نحن نعلم بأنّ العراقيين هم من اخترع الدين، ولا أعتقد أن هناك جدالاً حول هذه البديهية التاريخية. وهم الذين أوجدوا الآلهة بصفاتها الخيّرة والشريرة على السواء. ومثلما اكتشفوا الدين اكتشفوا الخمرة والحانات والمواخير وكذلك فكرة الوجود الإنساني قبل الفلاسفة الوجوديين من أمثال كيركيغارد ونيتشه وهايدغر وسارتر بخمسة آلاف عام. وكان قدماء العراقيين يفعلون مثلما تفعل الإدارة الأميركية اليوم، فيخرعون إلهاً ليخدعون به الناس أعواماً ويسرقون أموالهم ثمّ سرعان ما ينقضون عليه إذا ما رأوا في الانقضاض عليه وخلق آله آخر مضاد له أكثر منفعةً ومردوداً اقتصادياً، تماماً مثلما اخترعت أمريكا تنظيمات القاعدة وطالبان وداعش ثمّ حاربتها لتأتي بمن هم أكثر داعشيةً من هؤلاء الإسلاميين الحمقى كلّهم. ولم أرّ في حياتي شعباً بعيداً كلّ البعد عن الدين وطقوسه وشعائره مثل بعد العراقيين عن الدين. ولو قارناهم بتديّن المصريين على سبيل المثال لوجدت البون واسعاً، فهناك ترى حتّى القبطي يقسم بحياة النبيّ محمّد. ولكي لا نطيل الحديث، خاصةً وأنّ الفيسبوكيين لا يحبّون الإطالة، فنذكر أربعة أمثلة وحسب، ومنها كتاب "الشخصية المحمديّة" للشاعر الوطنيّ معروف عبد الغني الرصافي، وهو كتاب لم يقرأه العراقيون على ما أعتقد. وقد كتبه الرصافي أثناء اعتكافه في بلدة الفلوّجة التي تقصفها الطائرات الأميركية ومدفعية ولاية الفقيه العجمية الآن – وهو اعتكاف لا يشبه اعتكاف الصدر والسيستاني – ونذكر منه هنا ملاحظة واحدة سجّلها الرصافي على صلاة المسلمين فقال "إني لأعجب من صلاة أولئك الذين يرفعون مؤخراتهم إلى السماء ويدسون رؤوسهم في الأرض“. والواقعة الثانية هي زيارة وزير خارجية العراق طالب شبيب للمملكة العربية السعودية عندما كان الأمير فيصل بن عبد العزيز وزيراً للخارجية وذلك بعد انقلاب الثامن من شباط الدموي في العراق وتعيين شبيب وزيراً للخارجية. فقد انتظر الوزير العراقي في البهو الأميريّ نحو ساعة أو أكثر لكي يحظى بمقابلة فيصل. وكان يمّر عليه كلّ مرّة رجل طويل القامة أسود الأديم أجعده، ليخاطبه بأدبّ: انتظر يا طويل العمر، سمو الأمير سيفرغ لك. لكن شبيب العراقي الذي يعتبر الخمر مقدساً، شأنه شأن العراقيين أجمعين، خرج عن العرف الدبلوماسي فخاطب الخادم بالقول: „يا طويل العير ماكو شرب؟".
ورأيت في العراق امرأة من أهالي مدينة الثورة، حيث كنت أقيم، وقد اتهم ولدها بسرقة شيء ما، فطالبوها أن تقسم بالقرآن، فصاروا يبحثون طيلة النهار عن نسخة منه، فجاؤوا أخيراً بنسخة مغطاة بقماش أخضر، فأمسكت المرأة الأميّة بالقرآن وحلفت به بانفعال شديد ثمّ ب... عليه، لتثبت للآخرين بأنّ ابنها بريء من تهمة السرقة. وعندما دعا صدّام حسين إلى الحملة الإيمانية التي تمخضت عنها داعش والمليشيات الشيعية، فقد غالى صدّام في حظر "المتع الدنيوية" بما في ذلك الموسيقى والغناء. وقد التقيت ذات يوم برجل عراقي في مبنى الأمم المتحدة بنيويورك وكان يتحدث مع الصحفيين العرب هناك بصوت عال: „عيني لما منع السيّد الرئيس الغناء في الإذاعة والتلفزيون، صرنا نسكر على صوت القرآن الكريم". هل تريدون المزيد من الأمثلة؟ فاقرأوا مثلاً الجاحظ والتوحيدي والأصمعي وأبا هلال العسكري والمتنبّي وأبا نؤاس والرصافي والزهاوي والجواهري وحسين مردان وعبد الأمير الحصيري وغيرهم من الكتّاب والشعراء لترون دين العراقيين وديدنهم.
هنا أمام تمثال جدّي وجدّ الرسل والأنبياء جلجامش في متحف اللوفر بباريس
(*) روائي ومترجم عراقي مقيم في ألمانيا، النص عن الفايسبوك