محمد علي كلاي من خائن إلى بطل تتكسر لكمات الخصم الشاب على صدره

alrumi.com
By -
0
جويس كارول أوتس

كاسيوس كلاي، المولود في 1942، كان حفيد عبد مسلوب الحرية. وفي أميركا، كان دور الرياضي الأسود، وتحديداً الملاكم الأسود، يقتضي محو الذات وطمسها. وكان مشهد رجل أسود قوي يكدر الرجل الأبيض، ويؤجج قلقه. لذا، اقتضى طمس هذه القوة وتسكين هذا القلق. وكلما كان الملاكم الأسود عظيماً (جو لويس، وآرشي مور، وإيزرد شالز)، مسّت الحاجة إلى التزام الحذر والإمساك في دوائر العلانية. ولم تكن السخرية دافع رجال بيض لطفاء على نصح المهاجمين السود بـأن يكونوا قدوة تعزز صدقية أبناء عرقهم.
ولكن كاسيوس كلاي/ محمد علي رفض هذا الدور المخصي. فهو لم يشأ أن يكون «نيغرو» (زنجي) الرجل الأبيض- وأن يكون على صورة الرجل الأبيض. وانتسب إلى أمة الإسلام في الثانية والعشرين من العمر. وإثر الفوز في بطولة الوزن الثقيل، شجب اسمه، وهو اسم رق وعبودية (وكاسيوس كلاي هو اسم والده كذلك)، والديانة المسيحية. وحين رفض الخدمة (الإلزامية) في الجيش (الأميركي)، لم يخف دوافعه السياسية قائلاً: «لن أذهب للقتال في صفوفهم ضد فييت كونغ». والرد عليه كان عنيفاً: وبعد أن كان يُستقبل الملاكم الشاب بالاحتفاء، صار يستقبل بصرخات الاستهجان. وانهمرت عليه سهام التنديد. وواصلت منشورات محترمة، بينها «ذي نيويورك تايمز»، الإشارة إليه «باسم عبوديته» كاسيوس كلاي طوال أعوام. وحكم عليه بالسجن 5 سنوات لرفضه الخدمة العسكرية. ولكنه لم يتراجع، ولم يسجن، ودفع غرامة قدرها 10 آلاف دولار وسحبت منه رخصة الملاكمة للحؤول دون مواصلته مهنته، ولبترها في ذروتها. وأقدمت وزارة الخارجية على إجراء نذل، وصادرت منه جواز سفره لتحول دون ملاكمته في الخارج. وبعد ثلاث سنوات ونصف، كرس من جديد ملاكماً محترفاً. وفقد في الأثناء شطراً كبيراً من ليونة شبابه. ولكنه لم يستسلم أبداً. ولسان حال البطل: لا يتخلى المرء أبداً عن قيمه الراسخة، ولا يستسلم.
وعلى رغم أنه بلغ ذروة الشهرة في الستينات، لم ترسخ عظمته إلا في السبعينات. ولم يتخيل أحد أن علياً، بعد التعليق الطويل لمهنته في الملاكمة، سيوسع آفاق رياضة الملاكمة ويغنيها، إثر انقضاء ذروة شبابه، وتباطؤ حركة ساقيه، وضيق نفسه. فمن رحم البراعة المولودة من اليأس، أعاد ابتكار نفسه رياضياً تتكسر لكمات الملاكمين الشباب على جسمه الصلب والعنيد. ولم يعد قادراً على «الطواف مثل فراشة»، فصار يتكئ على الحبال، مثل جرم ثقيل حي، ويسمح لغريمه السيئ الطالع من أمثال جورج فورمن باستنزاف نفسه محاولاً توجيه الضربة القاصمة إليه. وتوسله حيلة «روب-إيه-دوب» (الإيحاء للخصم بأن الملاكم عاجز عن الابتعاد عن حبل الحلبة لاستدراجه إلى لكمات غير مجدية تستنزف طاقته) في 1974، على رغم أنها حيلة أو خدعة شائنة، هو سلوك براغماتي وقدرة على الاحتمال وضبط النفس في سبيل غاية (الفوز). ومثل هذه الغاية تسوغ الوسيلة (وهي وراء إلحاق أذية لا عودة عنها بالجسم والدماغ). والمشاهد يشعر بالرعب حين يدرك أن ضربة واحدة يوجهها فورمن إلى امرئ ليس بملاكم هي ضربة قاتلة. وكم من الضربات تلقى (محمد) علي وامتصها، كأنه في حكاية خرافية تلد الدراما من قلب التوقعات رأساً على عقب. ومع الخسائر الفظيعة التي تكبدتها صحة (محمد) علي، فاز من جديد بلقب بطل الأوزان الثقيلة في سن الثانية والثلاثين، وهزم فورمن ابن الخامسة والعشرين. وعلى ما هي عظمة (مباراة) علي- فورمن، لا تقارن بثلاثية الملاكمة بين علي وجو فرايزر في 1971 و1974 و1975. ففي الأولى، فاز فرايزر، و(محمد) علي في الثانية والثالثة. وهذه جولات ملاكمة هائلة، ومسرح لقدرة الاحتمال البشري والشجاعة و «القلب»، أي مسرح لما لا نظير له في تاريخ الملاكمة. وفي الملاكمة الأولى، تلقى (محمد) علي لكمات قاسية ومتتالية، ولكنه لم يستسلم، وفي الثانية والثالثة فاز على فرايزر المنهك، وبذل في سبيل ذلك ثمناً صحياً يعصى على المرء احتساب وقعه- «هو أقرب شيء إلى الموت»، قال علي عن الملاكمة الأخيرة. وعلى رغم هذه الآثار المدمرة، استغل مديرو أعماله والمروجون له طاقة (محمد علي) واستنفدوها عوض حمايته. وتوالت فصول مهنته إلى 1981، وانتهت إلى خسارة مدمرة أمام تريفور بيربيك الأكثر فتوة. فتقاعد محمد علي، بعد 61 مباراة ، و56 فوزاً.
وغموض محمد علي مصدره عظمة روحانية انبثقت من شخصية عادية وقليلة الخبرة. ومع مرور الوقت، تحول المتمرد الذي شتمه أميركيون كثر إلى بطل أميركي، على وقع تبدد أوهام حرب فيتنام. والشاب الذي اتُهم بالخيانة تحول إلى أيقونة زمننا، وإلى شخصية حنونة تسمو على العرق.
وسما (محمد) علي على أصوله وهويته الخاصة. فهو قال ذات مرة: «الملاكمة ليست شيئاً (يعتد به). وليست مهمة أبداً. هو طريق قاد العالم إليّ وقادني إليه».


* روائية، صاحبة «في الملاكمة»، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 6/6/2016، إعداد منال نحاس

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)