Jun 15, 2016
القدس العربي
■ سؤال يفرض اليوم نفسه بعد أن اشتعلت وسائط التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة، إثر استضافة القناة الإسرائيلية i24 الروائي أمين معلوف في حصة 3 حزيران/يونيو خصصت له لعرض كتابه: «كرسي على نهر السين»، الخاص بتجربته في الأكاديمية الفرنسية.
فقد أصيب آلاف القراء العرب المحبين للكاتب، بحالة انقسام عميقة تشبه الشرخ، بين الخيبة القاسية والمرة مثل الذي وجد نفسه في كابوس ثقيل، فالرجل وُضع منذ روايته الحروب الصليبية من وجهة نظر عربية، ورواية «ليون الإفريقي»، حتى رواية «التائهون»، في الرتب العالية كواحد من أهمّ ممثلي الرواية التاريخية وأكثرهم حضوراً. ثم رفع هذه السنة إلى مقام جائزة الشيخ زايد لشخصية السنة، التي منحت له تقديراً لجهوده الثقافية والإنسانية، بعد استحالة تكريمه كروائي، لأنه لا يحق له الترشح في الرواية التي تقتصر على روائيي اللغة العربية. وبين متسائل بحيرة، ماذا كان ينقص معلوف ليسقط هذه السقطة؟ كاتب ناجح، وحصل على أعلى جائزة فرنسية، الغونكور، وعين قبل فترة قصيرة في فضاء الخالدين، الأكاديمية الفرنسية، ليحتل مكان ليفي ستروس. قبل أن يتبعه في التعيين، بمدة قصيرة، واحد من أعتى العنصريين المعادين لكل ما هو إسلامي وعربي آلان فلكنكراوت، صاحب كتاب «الهوية الشقية» الذي أصبح كتاب سرير المتطرفين والعنصريين، والذي يوجه أصابع الاتهام للعرب والمسلمين المهاجرين الذين شوهوا الهوية ولم يتآلفوا مع عادات المجتمع الغربي الحداثية، ولم يقبلوا بالعلمانية، على الرغم من أن أغلبية مسلمي فرنسا يعيشون دينهم كما تعيشه جميع الجاليات الأخرى من بوذيين ومسيحيين ويهود وغيرهم في السكينة الفردية والهدوء.
طبعاً غير مطلوب من أمين معلوف الاستقالة من مؤسسة مثل الأكاديمية بسبب وجود آلان فلكنكراوت فيها، المسؤولية الأولى والأخيرة تعود لمن عينوه في ذلك المكان. لكن هناك حيثيات بسيطة لمعرفة خيارات أمين معلوف، يجب التذكير بها على الرغم من بداهتها. فما من شك أن أمين معلوف كاتب كبير ووجه من وجوه الثقافة الإنسانية. سخر الجزء الأكبر من حياته في مقاومة الذاكرة الاختزالية من خلال رواياته التاريخية مدافعاً، لا عن الحق العربي في صورته الأكثر تنوراً، ولكن الحق الإنساني ضمن نظرة أكثر شمولية اختارها مساراً لكل كتاباته من الحروب الصليبية حتى الآن. يتماهى العربي في الإنساني ويذوب فيه. حتى ما يحدث في العالم العربي اليوم من اختلالات خطيرة، يندرج بالنسبة للكاتب ضمن هذه الرؤية التراجيدية التي لم يستطع فيها العرب أن يجدوا مكانهم في عالم غير عادل، أقصاهم، لأن الصراع العربي الإسرائيلي يتحكم في جوهر هذه المعادلة. رؤية يتساوى فيها الجميع أمام الشأن الإنساني. أمين معلوف ليس باسكال بونيفاس الذي يحارب حركة صهيونية لا ترى إلا ما تريده، ولا تعترف إلا بنفسها أو ما يسير في مسالكها.
في كتابه «المثقفون المزيفون» كان صريحاً ضد هذه العدمية الجديدة، مما وضعه إعلامياً في دائرة العزلة في بلده نفسه. بونيفاس اختار المسلك الأصعب الذي يقصيه عن الجوائز والاعترافات والمجتمع المخملي. وليس برنار هنري ليفي طبعاً، الذي يدافع باستماتة عن الحركة الصهيونية ويعتبر كل من يعاديها يعادي بالضرورة السامية. ويستميت بالمقابل في إظهار الفلسطيني المقاوم، المدافع عن وجوده، في صورة القاتل البائس الذي لا يعرف قيمة المجتمع الديمقراطي الإسرائيلي الذي يعيش فيه. كتــــابه الأخير روح اليهـــودية l’esprit du judaïsme يدافع فيه بشكل صريح وأعمى، عما منحته هذه الروح للإنسانية. إن مملكة العبرانيين كانت وراء فكرة الجمهورية بالمعنى الفرنسي، وإن أحد التلموديين كان وراء اللغة الفرنسية وغيرها من الأفكار التي تلغي التاريخ البشري وتجيره لديانة واحدة مع عمى كلي طبعاً تجاه ما قدمه إسلام الأنوار للبشرية.
أمين معلوف لا يقع على الطرف النقيض لا مع بونيفاس ولا مع برنارد هنري ليفي، هو في سياق ثالث لا يمت بصلة لا لهذا ولا لذاك. فهو خارج هذه الأطروحات كلياً. فلسطين ومأساتها لا تشكل بالنسبة له الانشغال الأكبر. هي تندرج ضمن أفق إنساني هلامي غير واضح المعالم يتماهى فيه البعد الإنساني للقضية حيث يتساوى فيه القاتل والمقتول. فكرة الدولتين تساعد على راحة الموقف. لكن الاعتراف بإسرائيل لم تنتج عنه في النهاية إلا غطرسة هذه الأخيرة. ماذا جنت فلسطين غير المستعمرات الإسرائيلية التي أكلت الجزء الأهم من الضفة. ماذا عن حائط العار الذي مزق الأرض الفلسطينية وفق مشيئة الأقوى؟ وماذا عن تقتيل الأطفال في غزة بالقنابل التجريبية؟ ماذا أيضاً عن نقد اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يحكم اليوم إسرائيل، والذي جاء بنعصري خطير على إسرائيل نفسها. هل قال أمين معلوف شيئا عن هذا؟ لماذا جره نحو عالم لا يهمه كثيراً إلا بوصفة مادة تاريخية.
فقد دافع معلوف في حصة i24 عما يهمه. دافع عن كتابه الجديد: «كرسي على نهر السين»، الذي يستعيد فيه أوجه من سبقوه إلى كرسي الأكاديمية الفرنسية الذي يحتله اليوم. ما صرح به لا يخرج عن رؤية عربية استشراقية معروفة أصبح العرب أنفسهم هم من يقومون بإرسالها للغرب الاستعماري تحديداً، وفق مشتهاه ومقاييسه. الموقف من الإرهاب الإسلاماوي مدخل للسجالية في كل «البلاتوهات». الإرهاب جريمة ضد الإنسان، ولا يمكن أن يقبل أو تبرر أفعاله بأي شكل من الأشكال، فقد أدمى العالم والعالم الإسلامي تحديداً، وما يزال يدميه إلى اليوم ويدفع به نحو مدارات التخلف والموت البطيء.
لكن لهذا الإرهاب أيضا تاريخاً وصيرورة، وليس حدثاً عابراً في الزمان والمكان. الدكتاتوريات العربية الظالمة تتحمل المسؤولية الكبرى، لكن مسؤولية الغرب الاستعماري ليست أقل. من خطّط؟ من درب؟ ومن نظم؟ ومن أرسل؟ من وجّه؟ ومن وفر المال والسلاح؟ يحتاج الأدب اليوم أن يمتلك البعد الإنساني ويرينا ما يتخفى وراء المرايا العاكسة التي ترسم ليس فقط تجليات الظاهرة ولكن أيضاً جوهرها الذي جيّر العالم العربي لمصالحه وأنهكه حتى حوله إلى لا شيء. أمين معلوف أيضاً خارج هذا فلماذا محاسبته؟ فهو يرى ما يراه في أفق إنسانيته التي تأخذ نتائج القضايا أكثر من صيرورتها وعناصرها المحركة حتى يبقى ما يكتبه أملس، لا يؤذي حركة الانزلاق، التي لا تزعج سدنة العولمة وأصحاب القرار. من هذا التصور، اعتمدت المحاورة على إثارة التيمات العامة التي تنتصر للعقلانية والتنوير وحوار الثقافات وتدين التعصب الديني والتطرف الأعمى. أمر جيد، سوى أن وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد ليس أقل تعصباً من أبي بكر البغدادي، أمير داعش. الفرق بينهما في المرجعية الدينية لا أكثر. العقلية الإبادية واحدة، وهي معلنة هنا وهناك. استقال موشي آلون وزير الدفاع الإسرائيلي، وتبعه وزير البيئة في حكومة نتنياهو بسبب الخطر الذي يشكله ليبرمان رئيس حزب إسرائيل بيتنا المتطرف، على إسرائيل قبل الإنسانية.
أمين معلوف كان داخل إنسانية مسالمة، غير معنية بكل ما ذكرت. طبيعي جداً أن تكون الحصة موجهة وفق خط مديرها فرانك ملّول الذي لا يخفي تعاطفه مع سياسة الليكود العنصرية ويعمل على تبييض سياستها الإجرامية تجاه الفليسطينيين. القبول بالآخر ليس خطأ في حد ذاته، ولكن هل الآخر يقبل بك كما أنت، بثقافتك وإنسانيتك أيضا؟ لقد اعترفت أوسلو بإسرائيل لكن هل اعترفت إسرائيل بالحق الأدنى للفلسطيني؟ كل ما فعلته أنها حولت الضفة وغزة إلى سجنين واسعين.
هل مطلوب من أمين معلوف ان يكون على الطرف النقيض من هذه الأطروحات بوصفه كاتباً إنسانياً؟ أن تكون مثل بونيفاس مثلاً، عليك أن تقبل بالخيارات الناجمة عن موقفك بما في ذلك التضحية بمكاسب فردية كثيرة. لقد استعرض في الحصة تفاصيل كتابه الجديد: «كرسي على نهر السين»، استرجع فيها تفاصيل حياة 18 شخصية سبقته إلى ذلك الكرسي. هذا انشغاله الأساسي في الحصة ولم يقل أكثر من هذا. «البريفينغ» كانت علاماته واضحة.
هل نلومه على ذلك؟ أم على قبوله دعوة قناة إسرائيلية i24؟ أم على حلم نوبل الذي يمر حتماً عبر سلسلة من الاسترضاءات الملساء التي لا موقف فيها؟ أمين معلوف روائي تاريخي كبير، لا عاقل يشكك في ذلك، كاتب اختار أن يكون في عمق معادلة الصراع بين الشرق والغرب، في ماضيه لا في حاضره الشديد القسوة. وهو وفيّ إلى اليوم لهذه الخيارات وهذه المعادلة التي لا تزعج أحداً، وبالخصوص سلطة مالك الميديا.