الدكتور محمد الحجيري: طفل من ذلك الزمان- العازارية - ومقايضة الكتب(6)

alrumi.com
By -
0
الحلقة السادسة من مقالة الدكتور محمد الحجيري "كان أبي، بين الحنين وصادق القول"



من عرف وسط بيروت قبل أن تدمر الحرب المجنونة ملامحها، يشدّه الحنين إلى أمكنةٍ مختلفةٍ في هذا الوسطِ الذي لا يرى عاشق الذكرى الصادقة فيه، على الرغم من كلّ الجراحة التجميلية، غير جرحٍ عميقٍ سينزف أبد الدهر في قلب تاريخ هذه المدينة المظلومة. وثمة بقعة من تلك الأمكنة تحتل في ذاكرتي مكانا خاصاً. سادتي القراء، فلنعد بالزمن قليلا، ها أنا وأبي نصل إلى ساحة مبنى العازارية في وسط بيروت الساعة السادسة والنصف صباحا من ذلك اليوم الذي كان أوّل خميس من شهر تشرين سنة 1966. لقد قرر والدي لأسباب أجهلها  أن يدعني أهتم بشراء كتبي وكتب أخي عمر بنفسي. ولذلك استيقظنا باكرا جدا فألبستني والدتي البذة الكحلية وأطعمتني  ومشطت شعري. خرجنا ووالدي سريعا وذلك كسبا للوقت وليتسنّى لأبي الوصولُ إلى عمله في الوقت المحدد، بعد إيصالي إلى حيث أستطيع القيام بالمهمة المطلوبة، أي إلى منطقة المكتبات والكتب: العازارية. لقد سرنا مسافة طويلة من منزلنا إلى موقف الحافلات حيث نقلتنا إحداها إلى محلة تمثال بشارة الخوري ومن هنالك تابعنا الرحلة مشياً حتى مبنى العازارية، عند وصولنا قال لي أبي: كن حريصا يا بني ولا تبتعد، ابق هنا وإذا حدث أي شيء أذهب إلى الحارس محمود الذي كان أبي يعرفه، فقد ساعد والده في الدخول إلى المستشفى. وتابع أبي: ها هي لائحة الكتب، والأسعار، وهذا قلم وهذه حقيبة الكتب، وإذا كان ثمة إمكانية للتبادل فهو أفضل من البيع والشراء، فقلت: حسنا يا أبي. تابع والدي: سأطلب إذنا من المدير وسأكون هنا حوالى الحادية عشرة لأصطحبك معي إلى عملي. كان الوقت باكرا ولم يكن التلامذة وذووهم من الساعين إلى مقايضة الكتب قد بدأوا بالتوافد بعد. جلست على حقيبتي وبدأت استعرض الأحداث الماضية تمريرا للوقت. تُرى هل ما زالت معلمتي الآنسة أندريه تعمل في مدرسة الأستاذ شهوان، أنا مشتاق لها كثيرا لقد كانت لطيفة معي كثيرا ولن أنسى كيف اصطحبتني في رحلات المدرسة كلها مجانا على حسابها الشخصي دون علم والدي الذي اعتقد أن المدرسة تتولى
موضوع تلك الكلفة، ومن ثم تذكرت الرسالة التي حمّلتني اياها إلى والدي تسأله فيها إذا ما كان يسمح لي بمرافقة زملائي إلى الكنيسة، كما تذكرت الكلام الذي  لقنني اياه ابي: "الكنيسة والجامع هما من بيوت الله ولا يجوز لمؤمن أن يمنع ابنه من الذهاب إلى بيت الله. ربما اختلفت الأديان ولكن الخالق واحد". كانت الرحلة الى الكنيسة شيقة ولكن حتى الآن لا أفهم لماذا وضعوا لنا على جُبُنِنا إشارة تشبه الزائد من الرماد، وماذا تعني كلمة ترميد. يجب أن أسـأل أبي. ولكنه غضب في المرة السابقة عندما سألته إذا كان الله واحدا فلماذا الإكثار من الاديان. ولكن الأكيد عندما أكبر سوف أجد معلمتي أندريه وأرد لها ما دفعته عني في رحلات جعيتا والأرز وبعلبك. اعتقد أنّ أبي قد أخطأ عندما تسرع بتغيير المدرسة بسبب الأقساط. لا أدري لماذا هو عنيد ولماذا لم يعاود ملاقاة المدير بعد أن استلم الرسالة عن طريق أم أحمد التي أكّدت لوالدتي أنني في حال رجوعي  سوف يعفيني الأستاذ جوزيف من كل الأقساط ...  وكانت الساحة قد بدأت تعج بالتلامذة وأهاليهم وعدت إلى نفسي وواقعي، إلى موسم شراء ومبيع الكتب والتبادل الحر الذي  يوفّر على العائلات الفقيرة مبالغ طائلة. فكرت للحظة ماذا سأفعل، وفق ما علمني أبي ينبغي البدء بترتيب الأشياء، فلنفعل إذن ولنستعرض ما لدينا وما هو المطلوب منا: النقطة الأولى: لقد تركني والدي في ساحة العازارية لأقوم بمهمة بيع كتبي
وكتب أخي القديمة وهي للصفين الأول والثالث ومن ثم شراء بدائل عنها للصفين الثاتي والرابع. النقطة الثانية: وهذه هي المرة الأولى التي أتولى فيها هكذا مهمة. النقطة الثالثة: الشنطة ثقيلة ولا يمكنني عرض الكتب على الأرض فهذا ممنوع كما أخبرنا محمود الحارس. فما العمل؟ لم أطلِ التفكير كثيرا، أخذت ورقة من دفتر وجدته لحسن الحظ في الحقيبة وكتبت بخط كبير: عندي كتب الصف الأول والثالث وأبحث عن كتب الصف الثاني والرابع. وضعت حقيبتي في مكان مرئي ولا يعيق حركة المارة وجلست عليها رافعا الإعلان الذي كتبته. كان أغلب المارة يبتسمون عند مرورهم بقربي لا أدري لماذا ولكنني لم أهتم بذلك كثيرا وقلت في بالي عندما يبتسمون يكون الوضع بالطبع أفضل مما قد يكون في حال عبوسهم. بعد حوالى  نصف ساعة من رفعي للإعلان اقترب مني رجل مفتول العضلات كهرقل، أسمر اللون من الواضح أنّه يعمل في فضاء مكشوف تحت الشمس، وقال لي: مرحبا أيها الشاب الصغير، لقد قيل لي إنّ معك كتب للصف الأول فأجبته، مرحبا أيها السيّد، نعم لقد صدق من قال لك ذلك، فسألني هل تحسن القراءة فأجبته ببلى، فأعطاني لائحة وقال هل هذه هي الكتب التي معك؟ تأملتها فوجدت اللائحة ناقصة، فأخبرته، أنّ ثمة كتاب غير مذكور فيها، فابتسم وقال صحيح، لقد قيل لي، هو كتاب اللغة الفرنسية الذي لم تتخذ الإدارة قرارا بشأنه. فسألني هل تريد بيع كتب الصف الأول فأجبته: نعم، ولكنني أفضل المقايضة على كتب الصف الثاتي أو الرابع إذا توفرت لديك مع الاستعداد لدفع الفارق المترتب على ذلك. فسألني الرجل أيها الشاب الصغير كم لك من العمر
فقلت له عشر سنوات. ماذا تعني المقايضة مع الاستعداد لدفع الفارق المترتب وكيف يجري الحساب. كنت قد استنتجت أنّ الرجل أمّي لا يقرأ، فأجبته أمّا المقايضة فتعني تبادل ما بحوزتينا من كتب أمّا دفع الفارق فيتطلب احتسابه أولاً، وهذا يعني حساب ثمن المجموعتين من الكتب على اساس أنّ قيمة الكتاب القديم تعدل نصفَ قيمته جديداً، ويصار بعد ذلك إلى حساب الفرق بين ثمني المجموعتين ويقسم الفارق المذكور على اثنين فيكون الحاصل هو ما يترتّب على صاحب المجموعة الأرخص ثمنا لصاحب المجموعة الآخرى. نظر الرجل إلي بغرابة وقال لي من علمك الحساب فقلت أي حساب تعني فقال الحساب الذي سردته عليّ الآن فقلت لا أحد، وفي هذه القضية لا يُحتاج لدراسة ولا لتعلّم فالأمور واضحة. فقال الرجل، سبحان الحي الذي لا يموت، حفظك العليم الخبير لوالديك يا فتى. صمت الرجل قليلا وقال هل باستطاعتي أن اعاين الكتب فبدأت بإخراجها كتابا وتأكد من حسن حالها، وسألني بكم ستبيعها؟ فقلت مستفسرا هل ستأخذها كلها أم ستستثني كتاب اللغة الأجنبية منها فصفن قليلا وقال: لا بل كلها. فقلت له السعر سبعٌ وعشرون ليرة وخمسةٌ وستون قرشا. فقال وما ضِعف هذا الرقم قلت خمسٌ وخمسون ليرة وثلاثون قرشا. فسحب ورقةَ من جيبه وقال ولماذا في المكتبة قالوا لي إن المجموع هو سبعٌ واربعون ليرة وثلاثون قرشا. قلت له: أيها السيد في المكتبة لم يحسبوا ثمنَ كتاب اللّغة الفرنسية، لأنّه غيرُ وارد في لائحتك فإذا أضفت سعرَه جديداً، أي ثماني ليرات إلى قيمة فاتورة المكتبة، أي إلى سبعٍ واربعين ليرة وثلاثين قرشا ستحصل على مبلغ خمسٍ وخمسين ليرة وثلاثون قرشا أي ضعفي المبلغ الذي يترتب لي عليك أي سبعٌ وعشرون ليرة وخمسةٌ وستون فرشاً. ابتسم الرجل وسحب محفظته من جيبة وأعطاني ثماني وعشرين ليرة فبدأت بجمع ما لدي من نقود صغيرة للرداد له، فقال لا بأس فليكن الباقي وهو لا يُذكر هدية صغيرة لك، فاستوقفته وقلت نحن لسنا أغنياء يا سيدي ولكننا ما قبلنا الحسنة قط ولن نقبل بها أبدا زد على ذلك إني أراك من ففراء الله الكادحين تعمل في مقلع... فقاطعني  وقال أيها الفتى لقد أذهلتني هل أنت نبي لا يا سيدي أنا أسمي محمد أما والدي فيسميه البعض النبي يوسف...

أخذ الرجل كتب الصف الأوّل واختفى بين الجموع فخبأت النقود التي قبضتها وتابعت رفع الإعلان بعد أن شطبت منه عرض كتب الصف الأوّل. وقفت قربي سيدة كبيرة في السن ترافقها فتاة في مثل عمري تقريبا وكان معهما حقيبة كبيرة يحملانها معا فيما بينهما فقالت السيدة لقد عرضنا هذه الكتب على المكتبة المجاورة فقالوا إنهم سيدفعون لنا عشرين ليرة لا غير ونحن منهمكتان وبين هذه الكتب قد تجد ما تطلبه وسنبيع الكل بثلاثين ليرة فقلت سيدتي هل لي ان أعاين الكتب فقالت نعم. تبين لي عند تفحص الكتب أنّ غالبية ما أريده  لي ولعمر موجود في حقيبة السيدة فضلا عن مجموعتين من الكتب لصفي الخامس والاول والكتب بحالة جيدة. فقلت لها كل ما أملك يا سيدتي هو مبلغ ثمانية وعشرين ليرة ويجب ان أبقي لنفسي ليرة على الأقل فنظرت السيدة والفتاة إلى بعضهما البعض ثم أومأت لي السيدة بالقبول فأخرجت النقود وأعطيتها للسيدة فهمّتا بالذهاب فاستوقفتهما وسألت وماذا بشأن الحقيبة فقالت الفتاة إنها بالية وإنها بصدد شراء حقيبة جديدة عوضا عنها تكون صالحة للسفر، فسألتها إلى أين فقالت عائلتي تنتظرنا أنا وجدتي في البرازيل وغدا سننطلق ولذلك قد بعت كتبي وكتب أخوتي فلا حاجة لنا إلى هذه الكتب بعد اليوم. فقلت وداعا. كانت الساعة قد قاربت التاسعة والنصف عملت لائحة بالكتب التي استطيع بيعها تاركا موضوع الشراء جانبيا. وحالفني الحظ فبعت ثلاث مجموعات: الصف الخامس والثالث والأول بمئة وست ليرات واشتريت الكتب الناقصة لي ولاخي بخمس ليرات ونصف. فكان مردود مغامرتي الأولى في تجارة الكتب ربح ما يزيد عن مئة ليرة مبلغ لم تعرفه يدي سابقا.



(*) باحث في الجامعة اللبنانية، كلية الهندسة الفرع الاول له عدة مؤلفات منشورة وغير منشورة. 

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)