الدكتور محمد الحجيري... مالك الملك وحنفية السيد والسيدة(3)

alrumi.com
By -
0
 

الحلقة الثالثة من مقالة الدكتور محمد الحجيري بعنوان "كان أبي ، بين الحنين وصادق القول"

عندما يأتي قرويٌّ فقيرٌ إلى المدينة طلبا للرزق، لن تكون خيارات العمل أمامه مفتوحةً أو متعددةً، فمهاراته ستكون محدودة وبالتالي عليه، أن يعمل كعاملٍ بسيطٍ يبذل جهداً جسديّا مرهقا لينال عن ذلك الجهد أجراً زهيداً. وكان والدي عند نزوحنا إلى المدينة في أواخر عقده الخامس يعاني من أمراض مزمنة، منها ما هو في الأعصاب والدماغ كمرض الشقيقة ومنها ما يتعلّق بالأعضاء الداخلية كمشاكل الحصى في الكلى. والذي تبيّن في الأيام اللاحقة أكّد أنّ الرجلَ لم يفكّر بنفسه أو راحته قطّ، إذ إنّ همّه قد تمحور حول إيجاد مدرسة لنا تضمّنا إلى تلامذتها وأن يجد لنفسه عملاً ثابت المردود لإعالتنا. ولقد عانى والدي الكثير قبل أن يجد ما يناسبه. فقد اضطر من أجلنا أن يختبر قدرته على القيام بكثير من الأعمال الشاقة التي كادت تودي بحياته. عندما وصلنا إلى بيروت استقر رحالنا في منطقة متاخمة لحرج تابت، سميت أنذاك "القلعة"، وكان غالبية سكانها من نازحي البقاع الجوعى، الذين غادروا ديارهم على أمل العثور على لقمة العيش. حتى أن والدي وصفها في أحد المرّات بما معناه "أرض التغريبة البقاعية غير المكتملة التي ينقصها الملك حسن وابو زيد ودياب والغضنفر..." وقد أقمنا في هذه المنطقة حوالى ثلاث سنوات لننتقل إثر ذلك إلى منطقة جسر الباشا، حيث بقينا فيها حتى صيف العام 1973،  وفي ذلك الصيف فاجأنا والدي باستقالته الصادمة وغير المنتظرة  من وظيقته مُعلنا أنّ بيروت سوف تُدمّر وعلينا مغادرتها قبل أن يحدث ذلك الدمار فوق رؤوسنا، ونبّهنا أنّه لن يُجبر أحدا منّا على مغادرة المدينة، ولكن من أراد البقاء فيها خلافا لمشيئته، عليه أن يعيل نفسه بنفسه. وخُيّل إلي أنني كنت أكثر
ساحة البرج
المتضررين من القرار الذي قضى برجوعنا إلى قريتنا تجنبا للوقوع ضحية حرب غيبيّة افتراضية تخيّلها أبي الذي عانى في تلك الحقبة آلاما شديدة متواصلة، لازمته طيلة سنة كاملة ومنعته من القيام بعمله الوظيفي، لقد حاولت إقناع والدي بتأجيل العودة من بيروت سنتين أو سنة واحدة على الأقل، ريثما أنهي الجزء الأكبر من الثانوية العامة التي كنت قد أنهيت مرحلتها الأولى، في ثانوية فرن الشباك المشهورة، وشرحت لوالدي أنه سيكون من الصعب أن أحظى بمدرسة تتمتع بنفس المستوى في أي مكان أخر. لقد كان في ردّه صارماً بصورة لم أعهدها فيه من قبل، حيث قال بعد سنتين وربما أقل ستنقلب هذه المدينة على رؤوس ساكنيه وسيعمها الخراب، ومن لم يهرب الآن، فسيكون مصيره الموت، أو ما هو أسوأ من الموت، واستطرد قائلا: لقد استفسرت عن الموضوع، يوجد في بلدة رأس بعلبك المجاورة لبلدتنا ثانوية حكومية، جيدة وفق معلوماتي، فإن أطعتني فسأساعدك لمتابعة الدراسة فيها، وسأستأجر لك مسكنا للإقامة هناك، وإن خالفتني فلك ما تريد ولكن عليك أن تتولى حلّ مشاكلك بنفسك، وينبغي لك أن تتخذ قرارك الفصل سريعاً قبل بدء العام الدراسي، أما أنا ووالدتك فقد قررنا مغادرة بيروت في غضون أسبوع لا أكثر.


لنعد في الزمن قليلا إلى الوراء. عندما وصلنا إلى بيروت منذ عشر سنوات خلت كان والدي مضطرا لتقبل أي عمل كان لإعالتنا. كان  لقاؤه مع صاحب الحافلة التي نقلتنا سيئا وغير مجدٍ ولم يستطع خلاله استدانة ما يكفي لافتتاح محل تجاري، ولدى مروره يومذاك(وقد كان يوم أحد) من ساحة االبرج (حيث كانت تتوقف حافلة الضيعة) إلى ساحة الدباس المؤدية إلى موقف الحافلات التي تمر قرب "القلعة"، استوقفه مشهد الكتب القديمة المصفوفة على أبواب المحلات التجارية المغلقة فتأمل عناوينها بعناية ومن ثم أخذ بين يديه أحدها فابتاعه بخمسة قروش وعاد أدراجه باتجاه ساحة البرج التي اجتازها وصولا إلى سوق الخضار ومن ثم صعد التل المجاور حيث وجد ما أراد. اشترى أبي عدة سمكرة وكتابا عن مهنة السمكرة. أذكر أنه عاد إلى مسكننا عشية اليوم الثالث لوصولنا إلى بيروت بثيابه "الكاكية" متعبا مبللا بالعرق ولكن كان على غير عادته فرحا مبتسما، وأعطى والدتي الكثير من النقود. وقد حدثتي لاحقا عن نادرة حدثت معه:
الملك لله، حنفية السيد والسيدة الكريمين: قال والدي مررت في أحد شوارع المدينة وأنا تعب من المشي ومن ثقل صندوق العدة الذي أحمله. واستوقفتني شجرة يافعة ظليلة على مدخل منزل كتب فوق بابه الرئيسي الواسع: "الملك لله، هذا من فضل ربي" فأنزلت الصندوق أرضا وجلست تحت تلك الشجرة الرائعة وكنت عطشا وجائعا ولم استفتح ولو بقرش. وبين لحظة وأخرى غلبني النعاس والتعب فنمت وغفوت واستفقت بعدها على صوت يوبخني وصوت آخر يستنكر التوبيخ غير المبرر ففتحت عينيي فإذا بهما سيدة وسيد مابين الستين والسبعين من العمر ترتيباًـ وبادرني الرجل قائلا كيف تجروء على الجلوس والنوم عند مدخل بيتنا؟ فاعتذرت لهما وقلت أعذراني لقد قرأت ما كتب أعلى مدخل بيتكما فخيل إلي أن النوم تحت هذه الشجرة  لن يزعج مالك الملك وبالتالي لا ذنب لي فقد غلبني التعب والنعاس فغفوت. فتغيرت ملامح الرجل ونبرته وقال سامحنا من فضلك فمن الصعب أحيانا علينا التمميز بين الطيب والخبيث فنحن نُصِرّ على أنّ الملك لله ويبدو أنك رجل خير. حملت علبة العدة وهممت بالذهاب بعد أن قلت وداعا فاستوقفتني السيدة وقالت هل باستطاعتك تصليح صنبور الماء في مطبخي فثمة عطل في السكر فقلت نعم فأدخلتني إلى المنزل الذي كان من الطراز القديم ليس عالي السقف فحسب بل واسع رحب في كافة الاتجاهات، ورافقني السيد إلى المطبخ حيث وجدت الحنفية التي تسرب، وأخبرني أنه لم يعثر في أي مكان على مثل هذه الحنفيات المناسبة لطراز البيت وإنه مستعد هو وجيرانه لدفع عشر ليرات وأكثر مقابل الحنفية الواحدة إذا وجدت. فتحت السُكر وغسلت يدي جيدا وملأتهما ماءا وشربت فسارع صاحب البيت إلى القول انتظر يا معلم سآتيك بكوب للماء. لم أهتم بما سمعت فرويت ظمأي، وبدأت أفكر كيف سأفعل فقد فاجأتني هذه الحنفية الغريبة عني التي لم أر مثلها سابقا. أغلقت أنبوب الماء الرئيسي ونجحت في فك الحنفية التي وضعت مكانها سكرا مؤقتا لكي لا أعيق الأعمال البيتية ولم أنجح بفك أجزاء الحنفية رغم انقضاء فترة طويلة من الوقت، كنت خلالها عزّةَ نفسٍ قد رفضت أن أتناول الطعام الذي قُدم  لي بحجة الشبع علما أنني كنت جائعا، وكان الوقت قد داهمني وتجاوز السابعة مساءا. لم يبق لي ما أفعله، وقررت أن أغادر فتركت عدتي وأخذت الحنفية وغادرت بعد أن أخبرت اصحاب البيت بقدومي اللاحق بعد ظهيرة اليوم التالي وأن إصلاح الحنفية يتطلب قطعاً غير متوفرة ينبغي شراؤها.

في باكورة اليوم التالي كنت في السوق انتقل من محل إلى آخر أبحث عن مصدر الحنفية وللاسف دون جدوى وأخيراَ نصحني رجل مسن أن أسأل في محل النحاسيات المستعملة. وبالفعل كان جواب البائع هناك: عندي الكثير من هذه البضاعة  الكيلو شراءً بأربعين قرش مبيعا بخمسين. ابتعت مئة حنفية انتقيتها بعناية كان مردودها يا بني كافِ لتأمين عام دراسي لكما هذا ما قاله لي أبي في ختام قصته عن مالك الملك وأصحاب الصنبور الذي يسرب الماء.
 يتبع


(*) باحث في الجامعة اللبنانية، كلية الهندسة الفرع الاول له عدة مؤلفات منشورة وغير منشورة.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)