شارون أولدز ترجمة: نصر عبد الرحمن
ولدت الشاعرة والروائية والناقدة الأميركية شارون أولدز عام 1942 بمدينة "سان فرانسيسكو". درست اللغة الانكليزية بجامعة "ستانفورد"، ثم حصلت علي الدكتوراه في أوزان الشعر عند إيمرسون. وبعد أن انتهت من مشروعها الدراسي والبحثي، بدأت تتفرغ لكتابة الشعر. لكنها حطمت تقاليده المعروفة، وتحررت من كافة القيود الجمالية والاجتماعية، وكتبت عن عائلتها، وعن ما تعرضت له من انتهاكات شخصية، وعن الجنس دون تردد أو خجل، ويري كثير من النقاد أنها فتحت الباب بشكل حقيقي أمام جيل كامل من المبدعات للتعبير عن أنفسهن بصراحة، بعد كسرت أنماط المحظورات السائدة في السبعينيات منذ القرن العشرين عليهن. كان تركيزها علي العمل، ولم تضع القارئ في حسبانها. كما تمردت شارون علي أسلوب شاعرات كبيرات ظهرن قبلها مثل آن سيكنسون، وسيلفيا بلاث. ورغم اعترافها بإنجازهما الشعري الكبير، وذكائهما الحاد وقدرتهما علي التعبير عن المرأة، إلا أنها رأت في قصائدهما نوعاً من الاعتراف بحثاً عن التطهر. حاولت شارون أن تبحث لنفسها عن مسار جديد، مدفوعة بتجاربها القاسية، وساعية للتعبير عنها، واعتمدت في ذلك علي كشف عُري الجسد والروح معاً منذ ديوانها الأول "الشيطان يعظ" عام 1980.
أصدرت شارون عشرة دواووين، كان آخرها في 2008 بعنوان "شيء سري واحد"، كما نالت عدة جوائز مرموقة عن أغلب أعمالها، ووصلت إلي القائمة القصيرة في عدة جوائز أخري، وحلصت علي عدد من التكريمات عن مجمل أعمالها، كما تم اختيارها كأميرة لشعراء ولاية نيويورك في الفترة من 1998 إلي عام 2000، وتُرجمت أغلب أعملها إلي سبع لغات. ولقد أصدرت شارون حتى الآن أكثر من مائة كتاب، بين شعر ونقد، ومن أبرز أعمالها: "الأحياء والأموات" 1984، و"الأب" 1992، و"دماء" 1999. وفي عام 2005، وصلتها دعوة من سيدة أميركا الأولى وقتها لورا بوش لحضور مهرجان الكتاب الوطني في العاصمة واشنطون، إلا أنها رفضت الدعوة في خطاب نشرته الصحف حينها، جاء فيه: "أصبح أغلب الشعب الأميركي يشعر بالخجل والعار، بعد أن كانوا يفخرون بوطنهم، بسبب النظام الحالي الذي تسبب في الحروب والدماء والجراح والحرائق. لن أحتمل الجلوس معك علي مائدة واحدة".
ركزت شارون، منذ ديوانها الأول علي موضوع العنف كمحور للعلاقات غير المتكافئة بين البشر في سياقات متنوعة، منها الاجتماعي والمنزلي، والجنسي، كما ركزت علي العلاقات العائلية المُضطربة وأثرها المُدمر علي نفسية الطفل؛ وترددت بين جنبت قصائدها إشارات إلي الزواج التعيس والطفولة البائسة التي تتعرض للانتهاك من خلال عقاب الأبوين الصارم. بالطبع استلهمت شارون العديد من تجاربها حياتية قاسية مرت بها في مرحلة الطفولة، وأسهمت في تشكيلها علي هذا النحو الصارخ. وكانت قد كتبت في ديوانها "الينبوع" عام 1996، قصيدة عن اعتذار والدتها عن سوء معاملتها في طفولتها، وقالت إنه اعتذار تأخر سبعًا وثلاثين عاماً.
وظهر شغفها في هذا الديوان باستخدام اللغة الخام، غير المُشذبة. اللغة المباشرة الواضحة التي لا تحتمل أي تأويل في بعض الأحيان. اللغة التي تحتفي بالحقائق وتقررها وتجاور بينها لتصنع منها ضفيرة منطقية مُتماسكة. لغة صريحة أكثر من اللازم، بل وخادشة للحياء أحيانًا، لتصف بها واقعًا رثًا وخانقًا. لغة هجومية، تضرب زيف المُجتمع، وتنزع أقنعته البراقة، وتخمش خجله المُصطنع.
الصور البلاغية لديها شحيحة إلي حد ما، إذ كانت تعتمد علي صورة كلية، تصنعها بتفاصيل دقيقة ومُحكمة. وكانت تلجأ أحيانًا إلي خلق استعارات وكنايات باستخدام الصفات والملامح الحيوانية. تصف، مثلًا، ساقي شقيقتها النحيلتين بأنهما ساقا جندب، وتصف جلد أحد المتشردين بأنه أبيض كلحم الحلزون، وغيرها من التشبيهات المماثلة التي تتناثر في طيات قصائدها. تلعب هذه الصور دورها الطبيعي في القصيدة، ولكنها تكشف عن نظرة شارون إلى الإنسان، ومدي تدنيه وإن تظاهر بغير ذلك علي المستوي الاجتماعي. كما كانت تستعين بالتاريخ وبالطقوس والمُحرمات البدائية؛ خاصة تلك المُتعلقة بالتضحية بالأنثي أو الحط من مكانتها، وتضعها في علاقة جدلية مع القهر الذي تتعرض له المرأة في العصر الحديث.
أثارت شارون جدلًا كبيرًا في الأوساط الثقافية، وبالطبع تعرضت إلي هجوم عاصف في سبعينيات القرن العشرين، إلا أن تجربتها رسخت، وأصبحت مثار اهتمام وتقدير. ولقد وصف أحد النقاد قصائدها بأنها لهب ينتقل من الورق إلي راحة اليد. وأنها تحمل القراء إلي عوالم سرية وسراديب من العواطف وتدخل بهم إلي المتاهة. كما وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها تجيد اختيار لحظات من تاريخ عائلتها ذعادة ما تتعلق بالعنف والجنس- إلا أنها تعالجها وتقدمها بطريقة خاصة، وتجعل منها تجربة إنسانية فريدة.
الضحايا
كنا سعداء حين حصلت أمي على الطلاق منك
تعايشت معك، تعايشت في صمت، طوال تلك السنوات،
ثم..
ركلتك بعيداً، بغتة، وأحب أطفالها ما فعلت.
ثم فُصلت من عملك، فابتسمنا في شماتة.
ابتهجنا لفكرة أنهم سوف يأخذون منك المكتب
والسكرتيرات، والوجبات المجانية
والخمور الغالية
وأقلام الرصاص، ورُزم الورق.
هل سيستردون السُترات والمعاطف المُعلقة
في خزينة الملابس، وأحذيتك السوداء؟
لقد علمتنا التعايش معك، وعلمتنا أن نكرهك

أمُر الآن على المُشردين، وأرى بعضًا من جلدهم الأبيض
يظهر من مزق ستراتهم، وأرى أطرافهم المُتسخة،
وغضب عيونهم الذي تخفيه الدموع، وهم يشاهدون السفينة
تبحر دونهم، فأسأل نفسي:
من تعايش معهم، تعايش معهم في صمت
حتى فقدوا كل كان ما لديهم
ولم يجدوا سوى هذا المصير!
النهاية
اتخذنا قرار الإجهاض، وأصبحا قاتلين.
مات توأم كان مُقدراً له أن يعيش.
بينما نتحدث عن الأمر في الفراش
سمعنا صوت ارتطام. لم يكن مُباغتاً.
اتجهنا إلي النافذة، ورأينا السيارتين المتصادمتين
وشظايا الزجاج اللامعة، كما لو كنا في الحداث.
سحب رجال الشرطة الجثث،
من نافذة الباب، والدم يغمرها مثلما
يحيط بالمواليد.
وضعوا الجثث علي الأرض، وغطوها بالبطاطين
التي سرعان ما امتصت الدم. بدأ الدم
يتساقط من بين فخذيّ. لم أتزحزح حتي وضعوا
أحد الجرحي في سيارة الإسعاف،
بينما نهض جريح آخر تغطي رأسه ضمادة
يلطخها الدم.
في صباح اليوم التالي،
جثوت علي رُكبتيّ، لتنظيف الدم.
أحك البقع الشفافة بقماش مُبلل بالماء،
مثلما تفعل النساء عند غسل وعاء
بعد انتهاء الوليمة.
الحدود
ليس صحيحاً أنها أتت لي من عالم آخر
لا أحد يأتي إلي هذا العالم،
ولا شيء يغادره.
أقصد أن ابنتي لم تلج جسدي
بل وجدت بداخله، ظهرت بداخلي.
وأمي لم تلج جسدي
حين رقدت إلي جواري وأخدت تصلي
من أجلي.
كانت أمي شديدة الدماثة
وتطهرية إلي حد يفوق الوصف،
لكن حواجز جلدي انهارت، وسقطت حواجز جسدي، وتهاوت
حواجز روحي.
نهضت وجذبت جلدي كما يجذب المغناطيس البرادة،
وكانت رغبتي شديدة في إرضائها، وأقول لها
ما ترغب في سماعه، كما لو كنت ملكها.
خدمتها طواعية، ثم أصبحت أشبهها،
ويتم انتزاعي من ذاتي.
حين كانت ابنتي بداخلي، شعرت أن لدي
روحاً في أحشائي، روح ولدت معها.
ولكنها عندما بكت، ذات ليلة، ذلك البكاء الصافي،
قلت: سوف أرعاكِ، وأقدمك علي نفسي.
لكن أستحوذ عليكِ مثلما استحوذت أمي عليّ،
لن أسبح في روحك، كما سبحت في روحي.
لن أسمح بتكرار ما حدث مع أمي.
سوف أوصد بوابات روحي.
التصنيÙ:
شعر