تحولات "الربيع العربي" ــ الوطنية والجرافيتي

alrumi.com
By -
0
بحبك يا بلادي!
  تحولات "الربيع العربي" ــ الوطنية والجرافيتي

 

جرافيتي ميدان التحرير، 2012


تكبير منذ أن بدأت الثورة و "الربيع العربي" يُثمر أروع أزهاره داخل المشهد الفني المصري. ويتبلور السخط المتزايد لجيل الشباب الأكثر تعليما من خلال فنون الشوارع، وفي إطار ما يُطلق عليه بـ ‘Artivismus’ أو الحراك الفني. ولقد وجدت التغييرات اللاحقة في مصر تجلياتها أيضا في فن الشوارع الذي قدم مقاربات فنية عديدة حول ما يجري.

التحرر الفكري
ينعكس في طيات هذه الظاهرة ذلك التحول الاجتماعي الجذري الذي لاحظه راصدو حركة "الربيع العربي" كانتصار للمظاهرات الشعبية، حتى من قبل تنحي مبارك. وتتمحور هذه الظاهرة حول مفهوم التحرر الفكري. إذ إن الثورة باعتبارها تحررا عقليا من القمع تجد صداها في إطار حرية فنية جديدة. وفيها يرتبط كل من الفن والحرية بعلاقة اعتماد متبادلة. فمن ناحية تعمل تلك الحرية المكتسبة جزئيا على تعزيز الفن، نظرا لتعدد إمكانيات التعبير الإبداعي على مستويات عدة؛ والعكس صحيح، فالفن يعزز أيضا من الحرية لأنه يعمل على تحفيز الوعي النقدي داخل المشاهد. ونظرا لكون فنون الشوارع تُجسَد في الفضاء العام، فإن أعداد مشاهديها تتزايد تبعا لذلك، مما يجعلها من البداية وسيلة احتجاج قوية وحتمية. أما المحتوى المقدم من خلال فن الشوارع والموضوعات التي يتطرق إليها، فهو على نفس القدر من الأهمية.

إذا ما استندنا إلى عالم الاجتماع اللبناني ساري حنفي، ينبغي علينا الافتراض بأن غالبية موضوعات هذا الشكل من أشكال الفنون تتسم بالطابع القومي. وينطلق ساري حنفي في هذا الصدد من بزوغ ذاتية سياسية جديدة في الشرق الأوسط: يرى مناهضو النظام أن الناشطين الشباب بمثابة منبع للتضامن والوحدة، فهم لا يسعون إلى أية مصالح خاصة، ولا يمثلون ما هو أقل أهمية من الأمة في حد ذاتها. مما أدى إلى أن تفقد الشعارات الدينية فاعليتها. ونظرا لتجسيد الدين لهوية محددة، ليست صالحة لتأسيس مجتمع وطني شامل وفقا لنظرية حنفي، فإن دوره في فنون الشوارع لا يمكن إلا أن يكون هامشيا. ويعد ذلك استنتاجا مفاجئا في ضوء ظاهرة التدين المتجلية في المجتمع المصري. ولكن، ما المقصود بمصطلح ( Artivismus الحراك الفني) بالتحديد؟
لعل أفضل وسيلة للإجابة على هذا التساؤل وشرح هذه الظاهرة، هو تناول أحد أمثلة الجرافيتي بالقاهرة والذي يُجسد شابا ذو ملامح بريئة يرتدي جينز وتي شيرت، ويقف في حيوية أمام جدار ممسكا بلوحة ألوان في يده اليسرى وريشة مُمرَّغة بالألوان في يده اليمنى، بينما يُطل عليه من خلف الجدار هيئة وحش آدمي خنثي في زي عسكري ينقض عليه ممسكا هراوة مسننة في يده. ويصاحب الرسم الأبيات التالية: "يا نظام خايف من فرشة وقلم، وظلمت وبتدوس ع اللي اتظلم، لو كنت ماشي في السليم ما كنت خفت م اللي اترسم. آخرك تحارب الحيطان، تتشطر ع الخطوط والألوان. لكن انت من جواك جبان، عمرك ما تبني اللي اتهدم".


تؤكد الأبيات أن "الحراكيين الفنيين" في مصر على بينة من قوتهم: فهم قادرون على الإضرار بالنظام وهذا هو السبب في مقاومته لهم، بقوة السلاح أيضا إذا لزم الأمر. ومثلها مثل جميع أشكال المقاومة السياسية، تُقمع كذلك المقاومة الفنية أو ما يُسمى بـ "الحراك الفني". والرائع في هذه الظاهرة الجديدة هو الاستحالة المطلقة للفصل بين الفنانين والناشطين، إذ يُشكل الاثنان معا علاقة تكافلية مثمرة: فقد وجد النشاط السياسي في الفن أداة فاعلة لتحقيق أهدافه، ووجد الفن في الوضع السياسي قضية خصبة مثيرة للمشاعر.


الانفجار الإبداعي
 ولدت ظاهرة "الحراك الفني" مع انطلاق ثورة 2011: فمنذ انطلاقها اصطبغت موجة الاحتجاجات الحاشدة التي شهدها ميدان التحرير على مدى 18 يوما بإبداع وأصالة فنية نجحت في تعبئة الجماهير. وبعد سقوط مبارك دخل هذا الاتجاه في مرحلة النضج، ولكنه لم يهدأ أبدا. وقد وصف مدير البرامج بمعهد غوته القاهرة التطورات التي تجتاح المشهد الفني بـ "الانفجار الإبداعي". ولعل أكثر الأنماط الفنية شعبية في مصر المعاصرة، أو وضوحا على الأقل، هو فن الجرافيتي. فمنذ قيام الثورة شهد هذا الشكل الفني طفرة حقيقية. ولا عجب في ذلك، نظرا لارتباط الجرافيتي منذ نشأته ارتباطا وثيقا بعقلية المقاومة والعصيان المدني. ويتناسب تماما مع بلاد لا تهدأ فيها الأوضاع السياسية والاقتصادية.


ولكن ما هي الرسالة التي يحملها هذا الشكل الفني في طياته؟ وما هي الرموز المستخدمة في هذا الصدد؟ ردا على هذا التساؤل تتبلور لدينا من الوهلة الأولى ثلاث فئات من الرموز: الرمزية الوطنية القومية والرمزية الفرعونية والمصرية القديمة والرمزية الدينية الإسلامية. ومن البداية يلاحظ المرء أن الرمزية الوطنية القومية تحتل الجزء الأكبر من مساحة هذا النمط الفني. وتتضمن هذه الفئة جميع المظاهر القومية الحديثة: بداية من العلم الوطني المصري الذي يتألف من ثلاثة شرائط أفقية باللون الأحمر والأبيض والأسود، ويتوسطه رمز العقاب الذهبي الذي يرجع إلى عهد صلاح الدين الأيوبي؛ إلى جانب النسر المصري والأسد والألوان الوطنية في حد ذاتها وبورتريهات لرموز وطنية كالمطربة المصرية أم كلثوم الذائعة الشهرة على مستوى العالم والمبجلة في العالم العربي أجمع، فضلا عن أشكال التعبير عن القومية وحب الوطن.


فنجد على سبيل المثال أن الكتاب التوثيقي الشامل "الجدران تهتف ــ جرافيتي الثورة المصرية" لشريف برعي يتضمن رسوم جرافيتي مشروحة يصل عددها إلى قرابة 470 رسم، بينما يتمحور أكثر من ثلاث أرباعها حول رموز قومية. وأكثرها شيوعا هو الاستخدام الحصري للألوان الوطنية، بغض النظر عن العنصر المجسد في حد ذاته. حيث أن اقتصار الألوان المستخدمة على الأحمر والأبيض والأسود يهدف إلى إضفاء الطابع القومي على جميع الموضوعات والعناصر التي يتم تجسيدها في الرسوم وتوثيقها كإحدى قضايا الأمة، أيا كان ما تعبِّر عنه.

على عكس الألوان الوطنية يغلب على رمز النسر الغموض واستخدامه في الجرافيتي لا يتسم دائما بالوضوح: يظهر النسر في أغلب الأحيان كرمز للأمة المصرية التي تسعى للتحرر، أي كرمز إيجابي يسعى من خلاله الفنان إلى تعريف نفسه شخصيا، مثله مثل النموذج المعهود والمتكرر بشكل دائم الذي يجسد طائرا يتحرر من قفصه أو قيوده. ولا يقل عنه إيجابية عنصر النسر الجاثم فوق شعار "مصر تستطيع الطيران". الأمر نفسه ينطبق على صورة قبضة اليد البشرية المقاتلة التي ينمو من جانبيها أجنحة نسر. ويعد مزيج النسر وقبضة اليد البشرية، مزيجا محببا في هذا الصدد. يظهر النسر دائما كرمز للقوة وقوة الإرادة والسمو. ولذا فإنه ليس من المستغرب أن يأتي استخدامه مرتبطا بفكرة "الشهداء" ممن ضحوا بحياتهم في الثورة ويقترن تبجيلهم بالقوة والسمو.

وبهذه الطريقة يتم الربط بين الشهداء والنسر من ناحية، وبين النسر والأمة وكفاحها التحرري من ناحية أخرى. وفي إحدى الصور نجد النسر محاطا بكلمات تحثه على توخي الحذر من أي أخطار داهمة: "إذا رأيت أنياب الليث بارزة، فلا تظن الليث يبتسم". وفي هذه الحالة يرمز النسر إلى الأمة والأسد إلى النظام. وعلى الرغم من ظهور النسر في أغلب الأحيان كرمز إيجابي، إلا أنه في عدد قليل من الجرافيتي يرمز أيضا للدولة والنظام اللذان تستهدفهما المقاومة. ومن بين تلك الأمثلة القليلة، رسم جرافيتي يجسد نسرا مقلوبا أسفل الدعوة لـ "إسقاط النظام!". وهنا يرمز سقوط النسر إلى سقوط النظام المنشود.

العلم المصري

لإضفاء الطابع القومي على الجرافيتي وتمييزها كإحدى قضايا الأمة، يُشكل العلم المصري خلفية العديد من رسوم الجرافيتي كما في سلسلة بورتريهات "عيون الحرية" لعمار أبو بكر والتي تجسد العديد من الثوريين معصوبي الأعين ممن فقدوا أبصارهم خلال المظاهرات. يظهرون جميعا جنبا إلى جنب أمام خلفية عريضة لعلم مصر. وكذلك على خلفية للعلم الوطني تم تجسيد أسد معصوب العين بجوار عبارة "حتى لو خسر عينيه الاتنين برضه اسمه أسد: عاشت أسود مصر!". والأسد كرمز مصري مستقل بذاته يرتبط بالقوة والذكاء والسمو. أي أن النموذج الماثل أمامنا يشير إلى أن الأسد الذي يرمز في هذه الحالة إلى الأمة المصرية، لا يفقد سمات التفوق المرتبطة به ويظل غير قابل للقهر على الرغم من الانتكاسات المريرة التي مر بها.


وإن تلك الصورة الذاتية المصرية تتناسب مع الطيف الهائل من الشعارات التي توقظ مشاعر الفخر والاعتزاز الوطني كما هو الحال مع عبارات "بحبك يا بلادي" و"لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا" و"مصري وأفتخر" و"ارفع رأسك فوق أنت مصري". علاوة على ذلك نجد أن وجه أم كلثوم له نفس القدرة على إثارة مثل هذه المشاعر. لعل أبرز مثال على ذلك هو جرافيتي أم كلثوم الذي صاحبه الفنان كايزر بعبارة "الفن مش حرام". يعد استخدام كلمة "حرام" هنا ملفتا للنظر، فهذا العنصر الديني يشير في هذا الصدد إلى تقييد الفن باللجوء إلى الحجج الدينية. وفي الوقت نفسه يوضح للمشاهد أن حرية الفن ضرورية لارتقاء مثل هذه الرموز التي يفتخر بها كل مصري، كالفنانة أم كلثوم.

ونرى من خلال الأمثلة أن الفنانين المصريين يلجأون إلى استخدام النزعات القومية كرموز إيجابية في أغلب الأحيان وذلك تعزيز وتأكيد رسالتهم الخاصة. وفي طيات هذا النوع من أنواع الدمج للرموز القومية من خلال ما يُسمى بـ 'Artivismus' أو الحراك الفني يقبع أيضا الاتهام الضمني أن الدولة قد اتخذت لنفسها مقرا خارج نطاق الأمة. ومن الواضح إذن أن ثمة اندماج راسخ في مصر بين المواطنين وأمتهم، وليس بين المواطنين والدولة أو سلطة الدولة. وأن صلة الأمة بالدولة، أي الدولة القومية المصرية، تبدو هشة للغاية. وبالاستناد إلى رسوم الجرافيتي يتضح أنه في نفس الوقت الذي تسعى فيه الرموز القومية إلى إيقاظ التماسك والتلاحم الداخلي للمجتمع، فإنها تضعه في موقف منافسة مع الخارج المزمع، أي مع النظام. وبالتالي تتحول الهوية المصرية الجماعية وبذلك الأمة، إلى أساس للكفاح ضد النظام الظالم. وهذا التأكيد على الوحدة والتضامن يتجلى أيضا من خلال إحدى رسوم الجرافيتي، التي يُستخدم فيها حرف الميم في اللغة العربية، كأول حرف في كلمات: "مسلم" و"مسيحي" و"مواطن" و"مصري" وكعنصر رابط بينها.

الرمزية الفرعونية
 

جرافيتي نوفمبر 2012  

تكبير تعد ظاهرة التلاعب بالعناصر من الأمور المحببة في فن الشوارع المصري، وتعود أصولها إلى الأعراس المصرية القديمة وتقع بالتالي ضمن فئة الرمزية الفرعونية والمصرية القديمة. وإن هذا الأسلوب في العودة إلى العصور القديمة الساحرة والاستعانة بعناصرها، يعد ظاهرة نموذجية لتعزيز الشعور القومي. فنجد أن رموز تلك الحقبة تساهم بشكل رسمي في بناء الهويات الجماعية، لاسيما في بلد كمصر، يتطلع إلى حضارة عريقة خلَّفت آثارها على التاريخ البشري. وفي هذا الصدد يعد الفنان علاء عوض أبرز الفنانين الذين اعتمدوا في أعمالهم على الرمزية الفرعونية. إذ اتجه كرسام ناجح يتمتع بمكانة راسخة في صالات العرض بالقاهرة، إلى تلبية دعوة الثورة في عام 2011 ونزل إلى الشوارع ليرسم لوحاته منذ ذلك الحين على جدران المنازل بدلا من اللوحات الزيتية. وأكثر أعمال هذا الفنان شهرة هو مشهد النائحات الجنائزي في شارع محمد محمود. حيث نرى من خلال اللوحة فتيات نائحات على الطراز المصري القديم، يمدن أيديهن نحو تابوت حزنا على فقدان أحد الأقارب، بينما تؤخذ أرواح الموتى من التابوت وتُسلم إلى إلهة السماء المحلِّقة.


ويرمز المشهد إلى الحداد على أرواح الضحايا الشباب لمذبحة إستاد كرة القدم في بورسعيد في أوائل عام 2012 ــ مأساة تُفسر في الخطاب السياسي المصري على أنها من صنيع ثورة النظام القديم المضادة. إن هذه اللوحة لم تستعن فقط بالأسلوب المصري القديم في الرسم بل جسدت أيضا بعض عناصر مشاهد الحداد الفرعونية التي نعهدها حتى الآن في صعيد مصر. أي أن علاء عوض استعان بشكل عام برموز مصرية قديمة لتجسيد الرفعة والحاكمة، من أجل التشكيك بأسلوب بارع في مصداقية السياسة التي يتبعها النظام.

وهذا يتجلى بشكل خاص من خلال لوحته "الوصيفات" والتي رسمها تفاعلا مع جدارية للفنان عمار أبو بكر، الذي يصور المجلس العسكري كثعبان يزيد طوله عن المتر، له ثلاثة رؤوس ضخمة، يجسد كل منها أحد أعضاء المجلس العسكري. إن تصوير المجلس العسكري كثعبان ضخم مشهد لا يحتاج إلى تفسير. أما إضافة عوض إلى تلك الجدارية فتعد مثيرة للاهتمام: حيث رسم سبع فتيات فرعونيات بجوار رؤوس الثعابين الثلاثة، ينحنين بمنتهى الود وحسن الضيافة نحو ذلك الوحش. وإن تعبيراتهم إيماءاتهم المليئة بالترحيب، ترمز إلى حكمة النساء المصريات على مدى قرون وتجسد النقيض الآخر لزيف وخداع الثعابين.

أي أن "التفوق من خلال الحكمة" هي الرسالة التي يسعى هذا الجرافيتي إلى التعبير عنها. علاوة على أن استخدام الكتابات الهيروغليفية على يسار النساء يشدد على المرجعية المصرية القديمة، وهي كذلك رموز نموذجية في الجرافيتي المصري المعاصر مستمدة من الأعراس الفرعونية. والإشارة إلى التاريخ الفرعوني لمصر الذي ولَّى منذ زمن طويل، تهدف في المقام الأول إلى إرساء مشاعر الاعتزاز والفخر الوطني من خلال التأمل والتفكر في الماضي. ويؤكد على ذلك، جرافيتي آخر لقناع يجمع بين طراز أقنعة الموتى في مصر القديمة وأقنعة الفينديتا الحديثة. مصحوبا بشعار مقفي: "ثورة الأحفاد هترجَّع الأمجاد". أي أن الثورة تعتبر في هذه الحالة بمثابة إمكانية للرجوع بالبلاد إلى سابق عهدها في العصر الفرعوني بما فيه من قوة. وفي ضوء إعادة اكتساب القوة نجد أن المواطنين يتوجهون بطبيعة الحال إلى تلك المراحل في ماضيهم وتاريخهم، التي تُثير مشاعر الفخر لديهم.

ومن الرموز المحبب استخدامها أيضا في هذا الصدد بعض العبارات الشهيرة مثل "مصر أم الدنيا" شأنها في ذلك شأن عنصر الأهرامات. إلا أن استخدام الرموز المصرية القديمة ينطوي كذلك على بعض أوجه التناقض: حيث نرى في إحدى رسومات الاستنسيل الشائعة، وجه الرئيس مرسي داخل قناع مصري قديم للملك توت عنخ آمون أعلى وصف "باطل". على الرغم بالفخر بالإنجازات الحضارية للمصريين القدماء، إلا أن مصطلح "فرعون" قد تحول في التاريخ الحديث إلى سبة باعتباره صفة للديكتاتوريين، ويرجع ذلك إلى توثيق حكام الفراعنة في كتب التاريخ كطغاة مستبدين. وإن نموذج الجرافيتي المذكور أعلاه يتطابق تماما مع تلك النظرية: إذ يساوي بين مرسي وتوت عنخ آمون ويتهم مرسي بالاستبداد.
وعلى عكس ذلك نجد أن العنصر المصري القديم في مثال آخر محمل بالدلالات الإيجابية، حيث يظهر النموذج الشهير لوجه نفرتيتي الجميل مختفيا بشكل قاتم خلف قناع غاز، وهو يرمز في هذه الحالة إلى الأمة المصرية. إذ يبدو أنها أجبرت على ارتداء قناع الغاز المُشوِه لتضمن بقائها على قيد الحياة. يرمز التصميم إلى كون جمال (وأيضا أنوثة) مصر مهددة من قبل العنف القمعي للسلطات. ومن خلال جميع هذه الأمثلة يتجلَّى بوضوح السبب في استخدام الرموز المصرية القديمة. الأمر يتمحور حول توجيه النقد للنظام من خلال تعزيز مشاعر الفخر الوطني. وتصف النصوص المصاحبة لتلك المشاهد مدى تطابق هوية المواطنين مع بلادهم وبالتالي وحدة جميع المصريين تحت عباءة الأمة العظيمة ذات التاريخ المجيد.

الوحدة من خلال الثورة

كذلك تتمحور الجرافيتي ذات الرموز الدينية حول تعزيز مفهوم الوحدة داخل الأمة. ومن أكثر النماذج المحببة في هذا الصدد في فن الشوارع المصري، تلك التي تجسد الإخوَّة بين المسلمين والأقباط. ويتمثل الهدف منها في تجاوز الصراع الجاري بين الطوائف. ففي كثير من الأحيان يتم تصوير الصليب وكأنه يحتضن الهلال وأحيانا بالاستعانة بعنصر مساعد كرمز القلب أو وصف "إخوان". وفي إحدى رسوم الجرافيتي التي تتميز بسحر خاص، تكاد تتلامس يدان تمتدان نحو بعضهما البعض، كما في لوحة مايكل أنجلو الشهيرة "خلق آدم"، بينما يغطي الصورة عبارة 'Take Care' (احذروا(، يرمز فيها حرف 'T' إلى الصليب وحرف 'C' إلى الهلال. ويلاحظ في هذه اللوحة وشم الصليب المرسوم على الجهة الداخلية لرسغ اليد (كرمز للعقيدة المسيحية) بينما تلتف اليد الأخرى بالسبحة (هنا: رمز للعقيدة الإسلامية(. فيما يوحي التصميم بالتقارب والمصالحة.


ويتضح من خلال الأمثلة أنه تم الاستعانة بالرمزية الدينية من أجل الشؤون الثورية على نطاق واسع. إلا أنه تجدر الإشارة في هذا الصدد أن الهدف من العمل الفني في حد ذاته يبقى سياسيا بحتا. (كانت هناك محاولات لاستغلال صحوة الجرافيتي لأغراض الدعاية الدينية من قبل بعض المجموعات السلفية، وذلك من خلال بعض التصميمات الإسلامية الفلكلورية، إلا أنها باءت بالفشل. إذ افتقرت إلى عنصري الفكاهة والأصالة النموذجيين في فن الجرافيتي).

أي أن الرموز الدينية تُستخدم في فن الجرافيتي لتسليط الضوء على بعض الرسائل السياسية، كما هو الحال مع البراق، وهو عبارة عن كائن أسطوري حمل الرسول محمد إلى السماء حسب مصادر التراث الإسلامي. وباعتباره رمزا إسلاميا للتحرر والحرية، يظهر هذا العنصر في العديد من رسوم الجرافيتي الخاصة بالفنانين علاء عوض وعمار أبو بكر. أي أن هذا الرمز الأسطوري ذو الصلة بالتاريخ الديني، يظهر في الفن السياسي كرمز للحرية في الثورة. وبذلك يكون الجرافيتي قد نجح في مزج الثورة ببراعة في الشؤون الدينية. ويتجلى هذا بوضوح أكبر من خلال حقيقة إطلاق لفظ "الشهيد" على من فقدوا حياتهم جرَّاء عنف الشرطة من المتظاهرين، وهو مصطلح يصطبغ ضمنيا بطابع ديني إسلامي، وإن لم يكن له في الأصل تعريف ديني بحت.

جميع بورتريهات الشهداء المرسومة باستخدام الاستنسيل يصاحبها لفظ "شهيد" واسم المتوفى. ويلاحظ وجود أجنحة ملائكة في معظم لوحات "الشهداء" وهو ما ينطوي أيضا على رمزية دينية. حتى أنه يمكننا القول أن شارع محمد محمود بوسط مدينة القاهرة والذي يحتوي على عدد كبير من بورتريهات الشهداء، أصبح وكأنه موقعا لإجلالهم وتقديرهم. علاوة على ذلك، يتجلى أيضا استخدام القرآن فيما يتعلق بالرمزية الدينية في الجرافيتي. إذ تُكتب تلك الآيات القرآنية، التي يدعم محتواها قضية الثورة، بأسلوب الرش على الجدران. و من أكثر الآيات القرآنية استخداما في هذا الصدد هو في الواقع جزء من آية 24 من سورة إبراهيم: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ".

حيث أن الاستعانة بهذه الآية يُفهم كتهديد غير مباشر للطبقة الحاكمة، فيتم وصفهم بـ "الظالمين'، ويُقصد بـ "عما يعمل"، أي ما يمارسونه من عنف ضد المتظاهرين. فلن يدع الله أعمالهم تمر دون عقاب. بل إنه في إحدى رسوم الجرافيتي الضخمة في المنطقة نفسها، يتم صياغة التهديد بشكل صريح ضد الحكام. فمن خلال الاستشهاد بالآيات 67-68 من سورة الأحزاب يتم دعوتهم لنيل العقاب الإلهي: "وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا،رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنا كَبِيرا."
 
استخدام جديد لفن الخط

إلى جانب الاستشهاد بآيات قرآنية، يعد أيضا استخدام الكتـابات الخطـية، كما نعهدها في القـرآن، (بزخارف دقيقة والتشكيل وعناصر زخرفية أخرى) أحد أبرز معالم ظاهرة "الحراك الفني". فنجد أن بعض العبارات، كشعار "كلنا خالد سعيد" المفعم بالثورية، تظهر ككتابات خطية تذكرنا بالخط القرآني. مما يخلق انطباعا عفويا كأنما استمدت تلك العبارات من القرآن مباشرة. هذا ما ينطبق أيضا على مقولة "لا تصالح" الموجهة إلى الحكام وكذلك على جرافيتي "ميدان الشهداء" الملون الموجود بالقرب من ميدان التحرير. وبهذه الطريقة تتحور الشعارات العلمانية لتتخذ مظهرا دينيا.

جرافيتي ميدان التحرير، 2012  


تكبير وفيما يتعلق باستخدام الرمزية الدينية بشكل عام، نجد أن الأسلوب الذي اتبعه "الحراكيون الفنيون" في معالجة الموضوعات يتسم بالذكاء: فلم يتم الزج بالثورة في كفاح عقائدي، فهذا من شأنه أن يتناقض مع الأهداف العلمانية ــ السياسية للمتظاهرين. بل إن استخدام وصف "الشهداء" لضحايا الثورة وكذا الآيات والكتابات القرآنية يؤكد على المعنى المقدس لتلك الثورة العلمانية. وبالتالي يصبح الإله معاونا للثوار وتكون قضيتهم العلمانية قد اكتسبت الشرعية الدينية. أي أنه وفقا للفن تكون الثورة قد استطاعت أن تجذب الأمة وكذلك الدين إلى صفها.

وفي النهاية يمكننا القول أن الفن في مصر (ما بعد) الثورة قد ارتقى ليصبح وسيلة شعبية للتعبير والاحتجاج. وبإلقاء نظرة على فن الجرافيتي المصري تتأكد لنا الأهمية الجوهرية والمحورية للرسائل القومية والمجتمعية. مثلها مثل ظاهرة "الوطنية الجديدة" التي يصفها عالم الاجتماع محمد بامية، ويُقصد بها ذلك الشعور الوطني الذي لا يستند إلى زعيم أو قائد، ويتبلور من خلال شعور بالتجانس الجماعي. إن الشعور بالوطنية وبالانتماء إلى المجتمع هي النماذج الرئيسية التي يتمحور حولها فن الثقافة الفرعية في مصر، حيث يقف بشغف في مواجهة الخطر الوشيك الذي يهدد بالتفكك الداخلي في مصر.

مثلما يرتبط الصراع السياسي حول مستقبل البلاد في مصر المعاصرة بالجدل حول الأسس المشتركة في الأمة. وكأنما يرغب المواطنون المصريون في ضوء عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي إلى التأكيد على صلابة هويتهم الجماعية على الأقل، لوضعها في مواجهة الانهيار المحتمل للبلاد. وإزاء المعارك المحتدمة في الوقت الراهن بين أنصار الإخوان المسلمين ومناهضيهم حول مدى شرعية حكومة مرسي، يعد هذا الهدف ذا أهمية قصوى في جميع الأحوال. وعلى خلاف المتوقع، نلاحظ أن الدين أو الرمزية الدينية تلعب دورا في هذا الصدد، وإن كان ثانويا مقارنة بدور العناصر والرموز الأخرى. إذ يُستخدم الدين في بعض الأحيان لدعم الرسائل القومية والوطنية.
أو بعبارة أخرى: تُستخدم الرموز الدينية، حين يرغب الفنان في التعبير بأن الدين ليس من شأنه أن يتناقض مع وحدة الشعب. وعلى الرغم من ذلك رأينا من خلال الأمثلة، أن مجرد النقد البحت لنماذج الحكم، يُعبَّر عنه أحيانا باستخدام رموز دينية. وهذا يشير إلى استمرار تعاظم أهمية الدين الإسلامي بالنسبة هوية المصرية. ففي تاريخ مصر الحديث، لم يكن بإمكان أي حاكم، سواء عبد الناصر أو السادات أو مبارك، التخلي عن تطعيم سياساته الخاصة بالمرجعيات الإسلامية، حتى وإن كان من الناحية البلاغية على الأقل. وربما ينطبق الأمر نفسه على شباب الثورة والرسائل التي يوجهونها من خلال فن الجرافيتي.

هانا روبيلين: درست العلوم السياسية والإسلامية والقانون العام في مونستر والقاهرة وجنيف. وهي تعمل الآن كباحثة مساعدة في قسم علم اللغات الشرقية والدراسات الإسلامية بجامعة إرلانغن.


ترجمة: هبة شلبي
 حقوق النشر: معهد غوته فكر وفن
 تشرين الثاني / نوفمبر 2013

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)