مع احتدام الجدل في الآونة الأخيرة حول المهاجرين واللاجئين السوريين الى الدول الاجنبية، نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية موضوعا حول حي في نيويورك عرف في القرن العشرين كموطن للمهاجرين من الشرق الأوسط ، كان يدعى بـ"سوريا الصغيرة".
على بعد مباني معددودة من مركز التجارة العالمي، وفي شارع متواضع كالكثير من شوارع نيويورك، وبين مبنى فندق الهوليدي ان والمساحات الخالية التي سترتفع فيها ناطحات السحاب قريبا، توجد ثلاث مبان واطئة بالمقارنة بمحيطها صمدت في وجه الزمن. هذه المباني هي الوحيدة المتبقية مما كان يعرف بسوريا الصغيرة... مجمع المهاجرين الشرق أوسطيين الأوائل في نيويورك.
اعتاد تود فاين، رئيس الجمعية التاريخية لشارع واشنطن، أن يقدم بشغف جولات توضيحية عن المنطقة للناس، الجمعية التي تضم مجموعة من الحريصين والمصممين على الحفاظ على تاريخ "سوريا الصغيرة". وبينما هو يتجول في المكان دخل الى أحد المطاعم موضحا أنه كان في السابق كنيسة سورية .
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، "سوريا الصغيرة" كانت في أوجها... موطنا مزدهرا للمهاجرين من الشرق الاوسط ، الذين أسسوا حيا سكنيا رائعا ثقافيا وتجاريا .
الان مع القليل المتبقي من هذا الحي الذي كان يوما ما مترامي الاطراف، ومع القليل جدا من السكان السابقين الذين ما زالوا على قيد الحياة، يقاتل تود فاين مع مجموعة صغيرة من الاشخاص للحفاظ على ما تبقى من “سوريا الصغيرة” على خلفية الجدل السياسي المحموم حول الهجرة وقبول اللاجئين السوريين .
ولادة "سوريا الصغيرة"
سوريا الصغيرة الممتدة عبر شارعي واشنطن وريكتور في الجانب الغربي من منهاتن السفلى كانت مركزا لاول مجتمع شرق اوسطي في نيويورك .
بحسب فاين فان المنطقة أصبحت وجهة للمهاجرين العرب في سنوات الثمانينات من القرن التاسع عشر، بعدما كان هذا الجزء من المدينة قد ملأه المهاجرون الالمان والايرلنديون في العقدين الثالث والرابع من القرن نفسه .
المهاجرون هؤلاء أتوا من المنطقة التي كانت تعرف بـ"سوريا الكبرى" او بلاد الشام، وتضم فلسطين ولبنان وسوريا والاردن، وكانت خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ومن هنا أتت تسمية الحي بـ "سوريا الصغرى".
سوريا الصغرى في ذلك الوقت اصبحت مركزا ثقافيا، بحسب ما قال فاين . في اوائل القرن العشرين كان المهاجرون من سوريا الكبرى قد انشأوا أكثر من 300 مشروع تجاري في نيويورك ، وطوروا العديد من المنظمات المجتمعية. وبين عامي 1890 -1940 تم إصدار اكثر من 50 صحيفة باللغة العربية بدأت عام 1892 بصحيفة "كوكب أميركا"، الصحيفة الاولى باللغة العربية في اميركا الشمالية.
وفقا لكارل انطون هوك احد اعضاء الجمعية التاريخية لشارع واشنطن، وسليل عائلة السعدالله اللبنانية، التي كانت تملك واحدا من اهم المشاريع التجارية في شارع واشنطن، فان سوريا الصغيرة " كان مجتمعا نابضا بالحياة، مشكلا من أبناء الطبقة العاملة، تماما كحال جميع مجتمعات المهاجرين في ذلك الوقت.
يقول هوك ان احد اكبر المفاهيم المغلوطة عن سوريا الصغيرة تلك التي تشير إلى أنه كان حيا غريبا عن محيطه في تلك الفترة. ويؤكد ان كل ما قرأه او سمعه من عائلته عن الحي يشير إلى العكس من ذلك، رغم اللغة المختلفة (العربية) التي استخدمها الناس ومظهرهم الذي بدا أيضا مختلفا عن بقية الاميركيين. يقول هوك:الصبية الصغار كانوا يلعبون في الشوارع والجيران يتبادلون الأحاديث عبر نوافذ المنازل ، وسكان الحي كانوا مضيافين ومرحبين بأي اميركي آخر يزور حيهم .
حياة قاسية لكنهم تدبروا أمرها
ليندا يعقوب، مؤلفة كتاب "غرباء في الغرب" الذي يتحدث عن المهاجرين العرب الذين استقروا في منانهاتن السفلى، تقول ان الحياة في سوريا الصغيرة كانت مشابهة لمثيلاتها في أحياء المهاجرين في شرق مانهاتن؛ فقد عانى المهاجرون الاوائل من ظروف صعبة، لقد كانت حياة بشعة.
عاش الناس في شقق داخل بنايات ممراتها قذرة، ومزودة بدورات مياه خارجية. تقول يعقوب التي جاء اهلها من سوريا الكبرى وعاشوا في هذا الحي أن الامراض كالكوليرا والسل كانت تنتشر بسهولة ، وكان الموت المبكر للاطفال شائعا.
وتتابع: بالنسبة للشوام في القرن التاسع عشر فان الأوضاع كانت مرعبة، لكنهم كأي مجموعة اخرى مهاجرة استطاعوا أن يجدوا طريقهم الى العيش في هذا البلد . وجميع من بقي منهم أصبح حاله أفضل مما كان عليه.
شوارع الحي كانت تمتلىء بالمطاعم ومقاهي التدخين، وجميع اللافتات كانت باللغة العربية. تقول يعقوب: مع أن الصحفيين كانوا يصفون سكان الحي بأنهم يرتدون ملابس غريبة، إلا أنهم كانوا يظهرون بالملابس الغربية في صورهم العائلية. أعتقد انهم كانوا يلبسون ملابسهم التقليدية أحيانا إما لجذب الزبائن لمحالهم التجارية، أو في المناسبات الخاصة.
تضيف: المهاجرون العرب كانوا في معظمهم فلاحين قادمين من القرى لذلك شكلوا ملامح الحي بطريقة تعكس صورة منازلهم في بلاد الشام، لكنها ايضا تشابه الحياة الغربية.
بداية الأفول
في العقد الأول من القرن العشرين معظم اولئك الذين جمعوا ما يكفي من الاموال بدأوا بمغادرة الشقق الضيقة، وانتقلوا قريبا من أحياء بروكلين، بما فيها مرتفعات بروكلين وجادة اتلانتيك. عائلة هوك كانت ضمن هؤلاء حيث انتقلت الى جادة اتلانتيك ،”سوريا الصغيرة –الجزء الثاني” كما دعاها هوك.
أما المنعطف الذي أدى الى زوال “سوريا الصغيرة” فبدأ مع بناء نفق بروكلين عام 1940حيث تم إجلاء العديد من سكان المنطقة ، بحسب فاين. وبعد ذلك جاء بناء مركز التجارة العالمي في الستينات من القرن الماضي الذي حدد مصير المجتمع المحلي لسوريا الصغيرة.
يقول هوك : هذا الحي عانى أكثر من أي حي آخر في المدينة ، هدفنا الاهم ان نكرم تاريخ هذا الحي الذي لم يتم احترامه .
القليل المتبقي
الحي الذي كان يوما يضج بالحياة لم تبق من آثاره الا القليل ، واولئك الذين عاشوا فيه يتناقص عددهم كل يوم . الجمعية التاريخية لشارع واشنطن قاتلت لحماية ثلاثة مبان متبقية من الحي هي الكنيسة الكاثولوكية السورية ، والمركز المجتمعي، والمبنى السكني رقم 109 في شارع واشنطن.
الكنيسة التي سجلت كمعلم في نيويورك في العام 2009 تقع في شارع واشنطن بجانب اطول مبنى لفندق الهوليدي ان في العالم . بنيت في العام 1812 بارتفاع 3 طوابق ، واصبحت منزلا للمهاجرين في الخمسينات من القرن نفسه، ثم كنيسة رومانية بعد الحرب العالمية الثانية، ليباع المبنى في العام 1982 وهو اليوم يحتوى على حانة. خارج المبنى زاوية حجرية للتعريف بالكنيسة تحجبها الأنابيب!
وأما المبنى السكني الذي يبلغ ارتفاعه 5 طوابق ويأوى نحو 50 شخص من المسـتأجرين، فيقع بجانب قطعة ارض خالية، ستشغلها قريبا ناطحة سحاب.
ورغم ان سوريا الصغيرة عرفت بأن غالبية سكانها من المسيحيين فان بقايا أثر قديم كشف عنها مؤخرا تلقي الضوء على وجود مسلمين عاشوا في هذا الحي.
البقايا هي لمسجد في شارع ريكتور بالقرب من الكنيسة الكاثوليكية السورية، وعلى بعد خطوات من مركز التجارة العالمي. المسجد كان ناشطا في فترة ازدهار الحي، لكن المبنى ازيل في منتصف الخمسينات.
حاليا المباني الثلاث المتبقية هي موضع خلاف بين الجمعية ولجنة المحافظة على المعالم في نيويورك . الكنيسة تمت حمايتها بتسجيلها بالفعل كمعلم لكن المببنيين الاخرين ما زالا تحت خطر بيعهما وازالتهما.
فاين واعضاء اخرين في الجمعية يحاولون منذ سنوات الحصول على اعتراف بالمبنيين دون جدوى. اللجنة اعتبرت ان المبنيين رغم وجودهما في حي سوريا الصغيرة الا ان العلاقة التي تربطهمها بالحي التاريخي محدودة، الامر الذي لا يوجب الاعتراف بهما كمعلمين .
لكن فاين يجادل بأن نوعية هندسة البنائين تظهر ارتباطهما بالتصميمات الهندسية الشامية.
سوريا الصغيرة تم تجاهلها ايضا عندما شيد متحف “11/9″الذي يوثق للهجمات الارهابية على مركز التجارة العالمي، ويعرض أيضا للتاريخ المحلي لمانهاتن السفلى. عندما اتصل فاين بادارة المتحف قبل افتتاحه بسنة ونصف، قيل له إن الوقت قد فات على إضافة أية صورة أو عبارة بخصوص حي سوريا الصغيرة. ويشتبه فاين بأن هذا الرفض سببه الرغبة بمحو تاريخ وجود عرب في هذا الموقع، لأن ذلك من شأنه إضفاء طابع انساني لطيف على العرب الأميركيين .
"كانت هناك فرصة، لكنها ضاعت، لنقول للاميركيين من خلال صورة واحدة أو جملة واحدة توضع في المتحف أن العرب والمسلمين عاشوا هنا وكانوا جزءا من تاريخ اميركا ومن المجتمع المحلي في مانهاتن".
سوريا الصغرى" كانت أيضاً مساحةً لازدهار الثقافة العربية في المهجر. إثنان من روّاد الرابطة القلمية، التي ضمّت أهمّ المفكرين والكتّاب العرب في أميركا، وهما جبران خليل جبران وأمين الريحاني، كانا يقطنان ذاك الحيّ. ومن شارع واشنطن، كانت تصدر عشرات الصحف العربية ومنها صحيفة "الهدى"، والتي كانت تُطبع بآلات استُحدثت هناك خصيصاً للطباعة بالأحرف العربية.
يصعب اليوم تخيّل ما كانت عليه "سوريا الصغرى" في يوم من الأيام، إذ لم يتبقّ من الحي سوى مبنيَين وكنيسة صغيرة. وتحاول مجموعة من النشطاء الإبقاء على ذكرى الفترة العربية للحيّ، لعلّ التذكير بتاريخ العرب في المدينة وإعادة طبعه في الذاكرة الجماعية، يخفّف من الإنطباع السلبي حول العرب في أميركا بشكل عام اليوم.
في مقال صدر العام 1899، وصف صحافيٌ، الحي السوري، بأنّ سكّانه متمسكون جدّاً بتقاليدهم ولباسهم وطريقة تفكيرهم، ما يجعلهم مختلفين عن "المواطنين الأميركيين العاديين". وذكر بأنّ الحيّ يحوي "عدداً من الفتيات رائعات الجمال".