11-08-2011 | 22:01
أُسدل الستار على مقهى «سيتي كافيه» في شارع الحمرا في بيروت في وجه زوّاره التقليديين من أهل الفن والسياسة والكتابة، لأسباب خاصة جداً على حدّ تعبير صاحب المقهى إميل دبغي، الذي اشتهر بأنه صاحب مقهى «الهورس- شو» سابقاً، أول مقهى في شارع الحمرا افتُتح عام 1958.
أُسدل الستار على مقهى «سيتي كافيه» في شارع الحمرا في بيروت في وجه زوّاره التقليديين من أهل الفن والسياسة والكتابة، لأسباب خاصة جداً على حدّ تعبير صاحب المقهى إميل دبغي، الذي اشتهر بأنه صاحب مقهى «الهورس- شو» سابقاً، أول مقهى في شارع الحمرا افتُتح عام 1958.
ليست المرة الأولى التي يُقفل فيها مقهى «ذو طابع ثقافي» في بيروت، فقبل الـ«سيتي كافيه» أُقفلت مقاهي «المودكا» و{الويمبي» و{الكافيه دي باري» وحانة الـ{الشي أندريه» و»الإكسبرس»، وبات بعض المثقفين يشعر كأنه مطارد من هذه المدينة التي تضجّ بالمقاهي «الاستهلاكية» والمطاعم وحانات الناراجيل، بينما مقهى الـ{سيتي كافيه» الرابض في آخر منطقة الحمرا كان ما زال يحافظ على طابعه الثقافي، من خلال بعض مثقفين يصرِّون على ارتياده وعبر الجو الثقافي الذي ما برح يتمتع به في ديكوره ولوحاته. ولعلّ ثقافة صاحبه المشهور في الستينات بمقهى «الهورس شو» أضفت طابع تلك المرحلة الحلمية عليه، يوم كان شارع الحمراء عنواناً ثقافياً بامتياز، لكن يبدو أن مجد الماضي أعجز من أن يصمد أمام التحوّلات التي تطوف في بيروت كشبح لامرئي.
اللافت أن «شخصيات ثقافية» كثيرة، أو التي تدور في فلكها، حاولت افتتاح مقاهٍ ذات طابع ثقافي في شارع الحمرا، لكنها لم تكن موفّقة سواء من ناحية المشاريع التي قدّمتها (أمسيات موسيقية، وغنائية أو شعرية)، أو من ناحية أسماء المقاهي نفسها، إذ لم تعد «الثقافة» هي الجاذب في شارع يضجّ بأشكال وألوان من ناراجيل ووجبات متنوّعة، وجمهور يبحث عن ثقافة الإنترنت والخدمات السريعة. بمعنى آخر، باتت المدينة «تطرد» الثقافة الى أماكن أخرى، أو أن واقعها يفرض إطاراً جديداً يتمثّل في المقاهي المعلومة وحياة «الفرفشة»، وحتى أماكن السهر هناك ثمة من يشكو أنها باتت للمخمورين، ولا أحد يمكنه الرقص فيها.
حين نكتب عن إقفال مقهى، فإننا نفعل ذلك من باب الذكرى فحسب، إذ تحلو الكتابة حول الذاكرة. فمقهى «سيتي كافيه» كان ذات يوم مقراً ليلياً لرئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، وهو الذي كان يجمع الصحافيين والكتاب وغيرهم حوله لمناقشتهم في أمور لبنان وأوضاعه، وبما يرونه من أفكار لتحسين ظروفه، واشتهر بأنه كان يتناول البوظة في هذا المقهى ويفاجئ الكثيرين في جلساته. وهو اختاره لقربه من قصره، وقد التزم بزيارته طيلة وجوده في لبنان وقبل أن يُغتال في 14 فبراير 2005.
أُقفل مقهى «سيتي كافيه» من دون ضجيج باستثناء بعض المقالات الصحافية للكاتب إلياس الديري بعنوان «الشيخ والمقهى»، مستذكراً فترة افتتاح المقهى وجلوسه مع منح دبغي الى جانب استذكاره رفيق الحريري، يقول: «أول من أمس زرت شيخ المقهى الذي كان يسميه الرفيق الشهيد «النادي»... قبل أن يقفل أبوابه وبعدما قام بدور أساسي في استعادة وهج الحمرا واسترجاع ثقة الناس به». كذلك قرأنا مقالة للشاعر زاهي وهبي في جريدة «الحياة» بعنوان «مقهى المدينة» يستعيد فيها مرحلة «القهوة السادة» (أحد عناوين كتبه)، ويردف: «كأني بمقاهي المدينة مثال على المدينة ذاتها، وكيف ينبغي أن تكون مزيجاً من الحنين والأمل ومزاوجة بين الذاكرة والمستقبل، وإلاّ خسارة الإثنين». وهبي تعرّف الى زوجته رابعة الزيات في هذا المقهى وهي كتبت ذات مرة: «القهوة السادة هي أول ما جمعني بزاهي. هناك في مقهى الـ{سيتي كافيه» البيروتي كان لقاؤنا الأول، وكانت الشرارة التي «شرقطت» وأشعلت قصة حب وُلدت وكبرت ونضجت وصولاً الى الزواج والأولاد ورفقة العمر»... ومن أبرز رواد «سيتي كافيه» الناشر رياض الريس والشعراء: حسن عبد الله وشوقي بزيع وجودت فخر الدين، والصحافي الياس الديري...
مقهى «سيتي كافيه» الذي أرخى الستارة على آخر فصول حياته، كان في السنوات الأخيرة في دائرة الضوء. إذ تقام فيه حفلات وتواقيع الكتب، خصوصاً كتب شركة «رياض الريس» (آخرها توقيع «تبليط البحر» لرشيد الضعيف) و{دار ناسن» و{الدار العربية للعلوم»، والتواقيع فيه كانت أشبه بأعراس ثقافية. وشهد المقهى أيضاً معارض تشكيلية للراحل رفيق شرف وديانا الحوراني والمشاكسة هالة الفصل وكميل حوا وهلن الخال... ناهيك بتكريم لرفيق شرف حضرته مجموعة من محبيه وعشاق فنه، وكرّم منح دبغي الشاعرة والروائية الراحلة أمل الجراح، وبالمناسبة قال الشاعر عصام العبد الله في قصيدة بعنوان «أمل»:
ودّوا حدا يفيّق بساتين الكلام
أو
تلفنوا بيرن ديك المملكة
وبينتبه نوم الحمام
وبيقوم عالشغل الزمان
راكض كإنو حامل الأيام
تيقدما هدية
وصلت ع حفلتها أمل
كحلة عرب والصوت صوت شوام
حتى الشجر بيفيق عاضو الخبر
بيلم شو عندو صور
بيحطها بالمي
بيصير في صفين من شجر الحكي
بتمرق أمل
متل المعاني بالجمل
ومشعشعة متل النحل
بيعن تايحلا العسل
ودّوا خبر
إنو القصيدة مارقة بين البيوت
سمّوا القصيدة بإسمها
أو سمّوا ياقوت
بتدق ع بواب الشعر
بتفتحلها بيروت
أهلاً وسهلاً يا أمل
ومضوية متل البدر لما اكتمل
بيصير ليل المملكة
دفتر غزل
وبيروح يلعب عالجبل
مهر الشعر
لما الشعر بيقول كتبتني أمل
أُقفل «سيتي كافيه»، ولا عجب في ذلك، ربما بسبب أنه ما زال يهتم بتواقيع الكتب!
كبار الشعراء
استقطبت مقاهي الحمرا في لبنان كبار الشعراء والكتاب، من بينهم محمد الماغوط ويوسف الخال وأدونيس ونزار قباني وفؤاد رفقه وحليم بركات، وغيرهم من الذين خطوا الخربشات الأولى لشعرهم على طاولاتها.
كان هؤلاء على موعد يومي للهو مع شياطين شعرهم في جلسة «على فنجان قهوة»، الى أن باتوا رواداً مياومين لهذه المقاهي التي باتت بمثابة مكاتب لهم. فمن أراد أن يقابلهم كان يقصد الحمرا تلقائياً من دون الاتصال بمكتب أو طلب موعد.