قد يكون ابن خلدون من أفضل، وأكثر المفكّرين العرب القدماء حضورا في حياتنا العربيّة المعاصرة، ومن أشدّهم آرتباطا بها على مستويات مختلفة ومتعدّدة. فالمسائل والقضايا التي تطرّق إليها، وفيها بحث، وتمعّن، وفكّر بعمق، لا تزال حاضرة بقوّة في حياتنا السياسية والإجتماعيّة والفكريّة. وما أظنّ أنّ النّظم السياسيّة منها والملكيّة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، ومكانة النخب المثقّفة في المجتمع، وغيرها من القضايا، يمكن أن تفهم راهنا من دون العودة إلى أطروحات ابن خلدون في "مقدّمته" الشّهيرة. فمثلا نحن نتلمّس من خلال الفصل الذي حمل عنوان "في أنّ الأمّة إذا ما غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء"، الأسباب التي أدّت بالعرب إلى مثل هذه الحالة الفظيعة من الوهن والضّعف والهوان والإنقسام والتشتّت حتّى أنهم باتوا عاجزين عن "المدافعة عن أنفسهم، ومغلَّبين لكلّ متغلّب، وطعمة لكلّ آكل". وأمّا في الفصل الذي حمل عنوان: "في أنّ الدعوة الدينيّة من غير عصبيّة لا تتمّ"، نحن نقف على العديد من الجوانب المتّصلة بالحركات الأصوليّة التي "سرقت " ثورات ما سمّي بـ"الربيع العربي"، وآنحرفت بها عن ألأهداف التي آندلعت من أجلها. ففي هذا الفصل يتحدّث آبن خلدون عن الذين نصبوا أنفسهم منذ البداية "حماة الإسلام في جوهره الصّحيح". وآعتمادا على ذلك هم آرتكبوا، ويرتكبون جرائم شنيعة وفظيعة، مبيحين القتل والذّبح والتّمثيل بالأجساد، وهدْر الممتلكات العامّة والخاصّة، وخطف الأبرياء للمطالبة بالفدية بدعوى"الدفاع عن الاسلام والمسلمين".
وكان المفكّر الفرنسيّ الكبير هنري كوربان على حقّ عندما ذكر في كتابه المعروف:”تاريخ الفلسفة الإسلاميّة" بأن الفكر العربي ظلّ بعد آبن رشد صحراء قاحلة إلى أن جاء آبن خلدون”. فقد ملأ كتاب "المقدّمة" فراغا هائلا، ومن خلاله قدّم صاحبه رؤية غاية في الدقّة، والعمق للحياة السياسيّة، والإجتماعيّة في عصره، وفي العصور السّابقة لعصره راصدا كلّ التحوّلات، والأحداث الخطيرة التي عجّلت بآنهيار الحضارة العربيّة-الإسلاميّة. وقد لا نكون مخطئين عندما نقول بإنّ الفكر العربي منذ رحيل ابن خلدون وحتى يومنا هذا هو في الحقيقة "صحراء قاحلة".فبآستثناء بعض الومضات نحن لا نكاد نعثر على ما يشفي الغليل، وما يضاهي ولو بنسبة قليلة كتاب "المقدّمة"، وعلى ما يوازيه في عمق التحليل، وقوة الحجّة، ورصانة العقل. والمفكّرون اليوم في عالمنا العربي هم في الواقع مقلّدون لا مبدعون. وهم لا يولّدون أفكارا ومفاهيم، وإنّما هم ينقلون ذلك عن فلاسفة، وعن مفكرين غربيين. وغالبا ما يكون هذا النقل سيّئا أو معطوبا. ونظرا لعدم قدرتهم على فهم واقعنا المعاصر،والإحاطة بتعقيداته، هم يلجؤون الى التجريد والغموض، أو هم يظّلون على السطح فلا ينفذون إلى الأعماق أبدا. ونحن لا ننكر أن هناك مفكرين سعوا إلى الإستفادة من فكر ابن خلدون، ومن وحي "مقدمته" قدموا العديد من الأطروحات الهامة عرضوا من خلالها قراءات لواقعنا المعاصر. كما أنهم سعوا أن يستخرجوا منها ما يمكن أن يمدّهم بوسائل جديدة في البحث والتحليل. مع ذلك يظلّ كلّ هذا غير كاف لأسباب عديدة. ومن بينها أن آبن خلدون، مثل العديد من المفكرين القدماء، لا يزال في نظرنا ضحيّة نظرة يمكن وصفها بـ"التقديسيّة". نظرة تحيله إلى الماضي البعيد، أكثر ما تحيله إلى الحاضر والمستقبل.
لقد قال هايدغر ذات مرّة بإنّ الفكر لا يستفيد إلاّ من ذاته، ولا يمكن أن يتطوّر من دون العودة إلى مصادره الأولى. ونحن نعتقد أن العودة إلى ابن خلدون تفترض ألاّ ندرس فكره لإقناع أنفسنا، وإقناع الآخرين الذين أصبحوا أسياد عالم اليوم بأنه كان لنا في القديم مفكرون عمالقة بفضلهم أشعّت حضارتنا على العالم،وإنّما لكي يكون هذا الفكر مضيئا لنا في عتمة أيّامنا الحاضرة، ومحرّضا إيّانا على بذل المزيد من الجهد لكي يكون فكرنا المعاصر فكرا خلاّقا، لا فكرا ناقلا، فكرا متحرّكا لافكرا جامدا، فكرا متحوّلا لا فكرا ثابتا، عاجزا عن الإستفادة من مصادره الأولى، وعن النّهل من تلك الينابيع التي ما نظنّ انها نضبت رغم القرون المديدة الني تفصلنا عنها. من هنا اعتقادنا بأنّ أحدأسباب الجدب الفكري الذي نعيشه راهنا، والذي أدّى إلى آنتشار الأفكار الصفراء والفتاوي الظلاميّة هو "تحنيطنا" لرموزنا الفكريّة القديمة مثل ابن خلدون الذي لا زلنا عاجزين إل حدّ كبير عن الإستفادة الحقيقيّة من "مقدمته". لذا ليس من الغريب أن يصبح الخطاب الديماغوجي سيّد الموقف، وان تغزو مجتمعاتنا فتاوي تجّار الدين، ودعاة الفتن، وأدعياء آمتلاك الحقيقة المطلقة!