Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

كنعان مكية: عن القسوة.. جذور تجربة مؤسسة الذاكرة العراقية (1991–2003) 1 - 6

     كتبتُ هذا النصّ على ضوء ما عشته وما توصلتُ اليه بالتجربة خلال عقد التسعينيات داخل وخارج العراق، ولذلك يطغى عليه طابع السيرة الذاتية...


  

 
كتبتُ هذا النصّ على ضوء ما عشته وما توصلتُ اليه بالتجربة خلال عقد التسعينيات داخل وخارج العراق، ولذلك يطغى عليه طابع السيرة الذاتية، الممزوجة مع أفكار عامة توصلتُ اليها نتيجة تلك التجربة. كُتب النص بهذه الطريقة للأمانة، من منطلق رفض التعميم والبناء على الصراع بين المشاعر الشخصية والتنظير لها. 

ولكننا اليوم نشهد أزمة حضارة ودين في المنطقة عموماً، وليس فقط في العراق. لا بدّ أن هناك ترابطاً بين تطبيع القسوة الذي حدث في العراق خلال سنوات حكم البعث، والذي هو موضوع هذا النص، وإرتقائها الى مستويات جديدة من الوحشية المنتشرة كالوباء في الشرق الاوسط اليوم، وخير مثال على ذلك ممارسات "داعش" أو "الدولة الاسلامية". هذا الترابط في غاية الأهمية، ولابدّ في يوم ما ان تتم دراسته ضمن مشروع ثقافي عربي واسلامي جديد، ينطلق من هذا التطبيع الشاذ للقسوة في مجتمعاتنا. قد يساهم هذا النص في مشروع مثل هذا، أي في إرتقاء مبدأ رفض القسوة في ثقافاتنا الى أعلى سلم الفضائل الانسانية والذي كان هو الغاية الأساسية من تجربة مؤسسة الذاكرة العراقية التي كُتب عليها الفشل في العراق (أسباب هذا الفشل خارج نطاق هذا النص، ولكنني سأتطرق للموضوع في فرصةٍ أخرى).

***
لنبدأ بالتمييز بين الذاكرة والتاريخ. كتابة التاريخ تفترض دراسة الحقائق وتفحص الوثائق والاستشهاد بالشهود، والمفروض بموضوعية وروح نقدية. يحصل هذا بعد مرور زمنٍ طويل على الأحداث، زمن يطول الى الحد الذي يصبح الحدث شيئاً بعيدا عنا وعن مشاعرنا وعن تعريفنا لأنفسنا. حينها، وفقط إذا توفقنا في كل ذلك، قد نفهم معنى الحدث، ويبدأ هذا المعنى يثبّت بشكلٍ أو آخر في كتبنا وفي سجل وطننا على أساس أنه تاريخ هذا الحدث أو ذاك. هكذا يكتب التاريخ، أو بالأحرى هكذا يُفترض أن يكتب التاريخ.

على العكس من ذلك، فان الذاكرة إختيار ذاتي آتٍ من الداخل ومتداخل الى هذا الحد أو ذاك بالعواطف والمشاعر، ولا عيب في هذا. الذاكرة ليست الحقيقة المطلقة الأبدية الخارجة عن إرادتنا والمنفصلة عن ماهيتنا. نختار ان نتذكر، أو بكلامٍ  آخر نختلق ذكرياتنا، حتى المؤلمة منها، كشباك نفتحه على العالم والحياة.

الذاكرة تُختَلق بينما التاريخ يُكتشف، يُكتشف وكأن له وجوداً بحد ذاته رغم أنفسنا. الإختلاق يختلف عن الاكتشاف، كما تختلف لوحة الفنان التشكيلي عن الطبيعة التي رسمها والتي لها وجود مفصول عما قد يختلقه شخص الفنان. 

لذلك لابد ان تكون عملية إستذكار الحدث وإبرازه للآخرين، مرتبطة عضوياً مع علاقتنا بحاضرنا وحتى بتعريفنا لأنفسنا. الذاكرة والهوية مترابطتان، ينبعان من نفس المصدر. من أنا إذا لم أكن مجموع ذكرياتي مهما كانت جميلة أو قاسية؟ 

نسمي التاريخ "علماً" لأنه لا يعرف القساوة ولا الجمال: هو كائن قائم بحدّ ذاته بمعزل عن هوياتنا وعن مدى معرفتنا أو جهلنا له. وبهذا يقترب عمل الإستذكار من العمل السياسي أو حتى العمل الفني (والسياسة والفن كثيراً ما يتقاربان كما حللتهما في كتابي عن "النصب التذكارية" المنشور عام ١٩٩١). نستذكر العديد من الأشياء التي ليس لمعظمها علاقة بالسياسة. ولكن عندما نستذكر، وفقط في بعض الأحيان، نكون قد عملنا على صعيد الثقافة العامة، الثقافة المتاحة للكل، أو بكلامٍ آخر الثقافة السياسية لمجتمعاتنا وهي التي تخصني في هذه المداخلة. 

عندما أتكلم عن الثقافة السياسية لا أقصد النشاط أو العمل السياسي الذي ينطلق منه (على غرارسلطة أو أحزاب أو حركات ومواقف سياسية وكلها مطلوبة من أي مواطن يفكر ويهتم بمصلحة وطنه)؛ أقصد مجموع المفاهيم والقيم والذكريات التي تدخل في الإجابة على أهم سؤال معرفي وسياسي يواجهه كل إنسان مجرد لكونه حيوان إجتماعي بالطبع: من أنا؟ 

أُسست مؤسسة الذاكرة العراقية في ٢٠٠٣ على هذه الأرضية الفكرية العامة، أي على أساس أن القسوة بالخصوص في العراق يجب ان تستذكر بإرادة اجتماعية، بمعنى أن محتوى هويتنا العراقية بعد سقوط الطاغية اصبحت تعتمد على قابليتنا كمجتمع وكثقافة ان نقوم بهكذا عملية إستذكار. وهذا الذي لم يحصل، مما يفسر فشل تجربتنا والتمادي بمستويات الوحشية يفوق كل ما حدث في العراق قبل ٢٠٠٣.

***
"انتهكت الدولة حرمة المجتمع في العراق باسم الايديولوجيات مما أسفر عن تدمير العلاقات التي تقوم عليها حالة التمدن. بهذا، وصل إنحطاط الأواصر الاجتماعية التي تجمع ضحايا ذلك الانتهاك الى الحضيض وحدث إنهيار للقيم في العراق يتوافق مع تدمير حيز العلاقات الانسانية بين البشر، ذلك الحيز المتحرر من الاكراه والمنفصل كلياً عن الدولة. لذا فان أول مهمة لطرح تصور جديد للعراق هو رفض البربرية وإعادة بناء المجتمع المدني وحالة التمدن".

هذه الكلمات أتت في مقدمة وثيقة سُميت ميثاق ١٩٩١، التي كانت في حينها دعوة فكرية وأخلاقية من أجل  إقامة "جمهورية التسامح" في عراق ما بعد صدام حسين بدل "جمهورية الخوف". لقد تَخَيل هذا الميثاق مجموعة من العراقيين في المنفى، وأنا أحدهم. صيغ الخيال في بيان من ١٤٠٠ كلمة وقد لعبتُ دوراً في صياغته، ووقّع عليه ٢٦٦ مثقفا عراقيا خلال عام ١٩٩١ (واستمرت حملة التواقيع، بدعم من المعهد العراقي برئاسة رند الرحيم في واشنطن وجهود ضياء كاشي في لندن، لفترة طويلة حتى وصل العدد الى أكثر من ١٠٠٠ توقيع).

كان عام ١٩٩١ منعطفا مهما في تاريخ العراق الحديث. لكل عراقي عاش تلك السنة، داخل أو خارج العراق، قصة لا تنسى تخص تلك السنة. على الصعيد الشخصي كان ذلك العام بالنسبة لي نقطة إنطلاقة لسلسلة من الأفكار والتجارب الجديدة بدأت بعد ظهوري المفاجئ من خلف ستار الاسماء المستعارة ومشاركتي في مشروع الميثاق، واستمرت مع المعهد العراقي في واشنطن الى ان تُوّجت بمبادرة مؤسسة الذاكرة العراقية في العام ٢٠٠٣، والتي ترجع جذورها الى الأفكار المطروحة في هذا الميثاق بالاضافة الى ما قمت به في نهاية الشهر التاسع من العام ١٩٩١، بعد إعلان الميثاق، عندما دخلتُ العراق لأول مرة منذ صيف ١٩٦٨.  

لقد ذُهِلتُ بالعراق الذي استطعتُ أخيراً الرجوع اليه، أو بالأحرى صُدِمتُ به مقارنةً بعراق الخمسينيات والستينيات الذي ظلّت ذاكرتي تستعيده. وآثار تلك الصدمة دخلت في كل ما قمتُ به فيما بعد. 

جاء في الجملة الأولى من الميثاق: "إنتهكت  الدولة حرمة المجتمع". يا لها من كلمات شاحبة لما رأيته في تلك الرحلة داخل العراق! 

دخلتُ بالسيارة عن طريق تركيا الى دهوك من دون تأشيرة دخول حيث كانت السلطة العراقية منهارة حينها. استلمتني الميليشيا تلو الأخرى من الأحزاب الكردية. دخلتُ بحثاً عن شاب عمره بحدود ١٤ سنة اسمه تيمور، قيل لي في لندن أنه نجا باعجوبة من حدثٍ مبهم كان يشار اليه عبر راديو بغداد خلال عقد الثمانينيات باسم "عمليات الأنفال البطولية".

في حينها لم يكن أحد، ولا حتى الأكراد، يعرف ما هي هذه العمليات بالضبط: هل هي إستمرارية على أرض العراق للحرب القائمة مع إيران (لأنها تطابقت زمنياً مع الحرب)؟ أم هي حملة إبادة منفصلة استغلّت حجة الحرب؟ وعلى أي أساس أيديولوجي أو قانوني قامت هذه العمليات؟ أهي حملة تطهير للاكراد كقومية؟ أم هي حملة إبادة محصورة بـ "المناطق المحظورة أمنياً"، كما توحي الوثائق الرسمية للاستخبارات العسكرية، وليس لها بالدرجة الأولى دافع تطهير قومي؟ إذن كان المحك الوجود أو عدم الوجود داخل هذه المناطق المحظورة، والذي يفسر إبادة بعض القرى الآشورية ضمن الآلاف من القرى الكردية المبادة. هذا ما  توصلتُ اليه في "القسوة والصمت" بعد دراسة الوثائق التي استولت عليها الاحزاب الكردية خلال الانتفاضة (والاستنتاج، اذا كان صحيحا، فانه مهم حيث يناقض الرواية الكردية حول معنى هذه العمليات، ويدلّ هذا على اننا بحاجة الى دراسات أكثر عن الانفال لفهم أعماق الأذى الذي لحق نتيجة هذه العمليات.(
قضينا، انا والمصور الذي رافقني، كوين روبرتز  Gwynne Roberts، حوالي الشهرين في شمالي العراق بحثاً عن تيمور وللاجابة عن اسئلة من هذا النوع. خلالها عثرنا على "أطنان" من وثائق المخابرات وأجهزة القمع البعثية الأخرى التي استولت عليها الميليشيات الكردية المختلفة خلال الانتفاضة الشعبية التي لحقت حرب الخليج الأولى. وقد اتهمني البعض بسرقتها متقصدين الاستفزاز وليس عن فهم. للأسف خلال الانتفاضة الشيعية في الجنوب حُرقت ودُمرت الوثائق من قبل المنتفضين جهلاً بأهميتها.

يصل حجم المجموعة الأولى من الوثائق التى عثرتُ عليها في شمالي العراق، حوالي مليون وأربعمئة ألف فايل الكتروني بعد المسح (ولا أقول وثيقة لأن كل وثيقة متكونة من عدة فايلات الكترونية. الفايل يعادل الصفحة، ومجموع الصفحات بذلك يعادل مكتبة فيها ٧٠٠٠ كتاب). في حينها حاولتُ إقناع الاحزاب الكردية المختلفة بأهمية هذه الوثائق لكتابة تاريخ العراق في المستقبل، ولإبقاء ذكرى الأنفال حيّة، وكنتُ مقتنعاً بأن الوثائق في وضع غير آمن في شمالي العراق حيث مازال هناك وجود للمخابرات العراقية رغم الانتفاضة، ومصير المنطقة الآمنة لم يكن ثابتا ومحددا من قبل الأمم المتحدة بعد. 
لذلك، ومن باب الحفاظ والعناية والعمل على هذه الوثائق فقط، آمنت بأنها يجب ان تخرج من البلد حفاظاً عليها، ولو مؤقتاً، ولكنني لم أفلح في إقناع الأحزاب الكردية في حينها بذلك. بعد فترة، ولأسباب سياسية وإعلامية لا دخل لي بها، نقلتها الاحزاب الكردية بنفسها الى الولايات المتحدة بدعم أميركي وعملت عليها مؤسسة Middle East Watch بإشراف يوست هلترمان في واشنطن في أواسط التسعينيات، وصدرت عدة منشورات حولها. 

إنتهت الرحلة بإنتاج الفيلم الوثائقي الذي عرض على ال BBC لأول مرة في كانون الثاني ١٩٩٢ تحت عنوان "العودة الى الجحيم" ، ومن ثم أعيد بثه بشكل أطول في الولايات المتحدة تحت مظلة برنامج فرونتلاين Frontline وعنوانه هذه المرة "حقول قتل صدام"، وقد فاز الفيلم (الذي للعار لم يعرض في أي بلد عربي الى يومنا هذا بإستثناء عراق ما بعد ٢٠٠٣ ، وذلك بفضل جهود الاعلامي والصحفي آنذاك، مصطفى الكاظمي، أحد الأركان الثلاثة لتجربة مؤسسة الذاكرة العراقية) بأهم جائزة عالمية للافلام الوثائقية لسنة ١٩٩٢ ، هي جائزة أدوارد مرو .Edward Murrow Award
أفتخر وأعتز بهذا العمل، وبهذه الجائزة، أكثر من كل ما كتبته أو عملته أو حزت عليه طيلة حياتي، وذلك لأنني في هذا الفيلم وثّقتُ ونشرتُ، على صعيد العالم بأكمله (بإستثناء العالم العربي)،  قصة عمليات القتل الجماعية في شمالي العراق المسماة بالأنفال، وبعد عرضه، عندما كنتُ أتجوّل في شوارع المدن الكردية، كان الناس يستقبلونني ويرحبون لوجودي بينهم متقدمين بكلمات الشكرعلى ذلك الفيلم، بينما أحسّ أنا بالخجل من عراقيتي ومسؤوليتي كعراقي لما حدث لهم بين ١٩٨٧ و ١٩٨٨. يأخذ الفيلم أهميته للأكراد لكونه إنتاج شخص عربي عراقي وليس كرديا مثلهم، وفي هذا عبرة ذات بعد سياسي كبير جداً، مرتبط بنيوياً بمعنى وأسباب وجود شيء اسمه مؤسسة الذاكرة العراقية.


ليست هناك تعليقات