو شبكة، مارون عبّود وسواهم. وبقيَت بيروت تؤكّد هويّتها العربيّة من خلال تضامنها مع القضايا العربيّة، والمقاطعة العربيّة لمرفأ حيفا أمّنت نجاح مرفئها، وبلاد الخليج العربيّ سمحت بتأسيس ثرواتها الكبيرة، ورأسمالها تغذّى من أموال النفط. وتشارك عرب ولبنانيّون لجعل بيروت عاصمة للآداب العربيّة. في بيروت، أقام يوسف الخال ونشر مجلّتي "شعر" وأصدر ألبر أديب "الأديب" وسهيل ادريس "الآداب"، وأقام نزار قبّاني، ومحمود درويش ومحمد الماغوط وسعدي يوسف وجان دمو، وشكلت "الندوة اللبنانية" فرصة لعرض اهم الافكار النخبوية، وعرف النشر ازدهاراً لا سابقة له. لكن بيروت التي قطفت ثمار الحداثة العربية العرجاء، تركت ميشال سورا المستعرب المناضل الداعم للقضية الفلسطينية، يُقتل بلا رحمة في أحد معتقلات "حزب الله"، من دون ان ننسى الاغتيالات التي قتلت الكثيرين من كل الفئات ومنهم سمير قصير نفسه.
بيروت الحداثة التي كانت تقلق جيرانها تبدو الآن قلقة على دورها. قال الرئيس فؤاد السنيورة عندما كان وزيراً للمال: "قبل الحرب كان لبنان عبارة عن مخزن كبير (سوبر ماركت) وسط صحراء قاحلة وإذا به بعد الحرب حانوت وسط غابة مخازن"، في إحالة على الدور الذي كان لبنان يتمتع به في زمن البحبوحة، عندما كانت الدولة تقرض أموالاً للخارج والموازنة تسجل فائضاً، مقارنة مع ما آل إليه لبنان بعد الحرب إذ تدحرج إلى مرتبة تعيش على هامش الحياة والاقتصاد العالمي. ولا ينبغي فصل الاقتصاد عن الثقافة في الزمن الرديء، أو زمن النوستالجيا، فمدن مثل الدوحة ودبي باتت تقلق بيروت بمشاريعها الثقافية وإن يكن فيها شيء من شبح الاصطناع، فكيف لو قامت القاهرة بمشروعها الثقافي!!
السلالات النشرية
طبع الكتاب في بيروت يشبه بيروت نفسها، وثمة خوف من ان تفقد بيروت دورها في هذا المجال، وخصوصا ان طباعة الكتب لا تنفصل عن الاستهلاك! سؤال بيروت المطبعة بات مطروحا في السنوات الاخيرة مع بروز عواصم منافسة. يقول القيّمون ان بيروت لا تزال تستفيد من الرقابة السائدة في العالم العربي فيبقى لها هامش، انها تتسع للجميع، لكن هل ينضم طبع الكتاب الى فخّ الحنين؟!
حين كتب الباحث فرانك ميرمييه عن "المدينة والكتاب" بدأ بعبارة "مصر تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ". هذه المقولة الساذجة التي يوظفها ميرمييه لم تعد تليق الواضع القائم، ربما هي أيضا شكل من اشكال الحنين في النسيج الثقافي اللبناني، وتتكرر في التعليقات الصحافية بطريقة بائسة. ربما علينا أن نعيد قراءة هذه العبارة من واقع جديد وخصوصا بعد خراب بغداد وانتشار اللغة الركيكة في القاهرة. على أن تفوّق بيروت المفترض في حقل الثقافة على زميلاتها العربيات يعود في جزء كبير منه إلى استقبالها المنفيين العرب من فلسطين وسوريا، وكذلك إلى استقبالها الرساميل العربية بعد حملة التأميمات المصرية الناصرية. هذه الكثافة الثقافية، "العرب الفارون من القمع واللبنانيون الهاربون من الطوائف والقبائل"، المحصورة في أربعة مبان في شارع سوريا في منطقة الوسط التجاري قبل تدميره إبان الحرب الأهلية عام 1975 قادت في الضرورة إلى تحول المدينة بؤرة للخلق. ولما كانت بعض الأنظمة العربية تقمع الثقافة في بلادها فقد كانت ترسل الامدادات الى الكثير من دور النشر المهمة. وبسبب ذلك تمكنت بيروت من منافسة القاهرة "كمصرف اعتماد أدبي" وسلطة عليا للتكريس الأدبي، مع أنها كانت تنطلق من رأسمال أدبي ضئيل.
لم تتوقف بيروت حتى في أبشع فترات الحرب، عن لعب دورها الرائد كوسيط ثقافي، على الأقل في مجال الكتاب. فاستمرار الإنتاج النشري ونموّه خلال تلك السنوات الصعبة هما مؤشران الى أهمية بيروت كعاصمة العرب الثقافية. فلا يمكن أي مركز عربي للنشر أن ينافس بيروت فيه، ما عدا القاهرة. ويعود ذلك إلى عدد المطابع ودور النشر، وكذلك إلى دور الناشرين اللبنانيين في توجيه مختلف ميول سوق الكتاب العربي والذي يتحكمون به بواسطة شبكات التبادلات والتوزيع الكثيرة المنتشرة في العالم العربي انطلاقاً من العاصمة اللبنانية.
مسار طبع الكتاب في بيروت تتخلله مسارات احزاب وطوائف وسلالات وجماعات. نتحدث عن الطبع ونتتأمل كيف اصبحت بيروت سيرة لكتاب وفكرة لقصيدة وفيلم سينمائي او ذاكرة في تلفزيون. نقول ذلك ونسأل هل هذا من باب الرثاء والحنين الى زمن غابر ام تمجيد لحاضر قلق؟ كانت بيروت مصنع الكتاب فصارت مادته واسطورته ولغزه. فمن يراقب إصدارات الأعوام الأخيرة يلاحظ حمّى الكتب التي صدرت تحت عنوان بيروت، هذا عدا الكتب والأفلام والسينمائية والبرامج التلفزيونية التي تناولت حاضر هذه المدينة وماضيها، حتى يمكن القول ان هبوب الرواية اللبنانية بدأ مع توقف الحرب الأهلية فيها. فهل ما تقوله الرواية هو رثاء للمدينة أم حنين الى ماضيها ام احتفاء بها؟ الامر نفسه نلحظه لدى الكتّاب العراقيين اذ كتبوا روايات كثيرة عن بغداد بعد سقوط صدام حسين، كأن في ذلك علامة من علامات الخراب. بالطبع لكل كتاب مقام ولكل كاتب نظرته وهاجسه في قراءة واقع بيروت وزمنها ومكانها وحربها.
يوماً ما كتب الروائي توفيق يوسف عواد روايته "طواحين بيروت"، التي تحكي في بعض فصولها عن الحرب الأهلية اللبنانية. لم يكن عواد يعرف انه سيكون ضحية إثر سقوط قذيفة سورية على مبنى السفارة الإسبانية حيث كان مع صهره السفير وابنته. وفي رواية "بيروت 75" تنبأت غادة السمان من خلالها بالحرب والخراب قبل اندلاع الشرارة الاولى للانفجار الاهلي المقيت، بأشهر قليلة. الرواية عن بيروت تقرأ واقع المدينة وتحولاتها وازماتها، ففي ختامها حملت لافتة كتب عليها "مستشفى المجانين" ووضعتها على مدخل المدينة وانفجرت ضاحكة وكأن حالة هستيرية قد تلبّستها، وهي التي كانت قد تركت بلادها وأتت الى بيروت مملوءة بالاحلام. وبعد ربع قرن من كتابها هذا تقول غادة السمان في نهاية "سهرة تنكرية للموتى" الشيء نفسه بطريقة اخرى اذ ان بطلها فواز، المهاجر اللبناني، يغادر بيروت، بعد زيارة قصيرة، وهو غير متأكد من ان الحرب قد انتهت، او انها بدأت من جديد عشية الالفية الثالثة. ففواز "لم يعد يدري كيف يميز بين الحقيقة والكابوس، بعدما صارت الحقيقة كابوساً". بيروت الحنين "مدينة ملونة"، هكذا رآها حليم بركات، وهذه الألوان نجدها من خلال عيشنا في احيائها وحاراتها وشوارعها، وفي الكتب التي صدرت عنها، وخصوصا في السنوات الاخيرة، بدءا من "تاريخ بيروت" لسمير قصير، الى روايتي "بريتوس مدينة تحت الارض" و"بيروت مدينة العالم" لربيع جابر، و"بيروت 2002" لرينيه حايك، و"رواية بيروت" بالفرنسية لألكسندر نجار و"وداعا بيروت" لمي غصوب و"شتات بيروت" لجين سعيد مقدسي التي تؤرخ لتجربة العنف والدمار واللاإنسانية اليومية التي صنعت الحياة في بيروت زمن الحرب.
خاتمة
في الخاتمة، المرء، على زعم احدهم، إذا قرأ رواية لتولستوي يشعر بالحنين إلى روسيا القيصرية! وإذا شاهد مسلسلاً أندلسياً يشعر بالحنين إلى الأندلس الاسلامية او العربية! وإذا سمع أغنية بلوز يحنّ إلى نيوأورليانز الخمسينات! وإذا أنشدت فيروز "ردّني إلى بلادي" يشعر بغربةٍ ثقيلة كأنه لم يكن له وطنٌ البتة، واذا سمعها تغنّي "سنرجع يوما" فسيتذكر مفاتيح القدس العتيقة. واذ يحاول الكتابة عن احوال بيروت القديمة فسيجد بين سطور مقاله الكثير من الحنين المدقع بل الكثير من الشعور بالإثم، وسيقول مع نزار قباني ان بيروت عشتار وحقل لؤلؤ وميناء عشق وقصيدة ورد، لم يوجد قبلها وبعدها ومثلها شيء، او سيقول مع محمود إنها "تفاحة للبحر نأتي اليها"، ومع ادونيس: "انها جسد ولبانٌ ومسكٌ، فأرّخ هذا الزمان باسم هذا المكان". قبل ان يعود هذا الأخير ويشبهها بـ"مجموعة احياء كمثل صناديق بطبقات مظلمة ومغلقة"، وان محصلة مشكلات المدينة هي "حروب خفية او معلنة"، وان بيروت "لا حاضر لها غير تقليد الغرب". بل ان هجاء المدينة ومديحها، شكل من اشكال الحنين الى الفردوس الأرضي، وبحسب مارسيا الياد تتلخص أطروحة الحنين الى الفردوس في انها استمرار للأصل الديني لفكرة الجنة، ولآدم المطرود منها. تالياً فإن استحضار الماضي هو نوع من العودة الى الفردوس المتوهم. الحنين في العالم العربي حمّى أبدية لكل شيء.
وعندما كتب روبرت فيسك كتابه "ويلات وطن"، قال ان سبب اليأس من بيروت هو قدرتها على التكيف، وان مأساتها تكمن في القدرة على البقاء وعلى التجدد الدائم. وعندما كتب المؤرخ كمال الصليبي عن ثلاثية ربيع جابر "بيروت مدينة العالم" قال "انه يتعامل مع الزمن كأنه جزء لا يتجزأ من مادة الكون الخاضعة لمبدأ لافوازييه: لا جديد فيها يخلق، ولا قديم فيها يفقد، بل كل شيء فيها يتحول". والحنين الى ماضي بيروت هو شكلٌ من أشكال التعبير عن الاحتجاج والرفض للحياة المتغيّرة ¶
هكذا كان المقهى في بيروت يشغل بال الأنظمة بل يحرّك المياه الراكدة في المستنقع العربي، وأحيانا يكون المقهى وكراً لانطلاقة انقلابات سياسية في بعض البلدان العربية. من هنا نظرت بعض الانظمة الى لبنان في اعتباره خاصرة رخوة تبعث القلق ولا تدعو الى الاطمئنان. لكن لا شيء يبقى على حاله في بيروت، سواء المقاهي او وجهاء الثقافة. لا أعتقد مثلاً أن الجيل الجديد يعرف أين كان مقهى "الدولتشي فيتا"، ولا يهمّ فئة اخرى ان تعرف أسرار مطعم "فيصل"، بل تجد زهو المدينة في صورتها الجديدة المتغيرة الملتحقة بالعولمة ووسائل الاستهلاك. ربط الصحافي زهير هواري، في تحقيق نشره قبل أعوام، بين ذاكرة مطعم "فيصل" وإقفال مقهى "المودكا" في الحمراء، واستبداله بمتجر للألبسة. لم يكن "الويمبي" أقفل آنذاك، وقد حصل هذا قبل ان يصبح رصيفه تحت مراقبة الميليشيات. كتب هواري أن "موضوع المودكا الذي وصفه كثيرون بأنه حلقة في سلسلة المؤامرات السياسية ـ الثقافية التي تستهدف المدينة، يعبّر في الجانب الفعلي منه عن موت المدينة لصالح السوق. من المتعذر مقارنة "المودكا" مع مطعم "فيصل" أو "الهورس شو" أو "الدولتشي فيتا"...". الاستهلاك كما نعلم، نهش معظم الرموز الثقافية في المدينة والتي باتت مثل صروح للحنين، وبدت بيروت في مظلة المطاعم ودخان النراجيل أشبه بـ"معدة كبيرة" على حد وصف احدهم، او هي تسعى الى تقليد كل شيء في العالم، او أن كل شيء له تردداته في هذه المدينة، من مسلسل "باب الحارة" الى كرة القدم والبرنامج النووي الايراني وطلاسم ما بعد الحداثة والبوب – آرت.
مقهى "فيصل" صورة مصغّرة عن واقع بيروت "العربية" التي نهلت من الغرب طيف الحداثة. كان الرواد الدائمون للمقهى أساتذة وطلاباً في الجامعة وبعض المشتغلين بالسياسة، من قوميين عرب وبعثيين وقوميين سوريين وغيرهم، وكان مخصصاً للأكل والجلوس والسجال في السياسة والفكر والثقافة. اليوم، يأتي ذكر "فيصل" من باب النوستالجيا، وغداً يُكتب عن "مكتبة رأس بيروت" كمكان يضج بالذكريات وحوادث الزمن. انتهى "فيصل" الى ان يكون "ماكدونالدز"، اي ان شبح العولمة سيطر على طيف "الذاكرة الثقافية"، وانتهت "مكتبة رأس بيروت" وليس غريبا أن تنتهي، وستشيّد مكانها عمارة حديثة تلفظ الذكريات من حولها، فتشغل العقل بأسعار شققها، اكثر مما تشغله الرواية بحبكتها، وشبح العقارات ليس ببعيد عن شبح العولمة والسوق والتجارة والربح السريع. على رغم التشكي واللوم، يسارع الناس الى البحث عن شقق وإن تكن على حساب جمالية المدينة او على حساب الواجهة البحرية لبيروت أو الاحياء التراثية التي أصبحت في خبر كان.
في لحظة "قتل" "مكتبة رأس بيروت" قرأنا مقالات كثيرة ينتهي مفعولها وتصبح جزءا من ارشيف شارع بلس الذي طالما اصابته التحولات، كما رأس بيروت، كما بيروت نفسها. سنقرأ اسم المكتبة في مذكرات الكتّاب والشعراء كما قرأنا عن "الهورس شو" و"المودكا" و"الويمبي" وزمن الستينات وبيروت وما قبل الحرب، والحركة الطالبية و"الجمهورية الأولى" و"مجلة شعر" ورواد المسرح ومقاهي الارصفة. انه الحنين العابق في الأنفاس واوردة الدم. الحنين في الديار اللبنانية والعربية أصبح مفهوما وشعراً وغناء، يبدأ من الاندلس ولا ينتهي ببيروت "عاصمة عالمية للكتاب 2009"، وأول من استخدم مفهوم الحنين في الثقافة الغربية كان الطبيب جوهانس هوفر، وقد تطور هذا المفهوم مع تطور الفكر القومي الغربي ونشأة الأمم، وبات ثقافة من الثقافات او جنسا أدبياً اذ جاز التعبير. الحنين ليس صورة بـ"الأبيض والأسود" فحسب، إنه اشكالية تسيطر على الواقع في العالم العربي واللبناني. وإذا كان كلمة جميلة، إلا أنه يدل في الثقافة الجماعية على حاضر مأزوم وكارثي، إذ يُستحضر الماضي بسبب أزمة الحاضر. ثمة مقولة للروائي التشيكي ميلان كونديرا يقول فيها: الاعمال الخالدة ليست المدهشة بل هي التي يعاودك الحنين للعودة اليها دائما". في هذه العبارة قدر كبير من الواقعية في المعيش اليومي اللبناني، فالكثير من سائقي سيارات الأجرة يحنّون الى زمن الرئيس كميل شمعون و"البحبوحة"، والكثير من بقايا اليسار يحنّون الى زمن الثورة البلشفية، بل ان الكثير من القتلة في الحرب الأهلية يحنّون الى البندقية والقنص، وتعود ذاكراتهم دائما الى اناشيد حزبية تحرّض على القتل وهتك اعراض الآخرين.
يعيش ابناء الجمهورية اللبنانية حنيناً بالجملة، وبوجوه كثيرة، وخصوصاً الحنين الى ماضي بيروت العريق. الأرجح ان حمّى هذا الحنين المتنامي هو شعور من اللبنانيين وغيرهم بالإثم والذنب تجاه ما فعلوه بهذه المدينة، بل شعور بالخطيئة يشبه شعور آدم الذي طُرد من الجنة بعد تناوله الثمرة المحرمة او ثمرة المعرفة، بل انه "الشعور الكافكوي" تجاه الأب ورمزيته وسلطانه.
لا شك في ان ثمة إفراطا في الحنين الى ثقافة الماضي في بيروت الخمسينات والستينات، وخصوصا في خضم اختيار هذه المدينة عاصمة عالمية للكتاب، على رغم ان سنوات ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية كانت زاخرة ثقافيا بالمهرجانات والاصدارات والمجلات والنشاطات الثقافية والدواوين الشعرية والروايات، وهذا ما لاحظه الباحث أحمد بيضون في كتابه "معاني المباني". ولما كانت فئة من اللبنانيين تعيش على الذكريات وتميل الى تحنيط ثقافة الستينات وتأبيد "رموزها"، ولما كانت فئة أخرى تميل الى التسطيح والركاكة وتشبه بذلك الوجبات السريعة، يحضر السؤال لماذا يتم "تقديس" كل ما قدّمه كتّاب الخمسينات والستينيات؟ ولماذا تعامَل بعض النصوص الحديثة والراهنة كما لو انها إنتاج ابناء الجواري؟ يحتاج الجواب الى دراسة معمقة لأن تلك الثقافة هي ثقافة الرموز بامتياز، من ماريلين مونرو الى تشي غيفارا والموضة وجون كينيدي والهيبب وأيار 1968. وهي وإن انتجت رموزا وعباقرة إلاّ أنها اخذت اكثر من حقها في النقد والكتابات.
ثمة من يقول ويردد ان الحنين الى الماضي يتضخم عند المزيد من الخيبات والأزمات والفراغ. ربما يكون جوهر تضخم الحنين الثقافي اللبناني بسبب الحرب الاهلية التي شكلت جداراً عاليا او شرخا بين اجيال اللبنانيين. ومهما علا الشأن الثقافي في الربوع اللبنانية بعد الحرب يبقى جرح هذه الحرب اكبر من قدرة الثقافة على تضميده ومداواته، ويأتي الانقسام السياسي الجديد ليثخن الجراح ويستولد العنف الذي نشهد انعكاساته في ثقافة الشتم والتخوين التي يسميها بعضهم سجالاً. في الانقسام السياسي الراهن شيء من حنين مضمر، وشيء من شكوى سياسية، وحنين بعض الفئات الى الجمهورية الأولى، وحنين فئات اخرى الى استعادة لعبة الخنادق والمتاريس.
سؤال الحداثة
السؤال الذي ينبغي طرحه في اطار بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009، ليس في النوستالجيا الى ماضي هذه المدينة، بل يتعلق بحداثتها! لماذا بيروت دون غيرها من المدن هي التي اضحت عنوان الحداثة العربية؟ سؤال كان محور كتاب "تاريخ بيروت" لسمير قصير، وهو محور الثقافة على نحو عام. طبعاً السؤال الرئيسي يستدرج سلسلة طويلة من الأسئلة، التي ترك سمير قصير لصفحات كتابه والتطورات أن تجيب عنها من تلقاء نفسها. ويختصر بالقول: "في إمكان بيروت أن تعرف خلال هذين القرنين وأن ترسم إطاراً لتاريخها، ولنجرؤ على الادلاء بهذا التعريف المتسم بأكبر قدر ممكن من الاختزال. لنقل إن أهمية بيروت المبدئية هي أنها بالنسبة الى المؤرخ حاضرة عربية متوسطية ذات طابع غربي".
يتحدث سمير قصير عن فرصة تاريخية، يقول: "لا شك في أن بيروت تدين لابراهيم باشا بهذه الاندفاعة التي جاءت في حينه، وكأن قدراً عجيباً أدار عقارب الزمن. تحتضن بيروت بدايات النهضة العربيّة. فالمشرق الذي انفتح على التجارة العالميّة انفتح أيضاً على الأفكار الحديثة التي شرعت تنقلها مدارس الإرساليّات الأجنبيّة، والمدارس المحليّة التي سرعان ما أسّست. التعدّديّة تأسيسيّة منذ البداية، يرمز إليها وجود جامعتين، الجامعة الأميركيّة في بيروت، وجامعة القدّيس يوسف. ونجمت عن ذلك منافسة ثقافيّة إيجابيّة، عبّرت عن نفسها أكثر فأكثر باللغة العربيّة وبفضل المعلّم بطرس البستاني، واليازجيين الأب والإبن، وأحمد فارس الشدياق، ويوسف الأثير، ومحمّد أرسلان وسواهم، ففرضت بيروت نفسها مهداً للآداب العربيّة، والقوميّة العربيّة التي تبعتها".
عند قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 وتحديد بيروت عاصمة له ضدّ إرادة وجهائها، بدأت فيها، مطلع الثلاثينات، نهضة ثانية، من أبرز روّادها أمين الريحاني، إيليّا أبو ماضي، الياس أبو شبكة، مارون عبّود وسواهم. وبقيَت بيروت تؤكّد هويّتها العربيّة من خلال تضامنها مع القضايا العربيّة، والمقاطعة العربيّة لمرفأ حيفا أمّنت نجاح مرفئها، وبلاد الخليج العربيّ سمحت بتأسيس ثرواتها الكبيرة، ورأسمالها تغذّى من أموال النفط. وتشارك عرب ولبنانيّون لجعل بيروت عاصمة للآداب العربيّة. في بيروت، أقام يوسف الخال ونشر مجلّتي "شعر" وأصدر ألبر أديب "الأديب" وسهيل ادريس "الآداب"، وأقام نزار قبّاني، ومحمود درويش ومحمد الماغوط وسعدي يوسف وجان دمو، وشكلت "الندوة اللبنانية" فرصة لعرض اهم الافكار النخبوية، وعرف النشر ازدهاراً لا سابقة له. لكن بيروت التي قطفت ثمار الحداثة العربية العرجاء، تركت ميشال سورا المستعرب المناضل الداعم للقضية الفلسطينية، يُقتل بلا رحمة في أحد معتقلات "حزب الله"، من دون ان ننسى الاغتيالات التي قتلت الكثيرين من كل الفئات ومنهم سمير قصير نفسه.
بيروت الحداثة التي كانت تقلق جيرانها تبدو الآن قلقة على دورها. قال الرئيس فؤاد السنيورة عندما كان وزيراً للمال: "قبل الحرب كان لبنان عبارة عن مخزن كبير (سوبر ماركت) وسط صحراء قاحلة وإذا به بعد الحرب حانوت وسط غابة مخازن"، في إحالة على الدور الذي كان لبنان يتمتع به في زمن البحبوحة، عندما كانت الدولة تقرض أموالاً للخارج والموازنة تسجل فائضاً، مقارنة مع ما آل إليه لبنان بعد الحرب إذ تدحرج إلى مرتبة تعيش على هامش الحياة والاقتصاد العالمي. ولا ينبغي فصل الاقتصاد عن الثقافة في الزمن الرديء، أو زمن النوستالجيا، فمدن مثل الدوحة ودبي باتت تقلق بيروت بمشاريعها الثقافية وإن يكن فيها شيء من شبح الاصطناع، فكيف لو قامت القاهرة بمشروعها الثقافي!!
السلالات النشرية
طبع الكتاب في بيروت يشبه بيروت نفسها، وثمة خوف من ان تفقد بيروت دورها في هذا المجال، وخصوصا ان طباعة الكتب لا تنفصل عن الاستهلاك! سؤال بيروت المطبعة بات مطروحا في السنوات الاخيرة مع بروز عواصم منافسة. يقول القيّمون ان بيروت لا تزال تستفيد من الرقابة السائدة في العالم العربي فيبقى لها هامش، انها تتسع للجميع، لكن هل ينضم طبع الكتاب الى فخّ الحنين؟!
حين كتب الباحث فرانك ميرمييه عن "المدينة والكتاب" بدأ بعبارة "مصر تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ". هذه المقولة الساذجة التي يوظفها ميرمييه لم تعد تليق الواضع القائم، ربما هي أيضا شكل من اشكال الحنين في النسيج الثقافي اللبناني، وتتكرر في التعليقات الصحافية بطريقة بائسة. ربما علينا أن نعيد قراءة هذه العبارة من واقع جديد وخصوصا بعد خراب بغداد وانتشار اللغة الركيكة في القاهرة. على أن تفوّق بيروت المفترض في حقل الثقافة على زميلاتها العربيات يعود في جزء كبير منه إلى استقبالها المنفيين العرب من فلسطين وسوريا، وكذلك إلى استقبالها الرساميل العربية بعد حملة التأميمات المصرية الناصرية. هذه الكثافة الثقافية، "العرب الفارون من القمع واللبنانيون الهاربون من الطوائف والقبائل"، المحصورة في أربعة مبان في شارع سوريا في منطقة الوسط التجاري قبل تدميره إبان الحرب الأهلية عام 1975 قادت في الضرورة إلى تحول المدينة بؤرة للخلق. ولما كانت بعض الأنظمة العربية تقمع الثقافة في بلادها فقد كانت ترسل الامدادات الى الكثير من دور النشر المهمة. وبسبب ذلك تمكنت بيروت من منافسة القاهرة "كمصرف اعتماد أدبي" وسلطة عليا للتكريس الأدبي، مع أنها كانت تنطلق من رأسمال أدبي ضئيل.
لم تتوقف بيروت حتى في أبشع فترات الحرب، عن لعب دورها الرائد كوسيط ثقافي، على الأقل في مجال الكتاب. فاستمرار الإنتاج النشري ونموّه خلال تلك السنوات الصعبة هما مؤشران الى أهمية بيروت كعاصمة العرب الثقافية. فلا يمكن أي مركز عربي للنشر أن ينافس بيروت فيه، ما عدا القاهرة. ويعود ذلك إلى عدد المطابع ودور النشر، وكذلك إلى دور الناشرين اللبنانيين في توجيه مختلف ميول سوق الكتاب العربي والذي يتحكمون به بواسطة شبكات التبادلات والتوزيع الكثيرة المنتشرة في العالم العربي انطلاقاً من العاصمة اللبنانية.
مسار طبع الكتاب في بيروت تتخلله مسارات احزاب وطوائف وسلالات وجماعات. نتحدث عن الطبع ونتتأمل كيف اصبحت بيروت سيرة لكتاب وفكرة لقصيدة وفيلم سينمائي او ذاكرة في تلفزيون. نقول ذلك ونسأل هل هذا من باب الرثاء والحنين الى زمن غابر ام تمجيد لحاضر قلق؟ كانت بيروت مصنع الكتاب فصارت مادته واسطورته ولغزه. فمن يراقب إصدارات الأعوام الأخيرة يلاحظ حمّى الكتب التي صدرت تحت عنوان بيروت، هذا عدا الكتب والأفلام والسينمائية والبرامج التلفزيونية التي تناولت حاضر هذه المدينة وماضيها، حتى يمكن القول ان هبوب الرواية اللبنانية بدأ مع توقف الحرب الأهلية فيها. فهل ما تقوله الرواية هو رثاء للمدينة أم حنين الى ماضيها ام احتفاء بها؟ الامر نفسه نلحظه لدى الكتّاب العراقيين اذ كتبوا روايات كثيرة عن بغداد بعد سقوط صدام حسين، كأن في ذلك علامة من علامات الخراب. بالطبع لكل كتاب مقام ولكل كاتب نظرته وهاجسه في قراءة واقع بيروت وزمنها ومكانها وحربها.
يوماً ما كتب الروائي توفيق يوسف عواد روايته "طواحين بيروت"، التي تحكي في بعض فصولها عن الحرب الأهلية اللبنانية. لم يكن عواد يعرف انه سيكون ضحية إثر سقوط قذيفة سورية على مبنى السفارة الإسبانية حيث كان مع صهره السفير وابنته. وفي رواية "بيروت 75" تنبأت غادة السمان من خلالها بالحرب والخراب قبل اندلاع الشرارة الاولى للانفجار الاهلي المقيت، بأشهر قليلة. الرواية عن بيروت تقرأ واقع المدينة وتحولاتها وازماتها، ففي ختامها حملت لافتة كتب عليها "مستشفى المجانين" ووضعتها على مدخل المدينة وانفجرت ضاحكة وكأن حالة هستيرية قد تلبّستها، وهي التي كانت قد تركت بلادها وأتت الى بيروت مملوءة بالاحلام. وبعد ربع قرن من كتابها هذا تقول غادة السمان في نهاية "سهرة تنكرية للموتى" الشيء نفسه بطريقة اخرى اذ ان بطلها فواز، المهاجر اللبناني، يغادر بيروت، بعد زيارة قصيرة، وهو غير متأكد من ان الحرب قد انتهت، او انها بدأت من جديد عشية الالفية الثالثة. ففواز "لم يعد يدري كيف يميز بين الحقيقة والكابوس، بعدما صارت الحقيقة كابوساً". بيروت الحنين "مدينة ملونة"، هكذا رآها حليم بركات، وهذه الألوان نجدها من خلال عيشنا في احيائها وحاراتها وشوارعها، وفي الكتب التي صدرت عنها، وخصوصا في السنوات الاخيرة، بدءا من "تاريخ بيروت" لسمير قصير، الى روايتي "بريتوس مدينة تحت الارض" و"بيروت مدينة العالم" لربيع جابر، و"بيروت 2002" لرينيه حايك، و"رواية بيروت" بالفرنسية لألكسندر نجار و"وداعا بيروت" لمي غصوب و"شتات بيروت" لجين سعيد مقدسي التي تؤرخ لتجربة العنف والدمار واللاإنسانية اليومية التي صنعت الحياة في بيروت زمن الحرب.
خاتمة
في الخاتمة، المرء، على زعم احدهم، إذا قرأ رواية لتولستوي يشعر بالحنين إلى روسيا القيصرية! وإذا شاهد مسلسلاً أندلسياً يشعر بالحنين إلى الأندلس الاسلامية او العربية! وإذا سمع أغنية بلوز يحنّ إلى نيوأورليانز الخمسينات! وإذا أنشدت فيروز "ردّني إلى بلادي" يشعر بغربةٍ ثقيلة كأنه لم يكن له وطنٌ البتة، واذا سمعها تغنّي "سنرجع يوما" فسيتذكر مفاتيح القدس العتيقة. واذ يحاول الكتابة عن احوال بيروت القديمة فسيجد بين سطور مقاله الكثير من الحنين المدقع بل الكثير من الشعور بالإثم، وسيقول مع نزار قباني ان بيروت عشتار وحقل لؤلؤ وميناء عشق وقصيدة ورد، لم يوجد قبلها وبعدها ومثلها شيء، او سيقول مع محمود إنها "تفاحة للبحر نأتي اليها"، ومع ادونيس: "انها جسد ولبانٌ ومسكٌ، فأرّخ هذا الزمان باسم هذا المكان". قبل ان يعود هذا الأخير ويشبهها بـ"مجموعة احياء كمثل صناديق بطبقات مظلمة ومغلقة"، وان محصلة مشكلات المدينة هي "حروب خفية او معلنة"، وان بيروت "لا حاضر لها غير تقليد الغرب". بل ان هجاء المدينة ومديحها، شكل من اشكال الحنين الى الفردوس الأرضي، وبحسب مارسيا الياد تتلخص أطروحة الحنين الى الفردوس في انها استمرار للأصل الديني لفكرة الجنة، ولآدم المطرود منها. تالياً فإن استحضار الماضي هو نوع من العودة الى الفردوس المتوهم. الحنين في العالم العربي حمّى أبدية لكل شيء.
وعندما كتب روبرت فيسك كتابه "ويلات وطن"، قال ان سبب اليأس من بيروت هو قدرتها على التكيف، وان مأساتها تكمن في القدرة على البقاء وعلى التجدد الدائم. وعندما كتب المؤرخ كمال الصليبي عن ثلاثية ربيع جابر "بيروت مدينة العالم" قال "انه يتعامل مع الزمن كأنه جزء لا يتجزأ من مادة الكون الخاضعة لمبدأ لافوازييه: لا جديد فيها يخلق، ولا قديم فيها يفقد، بل كل شيء فيها يتحول". والحنين الى ماضي بيروت هو شكلٌ من أشكال التعبير عن الاحتجاج والرفض للحياة المتغيّرة ¶