أحدث المنشورات

"المكتبة الكُليّة" ‬ خورخى لويس بورخيس



 ترجمة وتقديم‮:‬‮ ‬يونس بن عمارة(أخبار الادب)

هذه المقالة لبورخيس هي نواة ‬قصته الأشهر‮ ‬مكتبة بابل ‬ومن الواضح من خلالها تأثره بقصة الرياضي الألماني كورد لاسفيتز‮ ‬المكتبة الكونية‮. ‬بعض الأمثلة التي ضربها بورخيس هنا حول ما‮ ‬يمكن أن تحتويه المكتبة الكلية ذكرت بالحرف في قصته مكتبة بابل‮.‬
يحظي اغراء تخيل أو التصور اليوتوبي لمكتبة كلية‮ "‬شاملة لكل شيء‮" ‬بعدّة خصائص‮ ‬يسهلُ‮ ‬خلطها بيسر مع الفوائد والمزايا التي‮ ‬يمكن أن تحتوي عليها مثل هذه الفكرة‮.‬
‮ ‬وقبل أن نبدأ‮ ‬يمكن أن نتساءل كم استغرق النوع البشري من الزمن حتي‮ ‬يصل إلي هذه الفكرة‮. ‬هنا سنجد بعض الأمثلة التي طرحها أرسطو ونسبها إلي ديموقريطس ولوقيبوس تتوخي بوضوح التفكير حول هذه المكتبة الكلية لكن‮ ‬يظهر أن مخترعها الأول‮ (المتأخر عنهم زمنياً‮) ‬هو غوستاف ثيودور فخنر ونصيره الأول كورد لاسفيتزــــ بين ديموقريطس من أبديرا وفخنر من لايبزيغ‮ ‬يتدفق ببطء نهر مثقل من أربعة وعشرين قرنا من التاريخ الأوروبي ــــ كانت رسائله معروفة جيدا ومتنوعة للغاية ما بين النظرية الذرية والتحليل التوفيقي والطباعة والحظ‮. ‬في كتابه‮ "‬السباق مع السلحفاة‮  ‬برلين،‮ ‬1919‮‬،‮ ‬يقترح الدكتور تيودور وولف أن فكرة المكتبة الكلية فكرة مستوحاة أو لنقل‮: ‬محاكاة ساخرة لآلة التفكير التي تخيلها ووضعها ريموند لول؛ وأود أن أضيف أنها نسخة حروفية من عقيدة العود الأبدي‮ ،‮ ‬هذه النظرية التي تبناها الرواقيون وأتباع بلانكيوالفيثاغوريين وحتي نيتشه‮. ‬وأقدم لمحة عن الأمر كانت في الكتاب الأول من ميتافيزيقا أرسطو‮. ‬وأنا أشير هنا إلي الفقرة التي تعرض فكرة لوقيبوس عن نشأة الكون والتي تنص علي أن الكون تكون عبر تشكيلات عشوائية من الذرات‮. ‬ولاحظ الكاتب هنا أن هذه الذرات التي تتكلم عنها هذه الفرضية ذاتُ‮ ‬طبيعة متماثلة والاختلافات تكمن في التموضع أو الترتيب أو الشكل فقط‮. ‬وليوضح هذه الفروق‮،‮ ‬أضاف الكاتب‮: "(‬أ‮) ‬يختلف عن‮ (‬ن‮) ‬في الشكل (‬أ،ن‮) ‬يختلف عن‮ (‬ن،أ‮) ‬في الترتيب،‮ ‬بينما‮ ‬يختلف‮ (‬ز‮) ‬عن‮ (‬ن‮) ‬في الوضعية‮. "‬و في مقالته عن‮ ‬الكون والفساد‮ ‬حاول الكاتب أن‮ ‬يوفق بين الاختلافات والفروقات الكثيرة للأشياء التي نراها في الواقع وبين بساطة الذرات وتماثلها،‮ ‬فقدم حجته المتمثلة في أن التراجيديا لديها نفس العناصر التي تحتوي عليها الكوميديا وهذه العناصر هي‮: ‬أربع وعشرون حرفا‮. ‬مضت ثلاث مائة سنة،‮ ‬ليؤلف ماركوس توليوس ثيشرون حوارا ساخرا متشككا عنونه‮ (‬في طبيعة الآلهة‮)‬ وفي الباب الثاني من هذا الكتاب حاجج أحد المحاورين بالحجة التالية‮:" ‬لا أتعجب من شخص تمكن من اقناع نفسه أن بعض الجسيمات الفردية الصلبة تلاطمت بفعل قوة الجاذبية وهذا التصادم العشوائي لهذه الجسيمات أنتج لنا هذا الكون الجميل الذي نراه الآن‮. ‬فمن‮ ‬يعتقد أن هذا ممكن من السهل عليه أن‮ ‬يقتنع أيضاً‮ ‬أنه لو كان هناك عدد لا‮ ‬يحصي من الحروف الذهبية المنفصلة‮ ‬يمثل كل واحد منها حرفا من أحد وعشرين حرفا من الحروف الأبجدية ثم رميت هذه الحروف بطريقة عشوائية علي الأرض‮ ‬يمكن أن تنتج لنا حوليات إينيوس‮. ‬بالكاد‮ - ‬أعتقد‮- ‬أن مثل هكذا حظ لا‮ ‬يمكنه حتي أن‮ ‬يكوّن لنا جملة واحدة‮ ‬يمكن قراءتها‮. ‬لا أملك النسخة الأصلية لهذا نسخت هذه الفقرة من النسخة الاسبانية لميرينديز اِي بيلاو‮ (‬الأعمال الكاملة لماركوس توليوس شيشرون 88)‮ ‬تحدث ديوسنوماوثنر عن أكياس من الحروف لكنهم لم‮ ‬يقولوا أنها مصنوعة من الذهب،‮ ‬مع أنه ليس محالا لهذا المكتبي الألمعي الشهير أن‮ ‬يدرج الذهب ويستبعد الكيس‮!" ‬وهذه الفكرة الحروفية لشيشرون عمرت طويلا في الفكر الغربي‮. ‬وبالمرور إلى منتصف القرن السابع عشر،‮ ‬ظهرت هذه الفكرة في الكتابات الأكاديمية لباسكال وسويفت‮. ‬ففي مطلع القرن الثامن عشر أكد سويفت علي هذه الفكرة في المقدمة التي كتبها لمنتقديه في رسالته‮ "‬مقالة مقتضبة حول مَلَكات الروح‮" ‬والتي هي عبارة عن معرضٍ‮ ‬متنوع لملاحظات ضئيلة متفرقة تشبه ما سيكتبه فلوبير لاحقا في كتابه‮ "قاموسُ‮ ‬الأفكار الواردة‮". ‬ثم بعد قرن ونصف،‮ ‬دعم ثلاثة رجال دعوي ديموقريطس ودحضوا شيشرون‮. ‬وطبعا بعد مضي مثل هذه المدة من الزمن،‮ ‬حتي مفردات وتشبيهات الجدل حول هذه الفكرة ستتغير بشكل كبير‮. ‬هكسلي‮ (‬والذي‮ ‬يمثل أحد أولئك الرجال‮) ‬لا‮ ‬يقول إن‮ "‬الأحرف الذهبية‮" ‬يمكنها فعلا أن تشكل بيتا شعريا لاتينيا في حال قمنا برميها بعدد كاف؛ بل قدم هذه الفرضية التي تقول إن نصف دزينة من القرود مع آلات كاتبة‮ ‬يمكنها خلال عدة حقب من الزمان أن تنتج كل الكتب التي توجد في المتحف البريطاني‮" ‬بكلمات أكثر دقة‮: ‬قرد واحد خالد سيكون كافياً‮.." ‬بينما لويس كارول‮ "‬أيضا أحد أولئك الثلاثة الذي رفضوا حجة شيشرون‮" ‬قدم ملاحظة في الجزء الثاني من روايته الرائعة الحالمة سيلفي وبرونو‮ -‬العام‮ ‬1893‮-‬أن عدد الكلمات في أي لغة محدود،‮ ‬هذا ما‮ ‬يعني أن‮  ‬تركيباتها المحتملة محدود أيضاً‮ ‬كذلك عدد الكتب المحتملة الناجمة عن مزج هذه الكلمات‮. "‬قريبا‮"‬،‮ ‬قال كارول،‮ " ‬لن‮ ‬يسأل رجال الأدب أنفسهم،‮ ‬ما هو الكتاب الذي سأكتبه‮ ".  ‬بل‮ " ‬أيُّ‮ ‬كتاب سأكتبه‮ " ‬ثم أتي لاسفيتز متأثرا بفخنر ليتخيل المكتبة الكُليّة‮. ‬ونشر قصته هذه في مجلد للقصص الخيالية بعنوان‮ " ‬حلم كريستالي‮ " ‬وفكرة لاسفيتز الأساسية هي نفسها فكرة كارول،‮ ‬لكن عناصر لعبته كانت الرموز الإملائية العالمية،‮ ‬وليس كلمات اللغة‮. ‬فقد اختزل عدد هذه الحروف-العناصر،‮ ‬المسافات،‮ ‬الأقواس،‮ ‬علامات الجمل الاعتراضية،‮ ‬والأرقام‮ ‬،‮ ‬ولم‮ ‬يكتف بالاختزال الأول فحسب بل ذهب في اختزالها حتي أكثر من ذلك‮. ‬فمثلا‮ ‬يمكن للأبجدية أن تتخلي عن حرف‮ » ‬q‮ « ‬والذي هو أصلا حرف‮ ‬غير ضروري و حرف‮ ‬‮»‬ x ‮« ‬والذي هو اختصار لحرفين‮) ‬وكل الحروف الاستهلالية الكبيرة‮. ‬كما‮ ‬يمكن استبعاد نظام العد في النظام العشري واختزاله إلي رقمين فقط،‮ (‬نظام العد الثنائي‮) ‬كما فعل لايبنتز ويمكن اختزال علامات الترقيم إلي الفاصلة والمسافة‮. ‬ولن‮ ‬يكون هناك أي علامات نبر كما‮ ‬يوجد في اللاتينية‮. ‬وبعدة طرق مماثلة من التبسيط‮ ‬
تمكن لاسفيتز من الوصول إلي خمس وعشرين رمزا‮ " ‬اثنين وعشرين حرفا،‮ ‬المسافة،‮ ‬النقطة،‮ ‬والفاصلة‮" ‬وهكذا من خلال تجميعهم واعادة تشكيلهم وتكرار ذلك‮ ‬يمكن أن تشمل المكتبة وتمثل كل شيء‮ ‬يحتمل التعبير عنه في كل اللغات‮. ‬مجموع هذه الاحتمالات من المتغيرات من شأنه أن‮ ‬يشكل مكتبة كلية بحجم فلكي‮ ( ‬خيالي‮). ‬حثّ‮ ‬لاسفيتز البشرية علي بناء مثل هذه المكتبة اللاإنسانية،‮ ‬التي ما من شيء‮ ‬يستطيع تنظيمها والتي من شأنها أيضا أن تقضي علي الذكاء‮. " ‬شرح وولف في كتابه السباق مع السلحفاة تنفيذ مثل هذا المشروع والأبعاد التي‮ ‬يمكن أن تأخذها مثل هذه المكتبة المستحيلة‮ " ‬ستحتوي كتبها المضللة علي كل شيء‮ ‬يمكن أن‮ ‬يوجد‮. ‬كل شيء‮: ‬التاريخ المفصل لما سيحدث في المستقبل،‮ ‬كتاب‮ "‬المصريين‮" ‬لأسخيلوس،‮ ‬الرقم الدقيق لعدد المرات التي عكست فيه مياه نهر الغانج رفرفة أجنحة صقر ما،‮ ‬الاسم السري والحقيقي لروما،‮ ‬دائرة معارف نافاليس ستكون معدة وكاملة هناك،‮ ‬أحلامي ونصف أحلامي التي رأيتها في فجر‮ ‬يوم‮ ‬14أغسطس‮  ‬193،‮ ‬برهان نظرية بيير فيرما‮ (‬برهنت العام‮ ‬1994‮)‬،‮ ‬الفصول‮ ‬غير المكتوبة لإدوين درود‮. ‬وترجمة هذه الفصول إلي اللغة التي‮ ‬يتحدث بها الجرمنتيون‮ (‬شعب بائد‮ ‬يعتبر أسلاف الشعب الطوارق‮) ‬والمفارقات التي وضعها بيركلي حول الزمن والتي لم تنشر من قبل،‮  ‬كتب‮ ‬يورزن الحديدية،‮ ‬المسودات الأولية لستيفن ديدالوس،‮ ‬والتي ستظل بلا معني حتي‮ ‬يمر ألف عام،‮ ‬انجيل باسيليدس الغنوصي،‮ ‬أغاني الحوريات،‮ ‬الفهرس العام للمكتبة،‮ ‬و فهرس آخر‮ ‬يبرهن علي أخطاء الفهرس السابق‮. ‬ستحتوي هذه المكتبة علي كل شيء لكن في مقابل كل سطر صحيح أو جملة دقيقة سيكون هناك ملايين السطور من الأخطاء الاملائية والكلمات عديمة المعني و الفوضي اللغوية والهراء‮.‬
تحتوي هذه المكتبة علي كل شيء،‮ ‬لكن‮ ‬يبدو أن أجيال‮  ‬البشرية كلها ستفني قبل أن تحن عليهم هذه الرفوف المتراكمة من الكتب التي ستستولي علي كل وقتهم،‮ -‬والتي‮ ‬يسكن الخواء والفوضي بين طياتها‮ -‬بصفحة واحدة ذات معني‮.‬
أحد عادات العقل البشري هي اختلاق خيالاتٍ‮ ‬مروعة‮. ‬اختلق العقل الحجيم،‮ ‬واختلق القضاء المبرم بدخوله،‮ ‬واختلق الأفكار الأفلاطونية،‮ ‬وكائن الكمير،‮ ‬والعنقاء،‮ ‬والأعداد فوق-نهائية الشاذة‮ "‬التي تنص أحد خصائصها علي أن اجزاءها ليست أقل أو أصغر من مجموعها‮!" ‬والأقنعة والمرايا والأوبرا والثالوث المشوه‮: ‬الأب،‮ ‬الابن،‮ ‬والشبح المعقد،‮ ‬متراكبة معاً‮ ‬في كائن واحد‮.‬
‮ ‬أُنهي المقال محاولا ألا أنسي رعبا أدني آخر وهو‮: ‬كبر حجم المكتبة،‮ ‬وتناقضها‮. ‬حيث أن هذه التلال البرية الكثيرة من الكتب تتغير بشكل مستمر ومتواصل إلي كتب أخري مما‮ ‬يؤكد،‮ ‬ينقض،‮ ‬ويشوش كل‮ ‬شيء موجود‮. ‬
   

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads