محمد حجيري
أخيراً صدر بالعربية «كتاب الهوامش»() للشاعر الفرنكوفوني المصري إدمون جابيس (1912 1991)، الذي غالباً ما نقرأ مختارات من نصوصه مترجمة إلى العربية ومنشورة في دوريات وصحف مواقع الكترونية، لكن لم تصدر في كتاب. وجابيس «اليهودي الأصل» بحسب ما تتحدث عنه المقالات والدراسات، من ضمن مجموعة من الشعراء الفرنكوفونيين المصريين الذين لمعوا بعد الحرب العالمية الثانية وخلال النصف الثاني من القرن الماضي قبل أن تهمّشهم الايديولوجيا الناصرية ومن بعدها الثقافة الأصولية.
و»كتاب الهوامش» الذي أصدره جابيس في العام 1987، يحتل مكانة فريدة مقارنة بباقي مؤلفاته. رأينا الشاعر الراحل بسام حجار يستشهد به في ديوانه «تفسير الرخام»، الى جانب بعض الكتابات الفلسفية. والكتاب يتضمن تأملات وأسئلة: ماذا تعني القراءة؟ ما الذي يختفي وراء الكلمات؟ ماذا يقول المؤلف؟ وماذا يسمع القارئ؟ يقول «أن تكتب كسؤال للكتابة؛ سؤال يحمل الكتابة التي تحمل السؤال، ولا تسمح بأي علاقة بالكائن. يرى إليها كتقليد، كنظام، كحقيقة، وككل شكل للتأصيل الذي تلقيته يوماً من ماضي العالم، مجال كنت مدعواً فيه إلى التدبير من أجل أن تقوي «أناك»، بالرغم من أن هذه الأخيرة كانت مصدعة، منذ اليوم الذي انفتحت فيه السماء على فراغها». بينما أصوات قريبة تتقاطع مع صوته بل تغطيه عبر أقوال واستشهادات يستحضرها جابيس لبول سيلان، جاك ديريدا، ماكس جاكوب، روجي كالوا، إيمانويل ليفيناس، ميشيل ليريس، موريس بلانشو وغيرهم. من أجل أن نفكر في عجائب الكتابة ومعجزة المعنى. «كتاب الهوامش» أو اجترار ما يتعذر قوله.
يعرض جابيس في الكتاب ذلك الواقع المُعاش بحدة «اذا لم تكن حريتي في الكتاب أين ستكون؟. «كان يخاف من أسود الحر، لهذا كان يكتب»، و»الكلمة هي الوزن الزائد للعدم»، و»ليس تاريخ الأدب بطريقة ما سوى تاريخ الانتقام». ومع «كتاب الهوامش» كما مع كتبه الأخرى «تتأكد طريقة جابيس في إرغام الكتابة على تجاوز حدودها الخاصة، والتعبير عما يتعذر قوله في الفكر، أسلوب يطالب بالتأقلم، بالإشباع ليتم الإنصات إليه كليا، هذا ما يخلق فرادة أعماله ويمنحها هذا الطابع الملتبس. إن جابيس، على غرار أعماله أراد بدوره، أن يتشكل في المتعذر قوله، رافضا ما يمكن تسميته بـ»التأصيل». إلى درجة أن النقد يتوه بمجرد أن يحاول تصنيفه. وتستقي المترجمة رجاء الطالبي في تقديمها للكتاب حالة كاترين دافيد، التي حاولت منذ سنوات في مقال لها في «لو نوفل أبزرفاتور» أن تحصي الإمكانات الجابيسية: «من هو إدمون جابيس؟»، تساءلت. «شاعر؟ متصوف؟ حبر؟» لكن الكثيرين يتخبطون في الفوضى ويحاولون أن يرسموا له شخصية معلومة منبثقة من المقاربات والسلالات. هكذا يختار البعض جابيس الشاعر ويسجلونه حسب ميولهم في حوارات متعددة. على الأغلب بجوار أبولينير، أو منحدرا عن مالارميه، أو تابعا لرينه شار. بينما آخرون يجعلون منه ميتافيزيقياً، «ميتافيزيقيا للعدم»، يعلن كلود مورياك، إذ إن أعماله، هي» الأكثر ميتافيزيقية في زماننا هذا». كما يعتبره آخرون صوفياً، إذ يجذب نصه إلى عكس ما يقوله تحديدا، كاشفاً عن «بوح»، و»رؤية كونية»، دافع عنها جابيس دائما. كما يرى فيه آخرون استمرارية التقليد اليهودي، ذاهبين أبعد من ذلك، متسائلين «ألا يتخفى وراء الشاعر رجل الدين في النهاية». خلاصة، هذا يجعل منه بدون شك: رجلا محيرا. إنه ككتابته يتجاوز الحدود، يفجر الخانات: إنه في النهاية ما يقال عنه ورجل آخر. ربما يشكل طفرة، لكنه بكل تأكيد: التائه.
وليست ثقافة جابيس الشعرية إلا نتيجة تراكمات وتحولات وهجرات ومناف، فهو ولد في 16 نيسان - أبريل في العام 1912 من أسرة يهودية برجوازية كانت قد حصلت على الجنسية الإيطالية لتحظى بامتيازات خاصة بالأجانب. وكانت الأسرة تملك مصرفا كبيرا. درس جابيس في «كوليج دي سان باتيست» وهي مدرسة الفرير الفرنسية بباب اللوق ثم في مدرسة الإرسالية الفرنسية «الليسيه«.
اكتشف جابيس الشعر في الثالثة عشرة من عمره، لدى قراءته ألفرد دو موسيه وألفرد دو فينيي وبول فرلين، ثم بودلير ورامبو ومالارميه. وفي أواخر العشرينات، نشر بعض مقالاته ضد موسوليني ونزعته الفاشية في صحيفة «الحرية»، وفي بعض قصائده الرومانسية والرمزية قبل أن يسافر إلى فرنسا للإقامة والدراسة بكلية الآداب في باريس، التي أصدر فيها مجلة: «المختارات الشهرية» لتقديم وعرض النشاط الثقافي المصري المكتوب بالفرنسية. ومع أن نصوصه الأولى تعود الى فترة المراهقة تلك، لكن قدره ككاتب سيُحسم بين عامَي 1930 و1932، مع إصداره ثلاثة كتب: «أوهام عاطفية»، «أنا في انتظارك» و»أمي». منذ ذلك الحين، حاول توزيع وقته على الأصدقاء والقراءة والنشاطات الثقافية. أما لقاؤه بماكس جاكوب، فتم في باريس في العام 1935. بسرعة أصبح هذا الشاعر الفرنسي مرشده الروحي الذي «علّمني أن أكون ذاتي، أي مختلفاً». قرأ له بعض نصوصه الشعرية، فما كان من جاكوب إلا أن أرشده إلى متابعة نتاج شعراء الفرنسية المعاصرين ودفعه إلى مصادقة بول إيلوار وأندريه بروتون ورينه شار. خلال تلك الفترة، التقى جابيس، الناشر الفرنسي بيار سيغيرس الذي أصدر له ديوان «أناشيد لوجبة الغول»، واستقبل في القاهرة فيليب سوبو وهنري ميشو وروجيه كايوا، الذين ستربطهم به علاقات وثيقة وثابتة.
بعد تأميم قناة السويس 1956، غادر الشاعر وطنه مرغماً في حزيران - يونيو 1957 الى فرنسا، قال: «سافرت إلى فرنسا لأنها بلد اللغة التي أتقنها»، وأضاف في حديث صحافي: «تركت بلدي، وكان علي أن أبحث عن صحراء أخرى، غير أنني لم أجد صحرائي أبداً. الصحراء أملي الكبير في حياتي كلها. في القاهرة، كنت أسير مسافات طويلة في الصحراء، ولوقت لا أعرف له أي حد. أعلاي السماء زرقاء وأمامي الصحراء ممتدة. هناك في الصحراء يبدو الهدوء بلا نهاية، والصمت ملهماً، وقد ساعداني في الكتابة، وبعدما تركت مصر تقت طويلاً إلى تلك المشاعر والحالات» (مجلة «لا كسبرسوس» الإيطالية، 15 كانون الثاني - يناير 1985.
يعترف جابيس، الذي سمي «السوريالي الشرقي»، بغربته الفرنسية قائلاً: «انتمائي إلى بودلير ومالارميه والسورياليين في القاهرة، كان مرجعي أكثر من أي أمر آخر. في باريس ارتفعت مصر وصحراؤها وايقاع الحياة فيها فجأة كجدار بيني وبين هؤلاء الشعراء». وبعدما حصل على الجنسية الفرنسية في العام 1967 غاب ادمون جابيس مصرياً وعربياً ولم يذكر اسمه الا نادراً في سياق الكلام عن السورياليين المصريين وعن الشاعر جورج حنين الذي كان صديقه، وقد أسسا معاً مجلة «حصة الرمل» التي استقطبت أقلام المصريين الفرنكوفونيين وبعض الفرنسيين. يؤكد جون جاك لوتي، في كتاباته عن السوريالية المصرية: «من بين خبرات هذه الحركة الشابة الناهضة، يذكر اسم إدمون جابيس في أفضل مكانة، وهذا يوضح إلى من ضللتهم القصيدة، تناقض «مانفستو» الحلم الخالد تجاه اليقظة، وفي سعاداتها وخيباتها. في قصائده خفة شفاهية وألاعيب طفولية، فيما خلف ذلك رغبة هائلة للتحرر من كل القيود العروضية. هذا الفكر المتمرد يقترب إلى حد ما من فكر ماكس جاكوب الذي صاحبه قبلاً. نكتشف أن للشاعر رؤية أحدية للكينونة والأشياء، تهتم بالفنتازيا أكثر من الواقعية، وأكثر من ذلك، تعد سذاجة غير عادية لمواجهة العالم الجديد. قصارى القول: «استغل جابيس في قصائده أدنى حنايا الحياة الباطنية«.
ومثل مالارميه، اعتبر جابيس أن العالم لا بد من أن يفضي الى كتاب. لكن، بنظره، فإن على هذا الكتاب أولاً أن يسمح بجعل العالم مرئياً. والكتاب الأول الذي أصدره في منفاه الباريسي كان «أشيّد منزلي» (1959) وبدا عنوانه ذا دلالة بيّنة. ولم يتوان جابيس عن تسمية كتب كثيرة له أنه عنونها بـ «الكتاب». وبعض الكتب توزّعت في أجزاء تحت عنوان واحد. من بينها: كتاب الأسئلة، كتاب التشابهات، كتاب الهوامش، كتاب التخوم، كتاب الضيافة. وقد صرف قرابة الخمسة عشر عاماً لإنجاز «كتاب الاسئلة» بأجزائه السبعة.
يُعرف جابيس بأنه شاعر اللا انتماء والتيه والفراغ. وصفه النقاد بأنه «شاعر المنفى» أيضاً. ثمة مكانان حقيقيان يظهران دوماً في كتبه، هما الصحراء ومصر. وإذا كانت الصحراء قد اخذت حقها في النقد، لكن مصر مسقط رأس الشاعر، وشغفه المكاني لم تحتضنه. يقول الناقد ستيفن جيرون، إن إدمون جابيس قد أسعده الحظ بأن يحظى بقبول النقاد والجمهور في البلد الذي اتخذه وطناً له. وكان شعره موضوع تأمل نقدي من جانب عدد من المفكرين الأوسع نفوذاً في مجال الآداب والفلسفة المعاصرة، بمن فيهم جاك دريدا وموريس بلانشو وجان ستاروبينسكي. وفي حين أن شهرته راسخة في فرنسا، فإن جمهور شعر إدمون جابيس في مصر، محدود. على أن مصر هي التي أنجبته وقد عاش فيها السنوات الخمس والأربعين الأولى من حياته. صحيح أن إهماله يرجع إلى حد بعيد إلى الزوال الذي أخذ يحل في الخمسينيات بالجماعة الفرنكوفونية التي كانت مزدهرة في مصر في وقت من الأوقات. إلاَّ أنه حتى خلال أعوامه القاهرية، لم يحرز جابيس غير اعتراف طفيف من جانب أقرانه في مصر.
()عن «منشورات ضفاف»/ بيروت، والاختلاف/ الجزائر.
نوافذ
أخيراً صدر بالعربية «كتاب الهوامش»() للشاعر الفرنكوفوني المصري إدمون جابيس (1912 1991)، الذي غالباً ما نقرأ مختارات من نصوصه مترجمة إلى العربية ومنشورة في دوريات وصحف مواقع الكترونية، لكن لم تصدر في كتاب. وجابيس «اليهودي الأصل» بحسب ما تتحدث عنه المقالات والدراسات، من ضمن مجموعة من الشعراء الفرنكوفونيين المصريين الذين لمعوا بعد الحرب العالمية الثانية وخلال النصف الثاني من القرن الماضي قبل أن تهمّشهم الايديولوجيا الناصرية ومن بعدها الثقافة الأصولية.
و»كتاب الهوامش» الذي أصدره جابيس في العام 1987، يحتل مكانة فريدة مقارنة بباقي مؤلفاته. رأينا الشاعر الراحل بسام حجار يستشهد به في ديوانه «تفسير الرخام»، الى جانب بعض الكتابات الفلسفية. والكتاب يتضمن تأملات وأسئلة: ماذا تعني القراءة؟ ما الذي يختفي وراء الكلمات؟ ماذا يقول المؤلف؟ وماذا يسمع القارئ؟ يقول «أن تكتب كسؤال للكتابة؛ سؤال يحمل الكتابة التي تحمل السؤال، ولا تسمح بأي علاقة بالكائن. يرى إليها كتقليد، كنظام، كحقيقة، وككل شكل للتأصيل الذي تلقيته يوماً من ماضي العالم، مجال كنت مدعواً فيه إلى التدبير من أجل أن تقوي «أناك»، بالرغم من أن هذه الأخيرة كانت مصدعة، منذ اليوم الذي انفتحت فيه السماء على فراغها». بينما أصوات قريبة تتقاطع مع صوته بل تغطيه عبر أقوال واستشهادات يستحضرها جابيس لبول سيلان، جاك ديريدا، ماكس جاكوب، روجي كالوا، إيمانويل ليفيناس، ميشيل ليريس، موريس بلانشو وغيرهم. من أجل أن نفكر في عجائب الكتابة ومعجزة المعنى. «كتاب الهوامش» أو اجترار ما يتعذر قوله.
يعرض جابيس في الكتاب ذلك الواقع المُعاش بحدة «اذا لم تكن حريتي في الكتاب أين ستكون؟. «كان يخاف من أسود الحر، لهذا كان يكتب»، و»الكلمة هي الوزن الزائد للعدم»، و»ليس تاريخ الأدب بطريقة ما سوى تاريخ الانتقام». ومع «كتاب الهوامش» كما مع كتبه الأخرى «تتأكد طريقة جابيس في إرغام الكتابة على تجاوز حدودها الخاصة، والتعبير عما يتعذر قوله في الفكر، أسلوب يطالب بالتأقلم، بالإشباع ليتم الإنصات إليه كليا، هذا ما يخلق فرادة أعماله ويمنحها هذا الطابع الملتبس. إن جابيس، على غرار أعماله أراد بدوره، أن يتشكل في المتعذر قوله، رافضا ما يمكن تسميته بـ»التأصيل». إلى درجة أن النقد يتوه بمجرد أن يحاول تصنيفه. وتستقي المترجمة رجاء الطالبي في تقديمها للكتاب حالة كاترين دافيد، التي حاولت منذ سنوات في مقال لها في «لو نوفل أبزرفاتور» أن تحصي الإمكانات الجابيسية: «من هو إدمون جابيس؟»، تساءلت. «شاعر؟ متصوف؟ حبر؟» لكن الكثيرين يتخبطون في الفوضى ويحاولون أن يرسموا له شخصية معلومة منبثقة من المقاربات والسلالات. هكذا يختار البعض جابيس الشاعر ويسجلونه حسب ميولهم في حوارات متعددة. على الأغلب بجوار أبولينير، أو منحدرا عن مالارميه، أو تابعا لرينه شار. بينما آخرون يجعلون منه ميتافيزيقياً، «ميتافيزيقيا للعدم»، يعلن كلود مورياك، إذ إن أعماله، هي» الأكثر ميتافيزيقية في زماننا هذا». كما يعتبره آخرون صوفياً، إذ يجذب نصه إلى عكس ما يقوله تحديدا، كاشفاً عن «بوح»، و»رؤية كونية»، دافع عنها جابيس دائما. كما يرى فيه آخرون استمرارية التقليد اليهودي، ذاهبين أبعد من ذلك، متسائلين «ألا يتخفى وراء الشاعر رجل الدين في النهاية». خلاصة، هذا يجعل منه بدون شك: رجلا محيرا. إنه ككتابته يتجاوز الحدود، يفجر الخانات: إنه في النهاية ما يقال عنه ورجل آخر. ربما يشكل طفرة، لكنه بكل تأكيد: التائه.
وليست ثقافة جابيس الشعرية إلا نتيجة تراكمات وتحولات وهجرات ومناف، فهو ولد في 16 نيسان - أبريل في العام 1912 من أسرة يهودية برجوازية كانت قد حصلت على الجنسية الإيطالية لتحظى بامتيازات خاصة بالأجانب. وكانت الأسرة تملك مصرفا كبيرا. درس جابيس في «كوليج دي سان باتيست» وهي مدرسة الفرير الفرنسية بباب اللوق ثم في مدرسة الإرسالية الفرنسية «الليسيه«.
اكتشف جابيس الشعر في الثالثة عشرة من عمره، لدى قراءته ألفرد دو موسيه وألفرد دو فينيي وبول فرلين، ثم بودلير ورامبو ومالارميه. وفي أواخر العشرينات، نشر بعض مقالاته ضد موسوليني ونزعته الفاشية في صحيفة «الحرية»، وفي بعض قصائده الرومانسية والرمزية قبل أن يسافر إلى فرنسا للإقامة والدراسة بكلية الآداب في باريس، التي أصدر فيها مجلة: «المختارات الشهرية» لتقديم وعرض النشاط الثقافي المصري المكتوب بالفرنسية. ومع أن نصوصه الأولى تعود الى فترة المراهقة تلك، لكن قدره ككاتب سيُحسم بين عامَي 1930 و1932، مع إصداره ثلاثة كتب: «أوهام عاطفية»، «أنا في انتظارك» و»أمي». منذ ذلك الحين، حاول توزيع وقته على الأصدقاء والقراءة والنشاطات الثقافية. أما لقاؤه بماكس جاكوب، فتم في باريس في العام 1935. بسرعة أصبح هذا الشاعر الفرنسي مرشده الروحي الذي «علّمني أن أكون ذاتي، أي مختلفاً». قرأ له بعض نصوصه الشعرية، فما كان من جاكوب إلا أن أرشده إلى متابعة نتاج شعراء الفرنسية المعاصرين ودفعه إلى مصادقة بول إيلوار وأندريه بروتون ورينه شار. خلال تلك الفترة، التقى جابيس، الناشر الفرنسي بيار سيغيرس الذي أصدر له ديوان «أناشيد لوجبة الغول»، واستقبل في القاهرة فيليب سوبو وهنري ميشو وروجيه كايوا، الذين ستربطهم به علاقات وثيقة وثابتة.
بعد تأميم قناة السويس 1956، غادر الشاعر وطنه مرغماً في حزيران - يونيو 1957 الى فرنسا، قال: «سافرت إلى فرنسا لأنها بلد اللغة التي أتقنها»، وأضاف في حديث صحافي: «تركت بلدي، وكان علي أن أبحث عن صحراء أخرى، غير أنني لم أجد صحرائي أبداً. الصحراء أملي الكبير في حياتي كلها. في القاهرة، كنت أسير مسافات طويلة في الصحراء، ولوقت لا أعرف له أي حد. أعلاي السماء زرقاء وأمامي الصحراء ممتدة. هناك في الصحراء يبدو الهدوء بلا نهاية، والصمت ملهماً، وقد ساعداني في الكتابة، وبعدما تركت مصر تقت طويلاً إلى تلك المشاعر والحالات» (مجلة «لا كسبرسوس» الإيطالية، 15 كانون الثاني - يناير 1985.
يعترف جابيس، الذي سمي «السوريالي الشرقي»، بغربته الفرنسية قائلاً: «انتمائي إلى بودلير ومالارميه والسورياليين في القاهرة، كان مرجعي أكثر من أي أمر آخر. في باريس ارتفعت مصر وصحراؤها وايقاع الحياة فيها فجأة كجدار بيني وبين هؤلاء الشعراء». وبعدما حصل على الجنسية الفرنسية في العام 1967 غاب ادمون جابيس مصرياً وعربياً ولم يذكر اسمه الا نادراً في سياق الكلام عن السورياليين المصريين وعن الشاعر جورج حنين الذي كان صديقه، وقد أسسا معاً مجلة «حصة الرمل» التي استقطبت أقلام المصريين الفرنكوفونيين وبعض الفرنسيين. يؤكد جون جاك لوتي، في كتاباته عن السوريالية المصرية: «من بين خبرات هذه الحركة الشابة الناهضة، يذكر اسم إدمون جابيس في أفضل مكانة، وهذا يوضح إلى من ضللتهم القصيدة، تناقض «مانفستو» الحلم الخالد تجاه اليقظة، وفي سعاداتها وخيباتها. في قصائده خفة شفاهية وألاعيب طفولية، فيما خلف ذلك رغبة هائلة للتحرر من كل القيود العروضية. هذا الفكر المتمرد يقترب إلى حد ما من فكر ماكس جاكوب الذي صاحبه قبلاً. نكتشف أن للشاعر رؤية أحدية للكينونة والأشياء، تهتم بالفنتازيا أكثر من الواقعية، وأكثر من ذلك، تعد سذاجة غير عادية لمواجهة العالم الجديد. قصارى القول: «استغل جابيس في قصائده أدنى حنايا الحياة الباطنية«.
ومثل مالارميه، اعتبر جابيس أن العالم لا بد من أن يفضي الى كتاب. لكن، بنظره، فإن على هذا الكتاب أولاً أن يسمح بجعل العالم مرئياً. والكتاب الأول الذي أصدره في منفاه الباريسي كان «أشيّد منزلي» (1959) وبدا عنوانه ذا دلالة بيّنة. ولم يتوان جابيس عن تسمية كتب كثيرة له أنه عنونها بـ «الكتاب». وبعض الكتب توزّعت في أجزاء تحت عنوان واحد. من بينها: كتاب الأسئلة، كتاب التشابهات، كتاب الهوامش، كتاب التخوم، كتاب الضيافة. وقد صرف قرابة الخمسة عشر عاماً لإنجاز «كتاب الاسئلة» بأجزائه السبعة.
يُعرف جابيس بأنه شاعر اللا انتماء والتيه والفراغ. وصفه النقاد بأنه «شاعر المنفى» أيضاً. ثمة مكانان حقيقيان يظهران دوماً في كتبه، هما الصحراء ومصر. وإذا كانت الصحراء قد اخذت حقها في النقد، لكن مصر مسقط رأس الشاعر، وشغفه المكاني لم تحتضنه. يقول الناقد ستيفن جيرون، إن إدمون جابيس قد أسعده الحظ بأن يحظى بقبول النقاد والجمهور في البلد الذي اتخذه وطناً له. وكان شعره موضوع تأمل نقدي من جانب عدد من المفكرين الأوسع نفوذاً في مجال الآداب والفلسفة المعاصرة، بمن فيهم جاك دريدا وموريس بلانشو وجان ستاروبينسكي. وفي حين أن شهرته راسخة في فرنسا، فإن جمهور شعر إدمون جابيس في مصر، محدود. على أن مصر هي التي أنجبته وقد عاش فيها السنوات الخمس والأربعين الأولى من حياته. صحيح أن إهماله يرجع إلى حد بعيد إلى الزوال الذي أخذ يحل في الخمسينيات بالجماعة الفرنكوفونية التي كانت مزدهرة في مصر في وقت من الأوقات. إلاَّ أنه حتى خلال أعوامه القاهرية، لم يحرز جابيس غير اعتراف طفيف من جانب أقرانه في مصر.
()عن «منشورات ضفاف»/ بيروت، والاختلاف/ الجزائر.
نوافذ