كنعان مكية :عن القسوة.. جذور تجربة مؤسسة الذاكرة العراقية (1991–2003) 6 - 6

alrumi.com
By -
0





ظهر كتاب "القسوة والصمت" في ١٩٩٣، على أثر تجربة الفيلم الوثائقي الذي عملته في ١٩٩١ وشهادات عراقية أخرى أخذني الحماس لجمعها في السنوات التي تلته ــ مثل شهادة  "أبو حيدر" (عن الانتفاضة في جنوبي العراق) و"عمر" (عن ممارسات النظام في سجونه) و"خليل" (عن الدمار في الكويت نتيجة العدوان العراقي)،  و"مصطفى" و"تيمور"(عن عمليات الأنفال غير البطولية). للتاريخ عليّ أن أقول أن عملية البحث وكتابة هذا الكتاب  كانت بالنسبة لي ــ ولا أقول عن وعي في حينها ــ بمثابة تجربة تمهيدية  لما تحول فيما بعد الى مشاريع مؤسسة الذاكرة العراقية المختلفة في بغداد بعد ٢٠٠٣ ، والتي شملت أركانها الأساسية: التدوين، التوثيق، الشهادة، الاعتراف، وفوق كل شيء، تحمّل المسؤولية في سبيل عراق موحد (أو في أسوأ الاحوال، مقسم، ولكن بعد المداولة والاتفاق المسبق كما حدث في جيكوسلوفاكيا، لا القتل والتطهير الطائفي والعرقي كما يحدث الآن في العراق).  

لا يرتكز الكتاب على تنظير معقد بالمقارنة مع كتاب "جمهورية الخوف"، أو كتاب "النصب التذكارية". رغم هذا علمتني تجربة كتابته دروساً جديدة بالغة الاهمية غيّرت مجرى حياتي. 

ثلثا الكتاب، تحت عنوان "القسوة"، كان بمثابة عمل صحفي مادته الخام وثائق وشهادات جاءت على  لسان شهود في أغلب الأحيان. الوثائق والشهادات الأولى جمعتها بنفسي على مدى سنتين، إبتداءً من الشهرين الذين قضيتهما في شمالي العراق ومن ثم السفرات العديدة الى "المنطقة الآمنة" في شمالي العراق خلال التسعينيات، وبعدها في الأردن وفي بريطانيا والولايات المتحدة وفي أي بقعة تشرّد اليها العراقيون في تلك الحقبة المظلمة. 

هذا النوع من العمل كان جديداً عليّ، وقد هزتني التجربة كثيراً الى الحد الذي إنقلب مركز ثقل إهتماماتي ككاتب وكناشط سياسي مهتم بمستقبل العراق. ماذا تعلمت؟ 
تعلمت أن الاستماع الى شهادة إنسان نجا من التعذيب أو مجزرة، مثلاً، أو إمرأة أغتُصِبت ولكن ليس بمقدورها ان تتكلم عما حدث لها، أهم وأصدق من ألف كتاب نظري حول نفس الموضوع. أصلاً أصبحت لفترةٍ بعد رجوعي من كردستان أكره التنظير الذي كنتُ عاشقاً له طوال حياتي. بدأت أحس أن الحقيقة، بالمعنى الفلسفي المعرفي للكلمة، تكمن فقط في هكذا نوع من الشهادة، والباقي كله زيف.

الحقيقة بعينها، صرت أفكر، لا تكمن في لغتنا وإهتماماتنا وعمومياتنا وايديولوجياتنا البليدة، نحن المثقفين، بل في كلمات وحركات وتعابير ووجوه هؤلاء الضحايا الذين فقدوا ورأوا وسُجنوا وعُذِبوا ونجوا وتألموا…  وبعد كل هذا، وجدوا ان العوالم التي كانوا يعيشون فيها بدءاً بالعائلة وإنتهاءً بالمجتمع، كلها صامتة أمام هول الحدث الذي حلّ بهم. كل الأبواب أغلقت في وجوههم. لم يفهمهم أحد. أدار المجتمع ظهره عليهم، خائفاً أصلاً منهم، ليبقى فقط السياسيون يستغلونهم أسوأ إستغلال.
لماذا لا يسمع أحد؟ صرخت مع نفسي بعد رجوعي من شمالي العراق. هل لأن الأحداث التي عاشها هؤلاء الضحايا العراقيون لا تدخل في العقل ولذلك لا يمكن تخيّلها، ناهيك عن تصديقها؟ هل هذا هو المعنى الحقيقي المبطن للصمت الذي نحن قادرون عليه تجاه بشاعة ما يقوم به جنسنا البشري حتى اليوم؟
من هكذا إحساس، أظن، جاء الغضب المفرط الذي وجهته تجاه المثقفين العرب في كتاب "القسوة والصمت". أشعر بالندم الى اليوم، لا من الأفكار ولكن من اللهجة التي استخدمتها حينذاك في الجزء الثاني من الكتاب. التاريخ كله حينها بدا وكأنه قد أُختزل في مطلع التسعينيات على اثر الحرب العالمية التي شُنت على العراق والتي كان لابد منها بعد احتلاله واغتصابه ومحوه لدولة الكويت.
كان الكتاب أول محاولة للتبحر في موضوع القسوة، وجاء كردة فعل لتلك الرحلة الى شمالي العراق في ١٩٩١. هدفه الرئيس وصف القسوة، ولكن كان هناك هدفٌ ثانوي للكتاب: إنتقاد مواقف شريحة مهمة من المثقفين العرب، وعلى رأسهم أحد كبار وجوه الثقافة العربية والعالمية، كنا قد عملنا سويةً خلال عقد السبعينات في صفوف المقاومة الفلسطينية. 

لماذا، سألت نفسي، وأنا أغلي في داخلي غضباً، لا يستطيع هؤلاء فهم أذى الآخر ــ العراقيون من أمثال أبو حيدر وعمر وتيموروغيرهم ــ وهم مثقفون في أغلب الاحيان مقيمون في الغرب وفي قمة الذكاء والمكانة العلمية والاحترام العالمي، بينما يفهمون الكارثة الكبرى التي حلت بالشعب الفلسطيني، والتي فهمتها أنا معهم واشتركت كمناضل في صفوف المقاومة الفلسطينية لعشر سنوات. كيف تفسر ذلك؟ 
أتذكر دائماً، وتؤذيني الذاكرة، كيف رفض هذا المفكر وهو استاذ في جامعة مرموقة في الغرب، توقيع بيان إستنكار كان متداولا بين المثقفين في حينها ينتقد الحكومة العراقية على قصف مدينة حلبجة بالغازات السامة والتي راح ضحيتها ٥٠٠٠ مواطن كردي. زملاؤه الاميركان في الجامعة وقعوا، بينما رفض هو التوقيع على أساس انها قد تكون فبركة صهيونية موجهة ضد العرب ولا يريد ان يقع في الفخ الصهيوني الامبريالي! لماذا  يفكر هكذا؟ سألتُ نفسي حائراً، وهو ليس بعثيا ويستحيل عليه العيش في عراق صدام حسين يوماً واحداً؟ أهي مشكلة تخيل لكل ما هو قادرٌ عليه صدام؟ لا يعرف أم لا يستطيع تخيل حجم الكارثة؟ تكلمت عن زيف الكلمات في بعض المواقف الحياتية؛ ها هو الزيف وقد ألقي في وجهي. 
كان هذا الموقف العام للمثقفين العرب أيام حرب الخليج ١٩٩١. كتبت "القسوة والصمت" على أساس أنه سيُقرأ من البداية الى النهاية، وأن الذي يقرأ قصص وكلمات خليل وتيمور وعمر وأبو حيدر، والتي تأتي في الجزء الاول منه، لابد وأن يتعاطف ويقتنع بأولوية رفض القسوة، قبل ان يصل في قراءته الى الجزء الثاني وإنتقاداتي للغة التي هي بمثابة لغة "صمت" عن هكذا كوارث إنسانية. 

ولكن الذي حصل لم يناقش أحد الجزء الاول من الكتاب حول القسوة، مجرد تصفحوا مكان ذكر اسمائهم في الجزء الثاني. في موجات النقد والكراهية التي وجهت لي خلال التسعينيات المقتصرة على الجزء الثاني من الكتاب، والتي تتكرر اليوم على لسان بعض المثقفين بحجة مراجعة  كتابي الجديد "الفتنة"، نجد نفس هؤلاء المثقفين يتخذون مواقف من أشخاص لا من أفكار. لذلك أقول أزمتنا في البلاد العربية والاسلامية اليوم هي في الثقافة، والتي هي في تدهور مخيف، أي في القيم والاخلاق والافكار لا في الاشخاص.

مع الوقت أصبحت مقتنعاً أن مثل هؤلاء المثقفين لا يستطيعون القيام بانقلاب على القيم السائدة في مجتمعاتهم وليس بامكانهم دفع مجتمعاتهم العربية الى عوالم جديدة متنورة من الحياة السياسية لا يسودها الخوف والأحقاد والأذى والدمار النفسي والبنيوي، والتي نعيش نتائجها اليوم في الشرق الاوسط بشكل ليس له نظير.
ولكن طبيعة القسوة التي يتغاضون عنها، انها تمسنا في الداخل، تجرحنا وتشوهنا وتفسخنا وتحللنا في الأعماق. القسوة تحطم العالم الخارجي للضحية لكي تعيد بناؤه على ما يرتأيه الجاني. بهذا ينكسر الانسان بمفرده، وهو ضائع وحيد لا عائلة ولا قومية ولا طائفة له، لا حول ولا قوة له في أي شيء يمس بالحياة. هذا الانسان، أو ما تبقى منه، عندما "يعترف"،  وإن لم "يعترف"، يظل مكسوراً معوقاً طيلة حياته. 
كيف إذاً لا تبدأ بفهم مجتمعك المنهك والمدمر من هذا المكان؟ 
علينا ان نتذكر دائماً ان حالة الضحية، أو المظلومية بصورة عامة، ليس فيها ذرة واحدة من البطولة، كما يحب ان يتفاخر بها بعض السياسيين والمثقفين. الفلسطينيون ليسوا أبطال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، كما كنا نصرخ من السطوح خلال السبعينيات، هم حقيقةً أناس مشردون ولاجئون وبلا وطن، يعيش بعضهم في مخيمات في بلدان عربية ، وهم تعساء ومظلومون هناك بقدر ما هم مظلومون داخل اسرائيل والاراضي المحتلة. أين البطولة في كل هذا؟ ضحايا القسوة ليسوا بأبطال، لأنهم في أدنى وضع ممكن ان يصل اليه الانسان. 

تخيل القسوة، أيها القارئ، على انها  تَقَرّب الانسان من الموت ــ هي حالة انتقالية بين الحياة والموت، أو شعور الضحية ان الموت قادم بعد قليل. في أوجّها تنتهي الحالة بإصدار أصوات بدائية لا تمت للكلام أو اللغة بصلة. جذور هذه الأصوات  ترجع الى الغابة، قبل إختراع اللغة كوسيلة تفاهم بين أفراد الجنس البشري، أي بعد التخلي عن كل مظاهر المدنية. هكذا يصفها صدام كما تخيلته في روايتي "الفتنة". يقول، وهو يتكلم عن إشرافه على تعذيب السيد محمد باقر الصدر سنة ١٩٨٠: 
"أحسنهم ينهار. الكل ينهارون [تحت التعذيب] ولكن إنهيار الرجل الشجاع بالاخص يثير الإشمئزاز. هنا قائد شيعة العراق … يتوسل وينحب ويتضرع بدموع غزيرة ومطلقاً أصواتاً ككل البشر عندما يتألمون … همهمات، آهات، تمتمات، وصراخ… نحن كلنا متشابهون حين ننكسر، نعود الى أصولنا البيولوجية." 
بمعنى آخر أن كل الفروقات بين البشر، بما فيها اللغة، تذوب وتنعدم خلال عمليات التعذيب وما شاكل ذلك من انواع القسوة. في مكانٍ آخر في الرواية يسأل الراوي عمه عن طائفة الموتى، فيجيبه، "ليس للميتين طائفة." كما ان ليس للمُعذَبين دين او مذهب او قبيلة او عائلة؛ هم قد اُختزلوا الى بؤرة آلام واصوات بدائية وقد سُلِب منهم العالم بأكمله، ولذلك هم معاقون. 
المعنى في كلا الحالتين ان القسوة تجمع وتوحّد كما هي تقسّم وتفسّخ، ولو انطلقنا من أولويتها بيننا كظاهرة مرفوضة بتاتاً، ربما نكون قد خلقنا أرضية جديدة، قد نسميها قاسم مشترك نلتف حولها كعراقيين وليس كشيعة أو سنة أو أكراد. 
ولكن كيف تباشر بوصف الكارثة التي حلت بضحايا القسوة؟ أصلاً الكلمات عاجزة، وذلك لأن القسوة تتحدى الوصف، حيث أنها بعيدة كل البعد عن العقلانية، والعقلانية لا تعرف غير الكلمات  للتعبيرعن نفسها. هذه طبيعتها.  ولكن إذا كان هذا هو الحال، ولا الكلمات ولا الصور ولا الافلام قادرة على الوصول الى المعنى الحقيقي الأصيل للألم والأذى والقسوة، أو لا تستطيع الوصول اليه بشكل وافٍ، فماذا تعمل وأنت تباشر بمحاولة تسليط الضوء على هذه الظاهرة؟ وإذا كانت هذه هي الحالة مع ظاهرة القسوة، فكيف بك وعالم المنظرين والمثقفين الذين هم في احسن الأحوال لا يعرفون غير المرور بغرور فوق سطوح الأشياء ... كما أفعل الآن؟
نعرف ان الفلاسفة والمفكرين والمثقفين يحبون العقل، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع ظاهرة تتحداهم، لهذا السبب تجنبوا موضوع القسوة على مدى التاريخ (كما تجنبها المثقفون العرب في انتقاداتهم لكتاب "القسوة والصمت").  لا تجد مناظرة واحدة سقراطية في افلاطون عن القسوة مثلاً. ولكن على العكس من ذلك نجد الأدب والفن مليء باعمال تصف القسوة. هل هذا هو سبب تحول إهتماماتي من التنظير والصحافة الى الرواية؟ لا أعلم. سأترك الموضوع لمحللي النفس بين قرائي. 
في السنوات التي سبقت سقوط النظام بقيتُ منصباً في التفكير والبحث في القسوة.  خلال عملي في جامعة اميركية بعيدة كل البعد عن مآسي العراق، بدأتُ أصمم درساً جديداً طرحته على طلابي عدة مرات عبر السنين وكان اسمه "وصف القسوة". فرضية الدرس (او الكورس)، كانت البحث في المعاني المختلفة  لظاهرة القسوة، وأساليب وصفها، وكنت اشترط على طلابي دراسة الظاهرة بالكامل، وكان بينهم من لم يستطع الاستمرار بالدرس نتيجة صعوبة تحمّل محتواه، ومثل هؤلاء بالطبع معذورون. مَن يُحب الغوص في هكذا عالم يسوده أسوأ ما في الطبيعة البشرية؟ لم يقتصر الدرس على العالم العربي انما تناول تجارب انسانية كثيرة في عدة قارات. لم يقدم أحد من قبلي على تقديم هكذا نوع من الدرس، ولكن الاقبال عليه بين الطلاب الشباب في الجامعة كان كبيراً مما شجعني على تطويره وإعادة تقديمه السنة تلو الأخرى. استمريت في عملي الجامعي حتى اندلاع الحرب في ٢٠٠٣. في حينها وجدت نفسي مهيأً لمحاولة تطبيق على أرض الواقع ما تعلمته خلال البحث والتجربة حول القسوة، وتجسيده بتأسيس منظمة غير حكومية في الـ"عراق الجديد".


  

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)