
لم يكن الشيخ أنيس الذي كان يعتمر طربوشاً أحمر رجلاً معمّماً، لكنّه كان رجلاً مؤمناً ورعاً يخاف الله ويعمل بتعاليمه، ولم يكن مختاراً فقط، بل سمّاناً ولحاماً وحكيماً وفرمشانياً وشيخ صلح، إليه يلجأ أهل الضيعة ويقصدونه لشراء حاجياتهم المتنوّعة وحل مشاكلهم وإيداع أماناتهم وإجراء معاملاتهم.
في دكّانه القديمة التي كانت تتوسّط الساحة وتتميّز بحجارتها المقصّبة وببابها الخشبي الذي يتوسّطه لوح حديد على شكل مسطرة أمضى الشيخ أنيس عمره مواظباً على عمله سواء في المخترة أم في المجالات الأخرى. وعلى طاولته التي كانت تضمّ أوراق النفوس والختم، كان يضع علب الحلوى والسكاكر والدخان «الفلت» والبزر والراحة والحلاوة وغيرها... وحول الطاولة كانت تنتشر أكياس الفول والحمّص والعدس والسكّر والملح وغيرها من أنواع الحبوب. وعلى جدران الدكّان ارتفعت رفوف ضمّت كلّ شيء من بوابير الكاز و«الضو نمرو أربعة» وأدوات الخياطة والغسيل من «أزرار نيل» وصابون عربي وغار و«شاش» اللوكس وبطاريات «الانتريك» وغيرها من الأغراض البسيطة التي كانت شائعة حينها وتحتاج إليها المنازل قبل أن تزحف التكنولوجيا الحديثة إلى منازلنا وتحوّلها إلى «ديجيتال» ورقميّة بامتياز.
ووسط تلك البضائع كلّها التي كانت تعجّ بها الدكان، كان الشيخ أنيس يفرد في وسطها مساحة لفخذ اللحم الذي كان يحضره معه من النبطيّة ويعلّقه في ذلك الجنزير الحديدي الذي يتدلّى من السقف، حيث يتجمّع الناس حوله لشراء ما تيسّر من لحم وأغراض أخرى، يبقى ثمنها ديناً بذمّة الشارين، يسجّلها الشيخ أنيس على دفاتر خاصّة يقلّب أوراقها من موسم إلى موسم ومن عام إلى عام.
بالرّغم من أنّه كان مختاراً لأربعين عاماً، تميّز الشيخ أنيس بروح النكتة وحس الفكاهة والمقالب الطريفة التي كان يدبّرها لكلّ من قصد دكّانه وللـ «الختايرة» الذين كانوا يفترشون الساحة ويجلسون على مقاعد خشبيّة يعدّون ما تبقّى لهم من عمر. الشيخ أنيس «الآدمي» كما كان يطلق عليه أبناء الضيعة جميعاً، كان محلّ ثقة الجميع، يتمتّع بمصداقيّة عالية فلديه كانت تودع الأمانات وأمامه تُعقد الاتفاقيات، وعلى مسامعه تُتلى الشهادات. وفي أدراج دكّانه تحفظ الصور لطالبي إخراج القيد والتي لم تعد تتّسع لها.
الشيخ أنيس النزيه لم يكن يهمّه المال ولم يأخذ قرشاً واحداً بدل معاملة طيلة الفترة التي أمضاها في المخترة خادماً أميناً لأبناء بلدته، لا يردّ طلباً ولا يخيّب ظنّ أحد شرط أن يكون وفق الأصول والقانون اللذَين لم يحد عنهما الشيخ أنيس طيلة حياته قيد أنملة.
مع بداية الحرب التي اجتاحت لبنان، لم يصدّق الشيخ أنيس أنّ الجمهوريّة التي حمل ختمها طويلاً قد تداعت وتحوّلت إلى أشلاء وجمهوريّات متناحرة، وأنّ حبرها الذي ختم به طويلاً قد جفّ ولم يعد سوى وشمٍ على ورق. لم يبق للجمهوريّة في زمن الحرب التي اجتاحت البلاد سوى ختم الشيخ أنيس يحرسه بكلّ ما أوتي من قوّة، ولم يبق من أوراقها الثبوتيّة التي تثبت أنّها كانت هنا سوى أوراق المخترة التي اصفرّت أوراقها، لكنّ الشيخ أنيس بقي يرتّبها ويحفظها وينفض عنها الغبار.
بقي الشيخ أنيس حارساً للجمهوريّة ووفياً لختمها، يحفظه من أي سوء ومن أي أذى، إلى أن سلّم الأمانة ورحل عن هذه الدنيا مرتاح الضمير مطمئنّ البال.
لم تعد الجمهوريّة وختمها بعد الشيخ أنيس كما كانت معه، فقدت بريقها وانسانيّتها وتواضعها وأمانتها، فقدت حس الانتماء للوطن واستبدلته بالانتماء للمزارع والطوائف والمناطق. بعد الشيخ أنيس اختلف الاستحقاق الانتخابي البلدي والاختياري وتبدّل جذريّاً. المحادل هي التي تتكلّم الآن وإليها تعود كلمة الفصل في صناديق الاقتراع. لم تعد الحاجتان «شملكان» و«سهجنان»، وفاطمة مصطفى يولّعن الكاز ويزلغطن احتفالاً كما فعلن يوم فاز الشيخ أنيس، أصبحت أصوات الرصاص والمفرقعات الناريّة هي التي تزيّن السماء احتفالاً بالفوز. ولم تعد المخترة خدمة عامّة ينذر صاحبها نفسه للسهر عليها من دون مقابل، بل تحوّلت إلى تجارة مربحة تُجنى منها الأموال.
في زمن الانتخابات البلديّة والاختياريّة يتراءى لي وجه الشيخ أنيس بطربوشه الأحمر يتدلّى مائلاً فوق رأسه، وتتراءى لي ضحكته وابتسامته وصدقه وأمانته، ويتراءى لي ذلك الختم الذي حمله معه ورحل.
زهير دبس