الدكتور محمد الحجيري: شهامة سكان حي القلعة وقطوع براد السمك(4)

alrumi.com
By -
0
الحلقة الرابعة من مقالة الدكتور محمد الحجيري "كان أبي، بين الحنين وصادق القول"

كان موقع سكننا في حي "القلعة"غير مريح بسبب ضيق المكان واكتظاظه والفوضى التي تتسبب بها الجيرة غير المنضبطة، ولكن والدي كان يحظى بحب واحترام كافة الجيران على اختلافهم: السيّئ منهم والحميد، اليافع والكهل..، حتى أنه عندما تعرض لنوبة رمل قوية، تسابق شباب الحي وكهوله، على اختلاف مشاربهم، إلى حمله على ظهورهم مسافة تزيد عن كلم لبلوغ السيارة التي نقلته إلى المستشفى، كما جمعوا له مبلغا كبيرا من المال رفضوا على فقرهم استرداده عندما حاول الوالد ردّ الدين وقالوا له لقد ضاعت اللائحة والله يسامحك وفضلك سابق؛ وحتى انّ الكثيرات من صبايا ونساء الحي أودعن والدتي قسرا عنهاً ما لديهن من مصاغ مستحلفينّها الا تتردد بصرف ما تريد عند الحاجة. وكان والدي يساهم في حلّ كل الخلافات في الحي ولو على حسابه الخاص، ولكنّه في النهاية أصيب بالملل من الخلافات التافه التي برأي كان منبعها الأول والأخير البطالة وانعدام فرص العمل أمام شبيبة حي القلعة. وفي صبيحة يوم من سبوت صيف العام 1964 عاد أبي إلى البيت منهمكاً بعد خروجه إلى العمل بقليل وأخبر والدتي أننا سننتقل إلى سكن آخر هو الطابق العلوي من مبنى حجري في بستان أبو مارون الذي يبعد بعض الشيء عن حي القلعة. لقد ودّع أهالي حي القلعة عائلة العم يوسف (أبو محمد) بالدموع الفعلية. وكانت الإقامة في البيت الجديد مريحة وشاعرية ولكنها كانت مشروطة بالقيام بريّ دوري أسبوعي للبستان وقد كان لي ولأمي ولأخي الأوسط مغامرات عديدة في عملية الري تلك، أما أخي الأوسط عمر فلم أذكره سابقا لأن هدوءه وسكينته تجعلانك تنسى وجوده الفعلي. ولطالما استعانت معلمته بي لتنتزع منه كلمة نعم أم لا. وكان يترتب على أبي فضلا عن الري القيام بحراسة مسكن مجاور يخص ابن مالك الأرض الموجود في فرنسا. بعد المرض ودخول المستشفى يكون والدي إذن قد توقف شيئا فشيئا عن القيام بأعمال السمكرة، وانتقل إلى العمل على ريّ بساتين الليمون، حيث يفترض به في هذه الحالة أن يكون سريعا ودقيقا في إدارته للمياه التي تصل عبر السواقي لفترة معلومة مدفوعة الثمن، إذ إنه ينبغي لعامل الري أن ينجح في ريّ ارض البستان بالتساوي في حدود الفترة المذكورة، وبغية ذلك يفترض بالساقي أن يمهد طريق المياه كي تصل إلى كل الأمكنة بالتساوي وفي الوقت عينه أن يسد المهارب التي قد تؤدي إلى هدرها أو خروجها عن حدود البستان. لقد أتقن والدي العمل ولكنه كان عملا مُرهِقا بالنسبة إليه لأن بستان "أبو مارون"، كان مترامي الأطراف، وفترة الري كانت تمتد خمس ساعات، تبدأ عند منتصف الليل لتنتهي عند الفجر، زد على ذلك أن أعمال الري غير دائمة، ولا يمكن لمردودها المتقطع أن يغطي مصاريف عائلة. لقد دفعت هذه الأمور بوالدي إلى البحث عن عمل أضافي فتأتّى له ذلك، عن طريق الشابة عايدة ابنة "أبو مارون"، التي أمّنت له عملا في براد للأسماك في منطقة جسر الواطي وذلك دون أن يفقد عمله الدوري الأسبوعي في ري البستان ليلا. وكانت الآنسة عايدة مجازة في المحاسبة وتتولى مهام تصفية الحسابات في مؤسسات مختلفة ومنها براد السمك المذكور. وأذكر أمرا أثار فضولي فقد كان القصل صيفا ولكن والدي كان قبل ذهابه إلى العمل يرتدي الكثير من الثياب الشتوية، ولاحقا فهمت أنه كان يعمل داخل وحدات التبريد حيث تكون الحرارة منخفضة جدا. لقد كان والدي قد لفت نظر ابو مارون وابنته في طريقة ريّه البستان، حيث رسم على قطعة كبيرة من الكرتون المقوّى خارطة شبه دقيقة لمجاري المياه  الرئيسية والفرعية وحسب الوقت المطلوب لوصول المياه إلى المربعات التي تتكون أرض البستان منها وحدد بدقة مجموعة النقاط التي ينبغي تغييرها (فتحها أو تسكيرها) خلال عملية الري وحدد الفوارق الزمنية بين النقطة وما يليها. وقد صرف على هذه العملية وقتا طويلا ولكن هذه الطريقة سهلت عليه الكثير وتمكن من خلال تجربتها العملية أن يحسن الكثير فيها. كان ابتكارا مفيدا مكن والدي من إدخالي أنا وأمي في دائرة الإنتاج حيث ترتب علينا أن نفتح بعض السكور ونغلق البعض الأخر بناء على إشارة ضوئية من أبي، وهذا ما جعلني أحب ايام السبوت وأنتظرها بشغف وكنت أبكي محتجا عندما تتردد أمي بإيقاظي في أديم الليل للمساهمة في ري البستان ومساعدة أبي. كان والدي يعمل في براد السمك مدة خمسة أيام في الأسبوع وكان يغادر البيت في الساعة السابعة صباحا ليعود حوالى الرابعة بعد الظهر. لن أنسى صورة الرعب الذي ارتسمت على محيا والدتي في ذلك اليوم المشؤوم. لقد تأخر أبي في المجيء إلى ما بعد الثامنة مساء فأخبرت والدتي الآنسة عايدة بالأمر وكرّت السبحة سريعا ليتبيّن أنه نتيجة خطأ وظيفي بشري في مكان ما قد حُبس والدي في براد مغلق لا يستطيع الخروج منه تنخفض حرارته إلى ما يقارب العشرين درجة تحت الصفر. نُقل والدي إلى المشفى بعد أن وجد في حالة تجمّد وفقدان للوعي ولحسن حظه كانت أطرافه سليمة لا تستدعي أي بتر أو استئصال.


(*) باحث في الجامعة اللبنانية، كلية الهندسة الفرع الاول له عدة مؤلفات منشورة وغير منشورة.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)