الدكتور محمد الحجيري: كان أبي، بين الحنين وصادق القول

alrumi.com
By -
0


سألني صديقٌ إن كان باستطاعتي أن أكتب شيئاً عن والدي، وفور ردّي اللاشعوري بالإيجاب شعرت بالندم لتسرّعي في قطعي للوعد. فترى كيف يمكن أن يتأتّى لي أن أصف ببضع كلمات واهية إنساناً فرداً دون الأنام خصني بعناية وازت نكرانه للذات، وأقلّه ما كان ليتردد في أعطائي كلّ شيء لديه دون مقابل ودون غاية. فالكلمات غالباً ما تنوء تحت وطأة الخفيف من المعاني والأفكار فكيف لها أن تحمل أوزانا فلكية من المشاعر الإنسانية التي تتعدّى الخيال. في شبابي عندما واجهتني المصاعب الكأداء في بحوثي في العلوم الرياضية، وعندما كنت أشعر أنّ اللغة المعتمدة تنوء بثقل المعاني وقد بلغت قدرة تحملها الحدّ الأقصى، ما يعني توقّف اللغة عن لعب دورها، كنت أردّ الأشياء إلى أصولها الأوليّة وأحاول الاستعانة بالنُظم الفلسفية، وغالبا ما كانت الفلسفة ترمم صدوع اللغة وتجدد قدرتها على حمل الاستدلالات الوازنة. فقليل من الفلسفة ربما أصاب الهدف.

أنا على يقين يا سادة، أنّ كلَّ إنسان ٍسويِّ السلوك، متوازنٍ في بنيتة الفكرية وفي علاقته بمحيطه الاجتماعي، سيواجه إرباكاً وصعوبةً حتمِيّين إذا ما اضطرته الظروفُ إلى الحديث عن سيرته الذاتية أو سيرة أهله، وغالباً ما يكون الأمرُ صعبا، وعسيرا، ومُحرجا لصاحبه. وقد حسمت القوانين الوضعيّةُ الأمرَ، فوفق الركيزة الفقهية لهذه االنُظم التشريعية تُعتبر شهادة الأقرباء، بعضهم في البعض الآخر، محكومةً بالعواطف، وغالبا ما تفتقر تلك الشهادات في مفاصلها الاستدلالية البنيوية إلى الموضوعية وإلى صيغ التضمن المنطقي وعلاقاته الشرطية ، وهذا ما صادرت عليه غالبية سنن التجمعات البشرية المعروفة. وواضح أنّ في الأمر تناقض، ذلك أنّ الإنسان أدرى البرية بمكنونات أفكاره وأعماله ومآربه وهفواته، ما استتر منها وما ظهر، وشهادته بنفسه ينبغي أن تكون الأكثر صدقا بين كلّ الشهادات. والأمر هنا معقّد كما نرى، ولا يجوز فيه بالطبع نسج الحقائق والوقائع على قياس الأشخاص وعواطفهم، فالحقيقة واشكالها المتعددة تتسم كلُّها وقبل كل شيء ب‍"الموضوعية" أي بالمقولة الأبقى والأكثرَ رسوخا وعمقا في منظومة نواميس الوجود. وتعلّمنا الممارسة أنّ الركون إلى مقولة "الموضوعية يحجّم "الذاتية" وأوهامها على غرار تبديد الشمس للضباب. ف‍"الموضوعية" تعني إلى حدّ ما تسليم ال‍"أنا" الإنسانية المحدودة في الحيّز الزمكاني الكوني، بالوجود المستقلّ عن أيّ إدراكٍ، لل‍"لاأنا". وثمة الكثير من الأمثلة الدامغة على هذه الحقيقة، فالكون قد كان قبل تكوّن الإدراك. وما "الذات المُدرِكة" على محدوديتها وضعفها وتبعيتها إلا دليلٌ دامغ على "إمكانية الإدراك الكامن لِ‍ "الموضوع" أي للواقع الموضوعي الذي يتسم إذن بخاصيّة مميّزة وهي "قابليته للإدراك الكامن". لقد بنى هيغل مثلا (وغيره الكُثر) فلسفته تحديدا على هذا الأساس: ف‍ "الفكرة الأولى" عند هيغيل قد أوجدت العالم لتدرك ذاتها من خلاله، ويجري هذا الإدراك في سياق سلوك لولبي تصاعدي للتطور تحكمة قوانبنُ الجدلية التي يُعبّرُ بواسطتها عن حتمية التطور وآليته وأسبابه الكامنة.

لن تُجديني هذه المداخلات الفلسفية نفعا فعلى الرغم من تمحيصي وتفكّري واستعانتي بالفلسفة، أظنّ أيّها السادة أنّ كتابتي عن والدي، على غرار الناس جميعا، لا يُمكن إخضاعها لقوانين المنطق ولا لمبادئ الفلسفة، ولم تُصَغْ حتّى الساعة في الكون لغةٌ، كلماتها معدّةٌ لحمل ثقل المعاني والعواطف التي يُحتاجُ إلى التعبير عنها عندما يتحدّث المرء عن أبويه. فأنا لن أنسى ما حييت كيف كان والدي يصطحبني طفلا وهو يحملني على كتفيه إلى منطقة "الجوبان" في خراج بلدتنا، حيث كان ينتقي لي التين من الشجرة وينزع قشوره ويُطعمني إياه قطعا صغيرة، وأذكر أنّه أفهمني أنّ العصفور أذكى من الإنسان بما يخص معرفة الثمرة الأطيب مذاقاً، وعندما صادفنا في أحد المرات أفعى رأيتها قبله لم يعبأ ومرّ من قربها بهدوء وأنا على كتفيه وهو يكرر لا تخف فهذه دودة كبيرة تعيش في جوارنا. أحيانا أشعر أنّ هذه التفاصيل حلم ولكنها ليست كذلك فهي جزء من الواقع الذي تحوّل إلى حنين لا يوصف. 

وأمّا والدي فهو يوسف عبد الرحيم أحمد زيدان حسين زيدان صالح زيدان الحجيري وفق ما أذكره من حديث أبي، وقد لُقّب في شبابه بيوسف البيضاء ومن ثمّ بعد الحرب الكورية عُرف أيضاً ب‍"النبي يوسف"، وأمّه فاطمة يوسف صالح زيدان حسين زيدان صالح زيدان الحجيري الملقبة بالبيضاء. وُلد ما بين عامي 1915-1916 بعد أسابيع من قبض السلطات العثمانية آنذاك على والده عبد الرحيم الذي جنّدته عنوةً واقتادته إلى الحرب على جبهاتها. وتفيد بعض المعلومات التي نقلها أشخاص كانوا معه وعادوا إلى ديارهم سالمين، أنّه أثناء نقله إلى تركيا قد حاول الفرار بغية الالتحاق بالثورة العربية على غرار أقربائه ومنهم الحاج المرحوم أحمد الحجيري (أحمد دابلة). ولكن محاولته باءت بالفشل حيث تعرض لإطلاق النار والسقوط شهيدا في مياه الفرات. نشأ والدي بمعية أخيه فهد الذي يكبره بست سنوات طفلين يتيمين في كنف الأرملة الفقيرة فاطمة صالح (أو البيضاء) وكان ذلك في زمن البؤس والمجاعة والأوبئة التي نشرتها وعززت قواعدها وحشيّة الحرب الكونية الأولى. وقد كان والدي كتوما بشأن تلك الحقبة ربّما لأنّه لا يذكرها جيدا، ولكنّه حدّثني أنّ جدّته من جهة أمّه، وهي سيدة من آل البريدي عُرفت بلقب فطوم صالح كانت قد أصبحت زوجة ليوسف كرنبي بعد وفاة زوجها الأوّل يوسف صالح ممّا جعل للبيضاء أخوة وأخوات من ناحية الأم. والمثير في الأمر هو أنّ هؤلاء الأخوة والأخوات للبيضاء قد كانوا ميسوري الحال نسبيّا ولم يترددوا في مساعدة الأرملة الفقيرة ويتيميها الصغيرين وذلك بشهادة أبي الذي حفظ جميل أخواله وخالاته آل كرنبي إلى يوم مماته. توفيت البيضاء باكرا ربّما في سنّ الأربعين تاركة ولدها الأصغر وحيدا بعد أن تزوج أخوه الأكبر وأسس أسرته الخاصّة.

سأسرد الحقائق عن والدي بواسطة مقتطفات سأراكمها شيئا فشيئا، وتُثبت التجارب يا سادة ومنها هذه المقنطفات أنّ الحياة تجد طريقها على الدوام، ومهما كثرت العوائق.

سأتوقّف عند بعض المحطات القليلة ممّا ورد ذكره أمامي على لسان أبي في مسيرة العذاب والبؤس التي خاض غمارها الشاب اليافع "يوسف البيضاء" وذلك بهدف الوصول إلى لقمة العيش وتكوين الذات:

الشاب اليافع يوسف
المحطّة الأولى:
جبل المكمل وموت الطفل اليتيم بردا وجوعا: لقد حدّثني والدي عن رحلةٍ، قام بها مشيا على الأقدام إلى شمال لبنان بحثا عن عملٍ وبصحبة بعض أقربائه البالغين. وقد جرت هذه الرحلة شتاءاً، وفق التقدير ما بين عامي 1930 و1932. ولقد جرى خلالها اجتياز جبل المكمل إبان عاصفة ثلجية عاتية حيث شارف الطفل يوسف على الموت من البرد والصقيع. ولكنّ للأقدار حساباتها ونواميسها الخفية، فقد نجح مرافقوه بنقله إلى بلدة قريبة حيث أسعفه أهل الخير الذين جعلوا الروح تدب في جسده من جديد. وفق ما كان الوالد يقول...وأغلب الظنّ أن تكون البلدة المذكورة ضاحية من ضواحي بشري..

المحطة الثانية:
الملاريا والموت من جديد.
حوالى العام 1930 تعرّض الطفل يوسف للموت من جديد بسبب إصابته بالملاريا (حمى البردية) وذلك إثر عمله في منطقة مجاورة لمجرى العاصي كثرت قيها المستنقعات والبعوض آنذاك وقد أنقذه من الموت المحتم البدو الرحل بعد أن فقد الوعي أياما بلياليها بسبب الحمى.. 

"النبي يوسف" وتطوّر القوى النفسية

لقد عهدت شخصيّا لدى والدي حدساً قويّا وحواس حادّة فوق المألوف، إذ إنه أحيانا كان يرى ما لا نراه ويسمع ما نعجز عن سماعه وكانت قوّة الفراسة عنده ملفتة، ذلك أنّه كان يحدّد بدقة غريبة نسب الطفل أو الشاب من أهل القرية لمجرد رؤيته، فيقول مثلا هذا الصبي من آل فلان وجده أو والده فلان وكان نادرا ما يخطئ، ولم يبلغ مسامعي يوما أنه أخطأ في ذلك، واعتقدت في البدء أنّ هذه المعلومة مقتصرة عليي دون غيري. ولكنني تأكدت لاحقا أن اعتقادي كان في غير موضعه، وقد فوجئت مرارا وتكرارا بأناس يأتون إلى منزلنا ليستشيروا والدي بأمورهم وأعمالهم وبقضايا لا علاقة له بها البتة. ويجب هنا أن أشير إلى أن والدي كان معادياً للمشعوذين وكان يعتبر نصح الناس وإرشادهم إلى الصواب فعل خير وعبادة ولا يجوز تلقي أي بدل عنه. وكانت تلك "الاستشارات" مجانية دون أي بدل مادّي. وكان متديّنا بعمق، ولكنه غالبا ما انتقد من يمذج الدين بالخرافات، وكان يعتبر العقل أسمى الأيات الربانية وكل ما يناقض العقل فهو غريب ولا علاقة له بالدين. وانتقد بحضوري بعض المفسرين بشأن الملائكة وقال الملائكة هم قوانين الكون وربما كان إسرافيل هو قانون الجاذبية بعينه... وفق دراستي قد أشتهر والدي بصدقية تنبؤاته في الفترة التي سبقت الحرب الكورية، فقد نصح أصحاب المواشي (الأغنام والماعز) الذين شكلوا أنذاك أكثر من نصف سكان البلدة بتخزين الصوف ووبر الماعز وعدم بيعه لأن أسعاره ستحلق وهذا ما حدث بالفعل. وثمة أمور ومسائل فردية وعامة أخرى كثيرة كان قد أصاب فيها ومنها مثلا توقعه الأحداث المشؤومة في البلدة عام 1964، والحرب اللبنانية الخ. 

لقد توصلت إلى نتيجة مفادها إن كل تلك الظواهر التي يصعب تفسيرها مردّها إلى قوة الحدس لا أكثر ولا أقل. لقد حدّثني رجلان من أتراب والدي عن حادثة جرت أمامهما: منذ زمن بعيد، حيث اجتمع بعض أقارب وزملاء الوالد حوله في ساحة آل زيدان وبدأوا يمازحونه بشيء من التهكم بشأن النبوءات حتّى أنّ أحدهم تحداه بأن يعرف ماذا يوجد في جيوب حزام احد المارة المقبل من بعيد ونظر الوالد إلى الرجل المذكور وقال للحاضرين انتظروا فهو يأكل قديد التين وفي جيوب حزامه يوجد سكين "جنبيّة" وخرزة زرقاء ولا يوجد أي شيء آخر. عندما اقترب الرجل بان للحضور أنّه عجوز سبعيني فاستوقفوه بعد السلام وسألوه ماذا تأكل ففتح كفه فإذا بها قطع من قديد التين، ومن ثم سألوه ثانية وماذا في جيوب حزامك ففض جيب حزامه قائلا سكين لقص الإجاص وقال له أحدهم أليس لديك في الحزام خرزة زرقاء، فقال لقد اشتريته منذ سنوات طويلة ولكنني لم أضع فيه يوما خرزة زرقاء. عندئذٍ تدخل الوالد وطلب من العجوز أن يخلع الحزام وينفضه ففعل وأذا بالخرزة الزرقاء تقع متدحرجة بيت الأقدام التي انفضت سريعا نظراً إلى الإحباط المعنوي الذي اعترى أصحابها لتبقى قدما والدي بمقاسهما الطفولي 36 إلى جانب خرزة العجوز الذي واصل أكله قديد التين ولكن نهمه لم يخف حيرته لوجود تلك الخرزة العجيبة في حزامه ولكن دون علمه. يتبع

(*) باحث في الجامعة اللبنانية، كلية الهندسة الفرع الاول له عدة مؤلفات منشورة وغير منشورة.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)