عن رواية "طيور الرغبة"... بقلم فرح الدهني

alrumi.com
By -
0

 

مقدمة:

نعم! إنّ للرغبة طيوراً تحوم في فضاءات الأماكن، وإن احترقت أجنحتها بألسنة نيران الحرب ... وهي ليست بوماً تبشّرنا بسبع سنواتٍ خيراً أو تنبئنا بالقحط، ولا هي صقور تتربّص لمجتمعنا بعينٍ لئيمة... إنّها عصافير دوريّة هاجرت ذات صقيعٍ روحيٍّ من موطنها "عرش إيل" إلى "بيروت"، طمعاً بما يطفئ لهيب رغباتها الباحثة عن الاستقرار في عوالم التشتت والضياع، والأمان في أرض الخيبات والحنين ...

وقد أطلق الكاتب محمد الحجيري تلك الطيور من أقفاصها في رحلة استذكار لصور بيروت بشوارعها وأحيائها وذاكرتها، عاشت حرباً دامية خلّفت فجوات في الكيان اللبناني إثر التهجير والفرز الديني والمناطقي، لا تقل عمقاً عن تلك التي أحدثتها في بناها التحتية والعمرانية، مشكّلةً بدورها الصورة الحية لفظائع تلك المرحلة وسوداويتها.

والحقّ، انّي لم أتوقّف عند رواية "طيور الرغبة" لأنبش قبر الحرب، لأنها لم تُدفن أصلاً. فشبحها لا ينفكّ يطارد ذاكرتنا باستمرار مع كل انتكاسة أو أزمة، هذا فضلاً عن الكتب المصفّقة في المكتبات، وهي تنضح بما فيها من رزايا الأحداث اللبنانية وهرطقاتها... بل تناولتها لأسلّط الضوء على زُبدة الرواية ربطاً بسيكولوجية الشخصيات والراوي . وهي دراسة، لا تهدف إلى النقد، بقدر ما هي محاولة متواضعة لتسجيل رأي، كتعليقٍ على الورقة الأخيرة من رواية تستحق الوقوف عندها .
 
********** 

الرواية في أسطر:

... دون أن يخبر والدته عزمه على الرحيل، استيقظ الكاتب ذات صباح متنبهاً إلى كونه لم يغادر "عرش إيل" يوماً، وهي بلدته التي تحمل اسم أعظم الآلهة "إيل" حسب الميثولوجيا الكنعانية القديمة... لبس الفتى المغمور ثيابه وحذاءه الصيني ورحل، بحثاً عن معنى الحياة، كرجل أعمى يفتّش عن طريقه بعصاه.

ومن هنا تبدأ رحلتنا مع الكاتب في قطار الحكايا السائر على شفير خطين متوازيين في الرواية: رغباته وعشقه للمطالعة، خلال فترة كان لبنان يرزح تحت نير الأحزاب والميليشيات، والتمزق الداخلي.                                                             

وإن كانت الرواية تستمد حياتها من الحرب وتداعياتها، إلاّ انّها لم تعش في جلبابها، بل كان السرد سائحاً في أروقة المدينة التائهة، ومرآة لأحوال أناسها "عليك أن تسمع الحكايات أو الأفكار المرميّة بين القمامة ووقعها عليك لن يكون أقل من زئير أسد".

... وأولى محطات هذا القطار كانت ثكنة الشيوعيين في بلدة الرميلة الساحلية. وفيها اختبر الشيوعي الصغير دوامةً من المشاعر المتضاربة: الوحشة والقلق، التردد في العودة إلى الأرض الأم، الانصياع لوحش الرغبة مع طيف "ربى الطقش"، الضجر، وبحثه الدائم عن الكتب ككنز مفقود تحت التراب .

وعطفاً على حديثه عن شهيد الحزب "مخايل"، تراءت لنا نظرته إلى الشهادة، بحيث يعتبرها حماقة كبرى، ونوعاً من الإدانة البشرية، وإشارة إلى عدم توفر السلام في لبنان،لا بل الجدران أكثر حرية من الإنسان المحكوم عليه بالفناء، مقتبساً قول "بورخيس": "الخلود عينه ليس بشيء، لأن الموجودات كلها باستثناء الإنسان خالدة بسبب جهلها بالموت".

وعند انتهاء الحرب، وتهاوي اليسار اللبناني، اختتم المحطة الأولى بشاهد يختصر موقفه من تلك المرحلة: "الياس أبو عتمة بقي يسارياً لكنه كان يشتم الشيوعية، لأنهم بلا اخلاق، وفي لحظة تخلّوا عن الشهداء وأسرهم،

كأنهم ماتوا في حوادث سير".

ثمّ استأنف قطار الحكايات مشواره إلى محطته الثانية في "سقي الحدث"، حيث قضى الكاتب سنوات في شقة والده المستأجرة من "طوني حداد" بعد نهاية العام الدراسي 1991.


وهناك لم ينسجم مع المكان، بل بغِضَ كلَّ شيء، وكأنه لم يمضِ يومًاً واحداً فيه. وبين امتعاضه من احتكار الأرض لوالده أربعة عقود بعيداً عن "عرش إيل" وصوت أزيز الرصاص، يحدّثنا الفتى المراهق عن نزقه الصبياني ورغبته في التسكّع الدائم، قاضياً أوقاته في تأمُّل سيارات المارين أو السير في شوارع المنطقة وبين أبنيتها، أو "البصبصة" على الجارات (زينة، سوسو، وريتا...).

... ثمّ يشرّع الراوي أبواب العاصمة "بيروت"، ويسبر أغوار عالم جديد وواسع، بعد مغادرته "سقي الحدث"، واطئاً خطواته الاولى في شارع "جبل العرب"، حيث عمل حارساً في مبنى الإذاعة،وتحمل صلافة العابرين وعهرهم اليومي، متخطياً رتابة الكهف الذي قطن فيه بالقراءة التي وجد لها موردًا في إحدى مستودعات دور النشر "ماذا تعني الحياة من دون سماء ونجوم وشمس وأشجار؟"، "ليس من الضروري أن يفقد المرء بصره حتى يصبح مجرد أعمى، فالجالس في المستودع كالنائم في القبر".

ومن محيط الإذاعة وأروقتها يروي لنا الكاتب -على حد تعبيره- عشرات الحماقات التي كانت تحصل هناك: من تصرّفات "وسيم يرق" التّائق إلى زمن التشبيح باسم القائد، إلى "ياسر أبو عمار" الهائم بحلم العزف على الغيتار في بيروت، بيد أنّ رصاصة واحدة طائشة في رأسه كانت كافية لقتل حلمه، إلى "كميل ضاهر" الذي روى له حكايا الاعتقال في سجن الخيام وهو طريح المستشفى، وأُرديَ بصدمةٍ من سيارة خلال حرب "عناقيد الغضب"، إلى رانيا أبو صلاح التي أضحت الشغل الشاغل للراوي كل ليلة، مطلقاً العنان لحركة مقلتيه وهو يراقبها في غرفة نومها من الطابق الحادي عشر، إلى مسعود حنا ذي السمعة السيئة مع النساء ومنهنّ نهى علوش ابنة الشهيد، وزيفه السلوكي للقفز من منصب حزبي إلى آخر ولو على جثث الآخرين.

..ومن سطح مبنى الإذاعة يعود الكاتب ليطل علينا من جديد، في فصل جديد، من مبنى"لا كازا" في شارع "الحمرا".

وفي هذا الأخير يقول: "شارع الحمرا يبني نساء من خيال، كأنهن هاربات من أفلام هوليوودية"، "الحمرا أشبه بمسرح دائم.ضمّت كل شيء: اللصوص والقوادين، الأغنياء والفقراء،المومسات والمحجبات،الهمجية والرقة". وعلى متن هذه العبارات يجول بنا الكاتب في أروقة المدينة العصيّة على الثّبات،  بادئاً بالمقاهي التي رضخت تحت نير الإقفال لأسباب غامضة مثل: "كافيه دو باري"، "مودكا"، "ويمبي" وغيرها...

ثمّ يتابع سرده قُدماً في دهاليز المباغي والمواخير الحقيرة التي ارتادها ليفرج عن كبته، وربما ليهرب من تيهه في القاع...إلاّ أنّه خلُص من تجاربه (مردفاً كلامه باقتباسات "لكافكا")، بأنّ الجنس مخزٍ، وأنه رديف القرف والوساخة والرعب.


"-بتتعاطى الحشيش ؟ لا! أنا عايش برواق، البعض بظن إني بتعاطى.. كل اللي بعرفهم بالشارع بيتعاطو ! (تضحك)...." هي "سارة حوماني"، الفتاة المستهترة التي تعرّفتْ على الراوي في مقهى، ولم يكن قد ارتبط بفتيات من قبل "وقعت في غرامي لأسبوع واحد فحسب... كانت تلتقيني كما تقرأ الروايات، وكنت ألتقيها وأحسب أنها ستكون فصلا من رواية".

لكنّ رغبتها القوية وكبت الراوي المزمن جعلاه يعرّفها على مكان سكنه المتواضع، في حين كان يخفي العنوان عن رفاقه. "الرغبة تدفع الكبرياء إلى الاستسلام".

... ثم ساقه القدر والجيب الفارغ والتشرد اليومي إلى العمل في الصحافة الفنية، في جريدة جديدة صدرت في بيروت، بعد سنوات من التسول الكتابي السياسي هنا وهناك عن السيادة اللبنانية والاحتلال السوري.

وفي معرض حديثه عن فنانة مغرورة كان قد أجرى مقابلة معها، يستذكر قصة "الأنف" لغوغول. إذ يستيقظ العقيد كوفاليف ليكتشف أن أنفه قد تلاشى أثناء الليل، فراح يتجول في المدينة مرتديًا بِذلة رسمية، ينحني للنبلاء ويصلي في الكنيسة إلخ... رامياً من خلالها الخلوص إلى أنّ الأنف يسبق الإنسان دائماً في الظهور على مسرح الأحداث.

...والرواية التي بدأت برحلة في المكان تتحول إلى رحلة في الزمان، بعد انتقال الكاتب إلى "عين الرمانة"، خلال فترة يعيش فيها لبنان تداعيات اغتيال رفيق الحريري "أنا في عين الرمانة، هنا البوسطة".

المكان وحده كان كفيلاً ليستذكر فيه الراوي روايات عن "البوسطة"، وخاصة تلك التي أخبرته بها والدته، أي عن زيارتها الأولى إلى بيروت برفقته وهو رضيع في عمر السنة لرؤية خالته في الميتم، وحكايا أخرى لشخصيات ارتبطت بشكل مباشر أو غير مباشر بالبوسطة مثل: أبو رضا، (أ.ز) ، و علي مطر.

...أما "زليخة" فهي تلك الصبية التي زارته في مكتب الجريدة بحثاً عن عمل لها، فخفق قلبه لها ولم يحبها إلى الأبد، لأنه أيقن، بعد استفاقته من سكرة الرغبة في الحب، بأنها مجرد وهم عاشه بقلق كما القلق الذي عاشه خلال حرب تموز 2006 .

ولشجب ملله وتململه من تداعيات السياسة التي أضحت على حد قوله- تُدار من تحت الأرض، كان يقتل الوقت بارتياد المقاهي حينًا، وقراءة الكتب، مثال: "المحاكمة" ل "كافكا" وشذرات ل "سيوران"، مصحوبة بمعاقرة الخمرة أو البصبصة على النساء، ليطفئ بعضاً من نيران رغباته، رافداً سرده بقصص تروي نفسها عن "سعاد" و"زليخة"، "ابراهيم طراف" ، "ستيفاني نصار"،"عادل رضا"، وغيرهم....


...وفي محطّة الفصل الأخير، نشعر بجمرةٍ انطفأت تحت رمادها.

شارع الحمرا أضحى صورة باهتة في مخيلته، فهرب في نهاية المطاف من بطء الحياة في بيروت، لينتقل إلى مكان آخر يسوده الهدوء والسكينة.

وكان للموت حضور جليّ في الأوراق الأخيرة من الكتاب، عند وفاة جده ومن بعده والده، وكشْف تأثير موتيْهما على المحيطين...

وانتهت الرواية هنا...حين مات والد الكاتب...وربما...لهذا السبب توقف الحجيري عن الكتابة.




قراءة في الرواية:

أن تفتح أنامُك دفّتي كتاب "طيور الرغبة " ليكون جليسك، فأنت إذاً تُشرّع باب ذاكرةٍ على مصراعيه، لتدخل في دهاليز مدينة اعتدتَ رؤيتها من الأعلى، حيث تتجلّى لك الرومنطيقية في صورة عاصمة ليلها مرصّع بالنجوم، فتصبح قارئاً ومشاهداً في آن .

وبحسبي أن أعرض عليكم، بعد قراءتي للرواية، النقاط التي توقفتُ عندها، متأمّلةً أن أكون قد أصبت في تحليلي لفحواها، وكشْف ما تخفيه بين اسطرها :

الكتابة شكل من أشكال الموت.
 




في مستهل الرواية، يلمس القارئ أن الكاتب لم يرتدِ زيّ البطل الأسطوريّ، أو الضحية التي جار عليها الزمان، وإنّما ترك عناء السرد لذاكرته، وكأنّه تقصّد التّخفي في كواليس الأحداث، وجعْل القارئ أمام مشاهد مرئيّة لا راوي لها "تركت ذاكرتي تروي نفسها من دون عناء السرد الروائي ومشقّته، بل تركت الأحداث تروي نفسها"، ولكن مَن ذا الذي يقود مجريات الرواية ما لم يكن هناك بطل؟!

في قراءة أفقيّة سريعة لعناوين الفصول في الرواية، قبل التوغل في دغلها، نلاحظ أن الحجيري قد منح دور البطولة للأماكن لا للأشخاص الذين مرّوا في حياته "سأترك هامش البطولة إلى الأماكن"، بحيث تخال السرد الروائيّ قماشةً دأبَ الكاتب على خياطتها من قصاصات متباينة الشكل واللون مُنتَزعة من أحداث ارتبطت بأمكنة معيّنة كوّنتْ نظرتنا إليها، فأتت الرواية مقسّمة الى مجموعة أسماء لأماكن :"الرميلة"، "سقي الحدث"، شارع "جبل العرب"، وشارع "الحمرا"، و"عين الرمانة"، و"عرش ايل".

والكاتب لم يعمد إلى نقل سيرته الحياتية من مسوّدة ذاكرته إلى الورقة البيضاء، كما يفعل معظم الروائيين في باكورة نتاجاتهم، معتبراً أنّ في البوح تعذيباً للذات " في البوح شيء من المازوشية وجلد للذات، والبوح فيه شيء من رائحة الغفرانية العفنة"، " الاعتراف كذب عصري"... وهو مبدأ ذكيّ من قبله للتّملّص من الكتابة عن حياته الشخصية.

إلاّ أنّ توصيف الكاتب للسيرة الذاتية يذكّرنا تلقائياً بمقولة لـ"فرانتس كافكا"، يصوّر فيها الكتابة بأنّها استباحةً للألم: "الكتابة انفتاح جرحٍ ما"...

ويذكّرنا أيضاً بمقدّمة رواية "الحارس في حقل الشوفان" للروائي "سالينجر"، حيث يطلق بطلها "كولفيلد" عباراته المعهودة: "أغلب الظن أنّ أوّل ما ترغب في معرفته هو المكان الذي ولدت فيه، وكيف أمضيت طفولتي التّعسة...وكلّ هذا اللّغو الذي تعوّدناه، ولكنني لا أشعر برغبة في فتح هذه الموضوعات فهي تضجرني، كما أنني لا أنوي رواية سيرتي الذاتية اللّعينة، أو شيئاً كهذا، سوف أروي تلك الاحداث الجنونيّة التي مرّت بي ...."


رفض السائد والمفروض



إنّ شخصية الكاتب تبدو جليّة الملامح في الرواية، أي في رفضِها للسائد والمفروض، وجرأتِها العالية في تناوُل الموضوعات التي تُعدّ في مجتمعنا خطوطاً حمراء، وتسميةِ الأمور بأسمائها من دون مواربة، محطّمةً "تابو" التعبير عن جموح النفس ورغباتها، التي وإن تطرّق إليها الكتّاب التقليديون، فغالباً ما تكون بأسلوب تلميحيّ ومموّه (ربما لأسباب تتعلق بالرقابة )، بادئاً من ثكنة الرميلة حيث حرّر فيها أول طيور رغباته "في لحظة كأن الجنيّ يخرج مني، أو كأني أكتشف عالماً مجهولاً غريباً عني، تتقطع أنفاسي، أرتبك، أشعر باللّذة، أشعر بالألم، كأني كشفت سري بنفسي، أحاول إخفاء الاكتشاف، وتكرار لذّته"، مستتبعاً تحطيمه للتابوهات من خلال سرده للحياة البوهيميّة التي عاشها الكاتب في قاع المدينة، لطالما كان يهرب منها بالعبث وقرع الكؤوس وارتياد المواخير "بعد الرغبة بقليل صرت أنظر إلى جسدها، أظنه كيس قمامة، أو مجرد تلّ من اللحم، ألف "تفه" لا تكفي لأزيل الشعور بالقرف ".

إلاّ أنّ هذا الطريق الذي شقّه الكاتب في روايته للتعبير عن مكنونات النفس، يذكرنا برواية "يوليسيس" للايرلندي  جيمس جويس، وهي رواية اثارت جدلاً كبيراً، إذ اعتبرتها الرقابة في العشرينيات من القرن الماضي أدباً فاحشاً ، ما عرضها للحظر والمحاكمة في الولايات المتحدة عام 1921، ولكنها عادت بعد أن ترسخت مفاهيم الحرية الفكرية في العالم الغربي، لتتصدر قائمة أفضل الروايات في القرن العشرين، ونستذكر لهذه الغاية على سبيل المثال وصف جيمس للبحر الميت بأنه فرج العالم الغائر العميق....


ورغم أنني أحبّذ لو أن الكاتب استأصل من الأحداث بعض العبارات الصارخة، والألفاظ الجريئة، أو على الأقل دوّرَها بما لا يربك القارئ، إلاّ أنني أقرأ - من زاوية أخرى- هذه التلقائية والموضوعية في نقل المشاهد وطرح المواضيع، بأنها تعكس، إلى حد بعيد، ذاكرة الأماكن التي قضى فيها شبابه،
وأحداثها ومواطنيها، وحتى الأثر النفسي الذي تركته فيه...

لذا فالثوب الجريء الذي ألبسه الكاتب لكلماته لم يكن مبتذلاً بقدر ما أتى لينقل بؤس المجتمع والندوب التي تركتها فيه الحرب، من قتل ونفاق وخيانة وتشرذم...

هذا فضلاً عن محاولة الكاتب التفلّت من أفكار أيديولوجية وسياسية كان ذائباً فيها، وتحطيم تابوهات، كتمجيد الشهادة والقادة الحزبيين ورموز القومية "قتل ابن عمي، لا أعرف كيف ولماذا. وربما كان الهدف القاء خطبة سياسية في بلدتي بالذات. القتلى هم بسملة الخطب للأحزاب..."، وكالشيوعية التي لم يجدها سوى في الكتب، والثورات التي اعتبر لا جدوى منها في مجتمعات متزمّتة: "ينتابني شعور أنّ أكبر جدار في وجه الثورات هو غشاء البكارة الذي لا نقدر أن نتخطّاه منذ أبصرت عيوننا نور الشمس".

إنّ هذا التمرّد الساري في الرواية، على فكرة الأيقونة والقائد المقدّس، يُشبه إلى حدّ بعيد أنموذج الكتابات التي عُرفت بكتابات الغاضبين في اميركا، وخاصة في رواية "الحارس في حقل الشوفان"، كونها تعبّر عن الاشمئزاز والتقزز الأخلاقيين اللّذيْن يعاني منهما صبي في السادس عشر من عمره تجاه المجتمع الأمريكي. فهو يرى أنّ الكلّ- باستثناء الأطفال- مزيفون.


المطالعة داء ودواء



المطالعة هي تلك المرأة النزقة التي تجعل الرجال مبدعين. فأينما حلّ الكاتب كانت القراءة هي ذاك الشغف الذي يتوق إليه دائماً، فتتآلف صورة الفتى الطائر على أجنحة رغباته والرجل التائق دائماً إلى الحبر، لتشكّلا معاً لوحةً بديعة : "كان لديّ جوع للقراءة، وأفضّل شراء الكتب على تناول السندوتش والحديث مع النساء".

وممّا لا شكّ فيه أنّ الكاتب يجيد خلط ذاكرة المكان بذاكرة الكتب في نسجه لحكاياه، بعبارات تامّة وقصيرة، وحوارات مقتضبة باللهجة المحكية إن لزم الأمر، مبتعداً عن عالم التخيل والصنعة الفنية اللذين لا يتوافقان مع واقعية الذاكرة التي تروي نفسها، مفتتحاً فصول روايته باقتباسات لافتة مثل: "الإنسان رب حين يحلم، وشحاذ حين يفكر"- هولدرلين، "حين كنت طفلاً لم اكن اعرف الموت"- بورخيس...

لذلك كثيراً ما نقتفي في ثنايا الرواية آثار مطالعاته، بحيث يأتي الكاتب على ذِكر العديد من الروائيين، مثال: كافكا، خوسيه ساراماغو، ميلان كونديرا، آني آرنو، غوته، بورخيس، أفلاطون وغيرهم .


إنّ هذه البانوراما المعرفية الواسعة لدى الكاتب، لا تتسم بالاستعراض الثقافيّ، بقدر ما هي موظفة بشكل جيد في بنية الرواية بما تقتضيه الحاجة في سرد الحكايا وكشف سيكولوجية الشخصيات مقارنة بأخرى واردة في اعمال روائية عالمية وشعرية وفلسفية، وأستذكر لهذه الغاية بعضاً منها: " كلما رأيت "صرصار" راوي الحاج في مكتبتي أتذكر نسمة فواز. راوي الحاج يفتنني في سفره الكتابي، بطل روايته يتردد إلى طبيب نفسي...إلخ" ،"كافكا أيضاً ممتع في "المسخ". فبطل الرواية غريغور سامسا يستيقظ ذات صباح ليجد نفسه أنه قد تحول صرصاراً"، وغيرها الكثير...


العاطفة المفقودة

في بداية الرواية رأى الكاتب الوحيد لأمه والدَه ميتاً في الحلم، وفي خاتمتها رآه ميتاً في الواقع، وبين الرؤيتيْن يُحاصر الفقد السرد من ألفه إلى يائه، انطلاقاً من ذاته ، إلى الأشخاص الذين كتب عنهم، وحتى الأماكن ...

الراوي ترك بلدته ومدرسته في سن مبكرة، بحثاً عن الحياة التي أرادها ، في ظل غياب الأب الذي صرف وكده في عمل الأرض بعيداً عن العائلة، فوجد الأوّل نفسه مدفوعاً إلى بناء شخصيته والوصول إلى رجولته بعيداً عن هالة الأب الأسريّة، الذي لم يكن يناديه ب "أبي" ولم يرتكب بحقّه جريمة : "لن أقتل أبي لأنّه غير موجود"، بيد أنّ ذلك انعكس في شخصيته تردّداً وضياعاً وشعوراً بالفقد: "التردد هو الوحش النفسي الذي تشمئز منه حياتي، ويسرق مني الطمأنينة. أينما ذهبت يجلس في حضني، يشم رائحتي ويقرأ أفكاري ، يتدخل في كل شاردة وواردة في حياتي، إلى حد أعجز عن التحرك وفعل أيّ شيء".

وهذا الشعور بغياب الأب بقي مخيماً على حياته ،منعكساً على علاقاته بالآخرين، فظلّ طيف والده ملازماً له في كل مكان.... ولكن حين توفي، انقلبت الأمور رأساً على عقب، إذ توقّف الكاتب عن الكتابة لأنه لم يعُد يجد ما يستحق ذلك بعد موت أبيه.


نوستالجيا ضبابيّة


في الصفحة الحادية والعشرين يسأل الكاتب: "هل الاعتراف وسيلة للنجاة من طوق الحنين؟"

ويجيب عن سؤاله بتحليلٍ لكلمة "نوستالجيا" ورد في رواية "الجهل" لصاحبها كونديرا، ومن خلاله نستنبط نظرة الحجيري لثنائية البعد والحنين "الحنين هو العذاب نتيجة الرغبة المجهضة وغير المشبعة في العودة، والبُعد قد يخدع لأنه يسيطر عليه الحلم والوهم".

نعم. الحنين يتقاطع مع احداث الرواية في مكان ما ، ولكنه لا يسير معها على طول الدرب. فالكاتب يرمي أحجار الرفض على كل مَن وما يعبر في ذاكرته، محاولاً التنصّل من أيّ علاقة مهما بلغت درجة حميميتها، وعدم التورُّط مع أيٍّ من شخصيات الرواية. عباراته قصيرة، وقلّما وردتْ مركبة. تضارع إلى حدّ كبير رغبته في التّملّص من أوصال الشبكة العائلية والجذور ومسقط الرأس، إلاّ انّه لم يفُز بذلك ، فأينما حلّ كان يجد بعض مواطنيه، وكأنّ ذويه صخرة دكّها القدر، فانتشرت في كل مكان احجاراً تشهد عليها.


الرجل السيمفونية


استجاب لهتاف المدينة فسقط في قاعها.. هو مكافح كابد المعاناة وتجرّعها منذ صغره ، وعصاميّ ارتقى بنفسه من التسكع، إلى عمل الصحافة فالاستقرار العائليّ.

هو ناقم على والده، ولكنه يحتفظ بصورته في ذهنه إلى الابد: " مات أبي وبقي محنطاً في ذاكرتي مثل جثمان لينين" ...

هو هادئ، معروف بصمته، سريع الضجَر، عاشق للمرأة، للقراءة، خجول، منطوٍ على نفسه، صحافي جريء، قاسٍ وحنون، متيّم حدّ الموت وهارب... هو رجل سيمفونية!

وشكراً...

*صدرت الرواية عن منشورات ضفاف بيروت 2013



 


إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)