الحياة ١٥ يونيو/ حزيران ٢٠١٦
أوحى إريك كانتونا، أحد الإداريـــيـــن الريــاضـــيــــين الفرنسيين ولاعب الهجوم سابقاً في منتخب كرة القدم، في مقابلة مع صحيفة الـ «غارديان» البريطانية (في 26 أيار – مايو المنصرم) بأن استبعاد المدرب ديدييه ديشان اللاعبين كريم بنزيمة وحاتم بن عرفة من الفريق الوطني المنافس على كأس اوروبا يعود الى «أصولهما الشمال أفريقية». ويعلق كانتونا على إشارته الأولى فيقول: «ولا شك في أن أصول بن زيمة وبن عرفة شمال أفريقية» والمناقشة على هذا، مفتوحة». و «المناقشة» لم تلبث أن انقلبت سجالاً بعد قول كريم بن زيمة الى اليومية الرياضية الإسبانية «ماركا» أن «ديدييه ديشان نزل على إلحاح جزء عنصري من فرنسا». وفي «فرانس فوتبول»، أسف جمال دبوس، الممثل الكوميدي، لغياب «مندوبينا في فريق فرنسا». فهل ينبغي أن يكون فريق كرة القدم الفرنسي مرآة تنوع فرنسا الأهلي، وذلك وفق نظام يراعي «الأصول» (الشمال أفريقية والإسبانية والتركية والإيطالية والبولندية... والباسك والبريطانية والألزاسية...) في إطار سياسة تمييز إيجابي؟
فرياضة كرة القدم المحترفة، مع رياضات أخرى مثل ألعاب القوى أو الملاكمة، هي فعلاً مسرح من مسارح ظهور أفراد تربطهم تواريخهم العائلية بالعلاقات التاريخية التي تشد فرنسا (وبريطانيا وإسبانيا...) الى مستعمراتها السابقة، من جهة، وبـ «البوتقة» الوطنية الراهنة، من جهة أخرى. فثمة، في هذا الضوء، وجهان لكرة القدم الفرنسية: وجه التوليد والتنوع الإيجابي، ووجه الاحتفاء الأيديولوجي بالأصول والتلويح بها. ومنذ فوز فريق فرنسا بكأس العالم في 1998- وأحرز الفوز فريق لاعبين مختلط و «ملون» (أسود وأبيض ومغربي أو شمال أفريقي عربي)- تغير رأي الفرنسيين في الأمر. وساهم الإعلام وإخراجه مسألة التنوع، في هذا التغيير. فأمسى التلويح بالأصل، القومي (الاثني) أو الثقافي وعداً بفوز رياضي مرجح، وعلى الخصوص في رياضات شعبية مثل الملاكمة وألعاب القوى وكرة القدم. وأقبل الصحافيون والبرلمانيون على التنويه بـ «التنوع»، ورهنوا به «الدمج بواسطة الرياضة».
ويروي ميشال بلاتيني في مقابلة مع «لومانيتيه» تعود الى 2005، أن مساعد عمدة مدينة بلفور رحب به، وكان يومها مدرب المنتخب الوطني، قائلاً أنه (أي بلاتيني) خير مثل على الاندماج، وهو يلمح الى أصول بلاتيني الايطالية، فأدهش التلميح المدرب واللاعب الذائع الصيت: «فأنا لم أحسِب نفسي يوماً أجنبياً، ولم يسبق أن تكلمت الايطالية، وكذلك أبي، وجدي كان يتكلم الفرنسية، فأنا من جيل (الهجرة) الثالث». ولم يذكّر بأصول زين الدين زيدان الأمازيغية، وبتعلقه بـ «وطنه الأم» الجزائر، إلا في وقت متأخر حين تبارى فريقا الجزائر وفرنسا في 2001. ويومها دعاه الإعلام الى الخوض في أصوله ومشاعره «الوطنية»، وانتهى به الأمر الى الإقرار تحت وطأة الأسئلة وإحراجها، بأنه يتوقع «غصة في القلب» وهو يطأ ملعب المباراة.
وفي حقل العلوم الاجتماعية، حل تعليل الإقصاء بالأصول «القومية والأهلية» محل التعليل بالأصول الطبقية الاجتماعية. وكان تناول تنوع لاعبي كرة القدم، الى ثمانينات القرن الماضي، يشدد على عوامله الاجتماعية. وعلى هذا، فريمون كوبا KOPA، لاعب فريق فرنسا الأول في خمسينات القرن العشرين، وصف بأنه عامل مناجم وابن عامل مناجم، وصوَّر في صورة ابن الطبقة العاملة والبروليتاريا. وقلما ذكر بأصله البولندي. وأصل اللاعبين المتحدرين من الجماعات المهاجرة لم يمحَ، ولكنه ألحق بالأحواض المنجمية والصناعية المحلية.
وعلى خلاف التحليل «التقليدي» الذي نحت إليه الاجتماعيات الفرنسية، وأولت بموجبه الطبقات والفروق الاجتماعية محل الصدارة، مالت الاجتماعيات تدريجاً الى انتهاج فكر جزئي، على قول جان – لو أمسيل، الباحث في الإناسيات، وأعملت الأبواب الإثنية في وصف العلاقات الاجتماعية، واقتبستها عن الدراسات الثقافية وما بعد الكولونيالية الانغلو – ساكسونية. وغلب هذا النهج بعد 2005، وروجت له جماعات ناشطين من أمثال «ليه زانديجين دو لاريبوبليك» (بلديو الجمهورية) وحركات الدفاع عن الأقليات العرقية الأهلية على مثال ثقافي متعدد.
وتشارك كرة القدم الاحترافية، وهي مجبولة بالتنوع الذي تستعرضه على الملأ ورؤوس الأشهاد، مشاركة حادة في حمل المجتمع على جماعاته الأهلية القومية، وتعليل أحوال أفراده بأصولهم. و «قضية الحصص» التي كشف عنها موقع «ميديا بار» في ايار (مايو) 2011 علامة صريحة على توطين الاتنيات في المجتمع وتجنيسها فيه. ودعا بعض المسؤولين الإداريين عن رياضة كرة القدم الفرنسية في أحد الاجتماعات الى قصر اللاعبين السود الشبان على 30 في المئة من جملة المتدربين»، وسوغوا التوصية بأسباب «شكلية». وربط «صورة» اللاعب (ولونه) وأدائه بأصله القومي العرقي من الآراء النمطية والعنصرية السائدة في عالم كرة القدم. ويحسن التذكير ربما بأن لفظة «بلاك» (أسود) غلبت تدريجاً في الدعايات وملاعب المدارس وفي كرة القدم، على شاكلة اسم جنس إيجابي، بعد أن تبنتها ضواحي المدن الكبيرة، ومدحت بها الثقافات الأفريقية- الأميركية.
وهذا المضمر العرقي سرى في لغة تخاطب اللاعبين وفي أقوال المدربين الذين ينسبون الى الرياضيين فضائل ملازمة لأوطانهم الأولى وأصولهم الثقافية. وعلى سبيل المثل، صرح مدرب نادي بوردو ولاعب بايرن ميونخ سابقاً، فيلي ساغنول، في مقابلة تعود الى 2014، بأن «امتياز اللاعب النموذجي الأفريقي هو تأهيله عموماً للصراع على أرض الملعب واستعداده القوي للدفاع عنه». وقال: «ولكن كرة القدم تقوم على التقنية والذكاء والانضباط وتحتاج الى هذا كله كذلك، الى أهل الشمال. وأهل الشمال لا غنى عنهم وهم أصحاب عقلية جيدة». وهذه الأقوال في الفضائل المفترضة لـ «لاعب الأفريقي النموذجي»، و «عقلية» اللاعبين وفق أصولهم الثقافية، أثارت سجالاً حاداً، ودعت هيئة مناهضة العنصرية الى لوم صاحبها.
فكأن غلبة التعيين القومي الأهلي على المسألة الاجتماعية المتوارية، تحت وطأة تسويق التنوع (القومي الاهلي)، وجه من وجوه تسليم أوروبا لمثال المنافسة وصراع الأفراد ومجموعات الأفراد على المكانات والمواقع. فتتغذى النيوليبرالية والعصبية القومية الأهلية الواحدة من الأخرى، وتقوي الواحدة الأخرى. وتحولت كرة القدم مختبراً لحمل العلاقات الاجتماعية على الإثنيات، وتنظيم المجتمعات على مثال هذه.
* أستاذ كرسي اجتماعيات الرياضة الأوروبية في جامعة ستراسبور، عن «لوموند» الفرنسية، 3/6/2016، إعداد منال نحاس