عندما نعكس الأولوية كما أفعل الآن، وكما آمنت بعد دخولي شمالي العراق سنة ١٩٩١ ورأيت الذي رأيته هناك، وذلك بهدف وضع رفض القسوة في الصدارة بدون المس بالايمان بالله، نكون قد قلبنا الثقافة السياسية على رأسها وأسسنا لفكرة فصل الدين عن الدولة. نحن بأمس الحاجة لهذه الفكرة في ثقافتنا السياسية العربية والاسلامية، والتي بقيت الثقافة الوحيدة اليوم التي تمجد القتل والذبح باسم الدين ولذلك نجدها في حالة تدهور اخلاقي وقيمي لا مثيل له.
يجب الاصرار على ان هذا الموقف ليس فيه أي إنتقاد أو انتقاص من الدين والايمان بالله. انه ينطلق أصلاً من الاعتراف بان فكرة الجهاد هي في صميم الأديان السماوية كلها، ولا تستطيع الاديان بسهولة الخلاص منها إلا عن طريق الاجتهاد الذي هو مسؤولية رجال الدين أنفسهم لا غير. للأسف حتى اليوم، لا في الازهر ولا في النجف، لم يظهر مفكر واحد من بينهم ذو سمعة ووزن في المجتمع يمتلك القابلية والجرأة على الارتقاء الى المستوى المطلوب، ولذلك الأزمة مستمرة. داخل مظلات رجال الدين والمؤسسات الخاصة بهم فقط، يمكن إعادة صياغة افكار مثل"الجهاد في سبيل الله"،او "التكفير"، وحتى كلمة "التسامح" (التي تعني ظاهرة مختلفة تماما في الفكر المتحضر عن معانيها في التراث الاسلامي)، وغيرها من مفردات اللغة الدينية التي أسيئ استعمالها في عصرنا. الغاية في هكذا نوع من "الاجتهاد" الفكري هي الوصول الى معانٍ أسمى وأرقى من المعاني التقليدية المرتبطة بالقسوة والقتل المفرط الى حد فقدان المنطق وتدمير الأسس الاخلاقية للدين نفسه. هذه مسؤولية تاريخية تقع على عاتق رجال الدين انفسهم وسُيحاسبون أمام التاريخ لتخليهم عن القيام بها.
من وجهة النظر التي أحاول إبرازها والدفاع عنها هنا، لا يمكن البتة تبرير القسوة. عليك فقط أن تنطلق من واقع مجتمعك المدمر والمنهك والتعيس، لتقبل فكرة أولوية رفض القسوة. هذه الفضيلة كما قلت لا تقبل التبرير ومطلقة بالكامل، ولكن بعد أن تتخطاها وتتمسك بها، كل شيء متاح.
ما نحاول التوصل اليه بشكلٍ غير مباشر، هو فكرة بسيطة ومعروفة، موازية لرفض القسوة، ولكنها تأتي بكلماتٍ أخرى، وقد جاءت في البند الأول من ميثاق١٩٩١ كالآتي:
"البشر يتمتعون بحقوق بسبب كونهم بشراً وليس لأي سبب آخر."
لاحظ العبارة الأخيرة "وليس لأي سبب آخر". معنى كل ما احاول قوله الى حد الآن يمكن تلخيصه في هذه الكلمات الأربعة.
هذا البند من الميثاق أيضاً مطلق المعنى، كما ان وضع رفض القسوة في الصدارة هو فكرة مطلقة. وعندما نقول الفكرة مطلقة هذا يعني انه لا يمكن برهانها بشكل علمي، والايمان بالفكرة هو كل ما مطلوب؛ الإيمان قبل كل شيء كما كان يقول ميشيل عفلق عن القومية في الاربعينيات (راجع "في سبيل البعث"). بكلام آخر ليس للمقولة أرضية علمية كما أنه ليست هناك أرضية علمية يمكن على أساسها أن أبرهن للقارئ ضرورة وضع رفض القسوة أمام كل الفضائل الانسانية الأخرى. هذا طرح أخلاقي، أو، كما قلت في بداية النص، مسألة إرادة أو إختيار، نقطة إنطلاقها هي نوعية المجتمع الذي نريد ان نعيش فيه، والمجتمعات متعددة الانواع، والشعوب على مدى التاريخ تختار بطريقةٍ او اخرى هكذا نمط عيش أو ذاك.
خيار رفض القسوة أولاً كما قلت لا ينفي الدين، بل يحترمه. ولكن في الوقت نفسه لا يعتمد عليه ولا ينطلق منه. بالعكس يحميه من المساوئ التي هو قادر عليها؛ بكلامٍ آخر يحميه من نفسه. هنا يكمن جمال هذا الخيار.
أصبح واضحاً من كل ما سبق أن السياسي (أو السياسة كمهنة) لا يمكنه تبني مبدأ رفض القسوة ووضعها في الصدارة في عمله. المرونة الكافية التي يتطلبها العمل السياسي ليست موجودة عند من يؤمن كامل الايمان بمبدأ رفض القسوة. يجب أن تنبع حركة رفض القسوة بين المثقفين ومن داخل المجتمع (المجتمع المدني كما يطلق عليه)، أي من خارج المنظومة السياسية المهيمنة، ولذلك لا يصلح أبداً ان تكون مبادرة مثل مؤسسة الذاكرة العراقية حكومية، وإذا أصبحت حكومية سيُكتب لها الفشل.
على الرغم من هذا، نجاح الفكرة أو المبادرة بها الى حد طرح إشكالية المسؤولية تجاه كل هذه القسوة وعلى الصعيد الإجتماعي، يتطلب دعما سياسيا في نهاية المطاف لعملية المصالحة الوطنية التي ستلحقها. فن السياسة الحكيمة كما ذكرت، في وضع معقد مثل وضع العراق، "هو المشي على حبل مشدود وتحت قدميك نيران الجحيم." لقد نجح في هذا سياسيو جنوب أفريقيا بعد التغيير الذي حصل هناك في مطلع التسعينيات، كما ونجح سياسيو الهند في أواسط القرن الذي مضى، ومشاكلهم في حينها كانت أكبر وأعمق من مشاكلنا في العراق بينما فشل سياسيو العراق في ذلك فشلاً ذريعاً. لماذا؟ باختصار، لانهم انطلقوا من استغلال المظلومية الموجودة على صعيد الوطن، وذلك لاسباب طائفية ضيقة تضع اللوم كله على الآخر، وعدم الاعتراف بالمظلومية وتخطّيها عن طريق النقد الذاتي والعفو وطلب المغفرة. تقع المسؤولية المتطلبة على العراقيين اجمعهم، حيث ان كلهم مظلومين وكلهم مسؤولين بنفس القدر من المسؤولية.