للتاريخ، أود أن أروي قصة شخصية لا يعرفها الّا عدد قليل من الأشخاص، وهي تخصّ موضوع العفو في العراق. اتصل بيّ المرحوم أحمد الجلبي وطلب مني أن أحضر اجتماع مع رئيس الأمن القومي في حكومة بيل كلنتون، مارتن انديك Martin Indyk ، وعلى ما أتذكر حدث الاجتماع في شهر مارس ١٩٩٣. كان الموضوع إمكانية محاكمة صدام حسين ونظام البعث غيابياً في محكمة دولية خاصة تعقد لهذا السبب. قال انديك في الاجتماع ان الولايات المتحدة غير مستعدة لأخذ المبادرة في ذلك، ولكن اذا أخذت المبادرة المعارضة العراقية التي كانت موحدة تلك الأيام تحت مظلة المؤتمر الوطني العراقي، فان الولايات المتحدة قد تكون مستعدة لدعمها.
تركنا الاجتماع أنا وأحمد وكلانا غارق في التفكير، وبعد دقائق ونحن نخرج من البوابة الرئيسية استدار أحمد نحوي وكأنه على وشك ان يقول شيئا ولكنني قاطعته قائلاً، "أنا أعلم ماذا تريد قوله، ومستعد، ولكن لدي شرط."
"ما هو؟"، قال؟
قلت: "نطالب بمحاكمة نخبة صغيرة جداً من أعلى مسؤولي النظام فقط، وبعفو عام ينطبق على الكل، ويكون التقرير بأسم المؤتمر والأحزاب التي يضمها. لا اكتب تقريراً بدون عفو عام."
أجابني:" لا يوافقون، ولكن إن أقنعتهم، أنا موافق،" مشيراً الى أعضاء اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني العراقي التي كان فيها آنذاك ممثلو كافة الأحزاب التي استلمت الحكم بعد ٢٠٠٣ ، من اسلاميين وقوميين وحتى ممثل الحزب الشيوعي.
نزل التقرير المتكون من ٢١٦ صفحة في ٢٥ مايو\أيار ١٩٩٣ باسم المؤتمر الوطني العراقي ووزع في الكونغرس الاميركي والبرلمان البريطاني حسب ما أتذكر، كما وزع من شمالي العراق وسُرب الى بغداد، وكان عنوانه "جرائم ضد الإنسانية والانتقال من الديكتاتورية الى الديمقراطية في العراق." وقد كٌتِب في شقتي في شارع الاري في مدينة كامبردج من قبل مجموعة من العراقيين وانا على رأسهم، وللتاريخ يجب أن يقال ان كافة المواد والفصول القانونية الواردة فيه كتبها زميلي وصديقي سالم الجلبي، خريج كلية حقوق مرموقة في شيكاغو، الذي بعد ٢٠٠٣ صاغ مسودة الدستور الانتقالي وكافة القوانين التى على أساسها شُكِلت المحكمة الخاصة التي حكمت على صدام حسين وآخرين. نص العفو العام يأتي في الفصل الاول والذي عنوانه: "المحاسبة والعفو،" وورد الآتي في الصفحة السابعة:
"الجانب الآخر من العقاب هو المغفرة. عكس الانتقام، ومثل العقاب عن طريق القانون، المغفرة تستطيع إيقاف دوامة العنف، التي بدونها ستستمر الى الأبد. في نفس الوقت الذي نطالب فيه بمحاسبة نخبة من المسؤولين لما حلّ بالعراق منذ تموز ١٩٧٩، يلتزم المؤتمر الوطني العراقي بتطبيق عفو عام لا رجعة فيه لكل المسؤولين العراقيين وضباط الجيش الذين لم تذكر اسماؤهم في هذا التقرير.... العضوية في حزب البعث، او التوظيف من قبل الحكومة العراقية واجهزتها لا يعتبر بحد ذاته جريمة.... هذا العفو الشامل ينطبق على كافة الجرائم المرتكبة ضد أفراد عراقيين من قبل اي عضو في الجيش او اجهزة الدولة المدنية...." الخ، من التفاصيل.
مر الدهر على هذا التقرير، وبالطبع كل الذين صدر التقرير باسمهم لم يفوا بعد ٢٠٠٣ بما وقعوا عليه في ١٩٩٣، ولكل طرفٍ منهم اسبابه الانتهازية الخاصة به.
بالنسبة لي، السؤال يجب ان يكون كيف تقبل العمل مع هذا النوع من الناس؟ كنت على يقين في حينها ان بعض الاسلاميين (لا القوميون ولا الشيوعيون) لم تكن لديهم حتى النية بتطبيق ما وقعوا عليه، حيث ان روح الانتقام كانت بادية على وجوههم عندما حاولتُ النقاش معهم حول موضوع العفو الوارد في التقرير. ولكنني بررت الدور الذي لعبته على اساس ان ذلك التقرير سيدخل أدبيات المعارضة العراقية وسيصبح جزءاً من الخطاب السياسي رغم النيات المبطّنة. هل كنتُ على حق في هذا؟ لا ادري. استذكر هذا الحدث ليكون التاريخ هو الحكم على ما قمت به.
***
فن السياسة الحكيمة في ظروف العراق (ذكرت ان السياسة فن وليست علماً) هو كالمشي على حبل مشدود وتحت قدميك نيران الجحيم. المسافة طويلة، والحبل رفيع، وفي أي لحظة يمكن أن ينقطع الحبل أو قد تفقد توازنك (هذا الحبل هو السراط غير المستقيم). ولكن ليس هناك بديل عن المشي عليه.
في القرن الذي مضى تجسدت هذه السياسة في بعض الشخصيات النادرة جداً من أمثال غاندي ومارتن لوثر كينغ ورجال دولة من أمثال فاكلاف هافل الجيكوسلافي ونيلسون مانديلا الجنوب افريقي. لذلك هم أبطالي في الحياة وفي الاخلاق وفي السياسة؛ من تجاربهم يتعلم المرء كل ما يحتاج أن يعرفه عن معنى الحكمة في العمل السياسي. وإذا كان بالإمكان ظهور شخصيات فذّة كهذه في الهند وجنوب أفريقيا، لما لا في البلدان العربية؟
بطبيعة الحال، على الناشط في مجال وصف القسوة وتحمّل المسؤولية أن يحاول قدر الإمكان أن يكون عادلاً في عمله، ولكن يستحيل أن يدّعي عدم إنحيازه. رفض القسوة موقف مطلق بالكامل، لا يقبل النسبية وأنصاف الحلول. المبدأ بشكله المثالي، الذي اعترف انه يصعب على أي إنسان تطبيقه، هو الارتقاء بمبدأ رفض القسوة الى أعلى سلم الفضائل البشرية بحيث يأتي قبل أي فكرة أو أيديولوجية أو فضيلة إنسانية أخرى (الفضائل كثيرة وممكن تصور تسلسلها حسب الأفضلية؛ هناك تاريخ أدبي طويل في هذا المجال يرجع الى القرون الوسطى.
في أوروبا الفكر الليبرالي الذي بدأ بالتطور بعد عصر النهضة (مونتانيه، فولتير، مونتسكيو، جون ستيورت ميل) هو الذي اهتم لأول مرة بظاهرة القسوة، وأنا إذ أحاول الانطلاق مما توصلوا اليه لا أدّعي بأنني قد نجحت في ذلك. المهم في الموضوع ان هذا الفكر بدأ كردة فعل للحروب الدينية التي مزقت ودمرت القارة الاوروبية خلال القرنين السادس والسابع عشر (المالنيا وحدها فقدت حوالى ثلث سكانها من الحروب والأوبئة والجوع الذي لحقه). الملفت للنظر ان هناك علامات شبه بين ما مرت به اوروبا في تلك الحقبة الزمنية المظلمة وما نمربه نحن اليوم في البلدان العربية والاسلامية. ولكن هذا موضوع كبير وخارج نطاق هذه المقالة ومن الممكن الرجوع اليه في مناسبة اخرى.
الذي أريد التوصل اليه ان الفكر الليبرالي المؤمن كامل الايمان بقدسية الفرد (لا القطيع)، والحرمة المطلقة لجسده (والذي انبثق في أوروبا على الارضية التاريخية المذكورة سابقاً)، عليه في النهاية ان يتوصل الى مبدأ رفض القسوة وإعتبارها فضيلة إنسانية أهم من الفضائل الأخرى، أهم مثلاً من رفض الخيانة، أو رفض الاختلاس ... وأهم حتى من الإيمان بالله.
نعم، رفض القسوة يتعيّن أن يأتي في الصدارة دائماً، حتى قبل الايمان بالله، وإلا ضاعت او اضمحلت قيمته.
الملحوظ في هكذا طرح للموضوع ــ وانا اكتب حالياً عن أفكار مثالية تقدّم دليلا للسلوك وليس عن ممارسات وتجارب في الواقع ــ ان فكرة رفض القسوة بطبيعتها دنيوية أو إنسانية بحتة، لا تنكر أو ترفض أو تناقض الدين، ولكنها أيضاً لا تنطلق منه. الدين يحق له أن يبرر القتل باسم الجهاد، مثلاً، لأن أسمى فضيلة في كل الأديان هي الايمان بالله وليس رفض القسوة.
يتبع
التصنيÙ:
كنعان مكية