حسين الموزاني اشتركت عام 1986 بحلقة دراسية كانت تديرها أستاذة الأدب المقارن في جامعة مونستر الألمانية وكان اسمها ليا ريتر- سانتيني، وكانت...
حسين الموزاني
اشتركت عام 1986 بحلقة دراسية كانت تديرها أستاذة الأدب المقارن في جامعة مونستر الألمانية وكان اسمها ليا ريتر- سانتيني، وكانت من أصول عرقية ودينية مختلفة، ويغلب عليها الطابع اليهودين ثقافياً على الأقل. وكانت متخصصة بتاريخ الفن وعلاقته بالأدب، ووضعت عدداً من الكتب النقدية حول هذا الموضوع، ونشرت قصائد في شبابها بعنوان "الكتابة بالعينين". وكلفتني آنذاك بكتابة بحث عن مسرحية توماس مان Fiorenza، وهو الاسم الإيطالي لمدينة فلورنسا الإيطالي. وقد عرضت عام 1907، وهي المسرحية الوحيدة لتوماس مان والتي عالج فيها شخصية الواعظ الديني المتعصّب "جيرولامو سافونرولا" الذي أعدم حرقاً في فلورنسا، وزرت موضع محرقته قبل بضعة أعوام. وعندما دخلت إلى مكتب ريتر- سانتيني فاجئتني بأنها لم تقبل البحث، ولم تعطني شهادة النجاح، لأنّني اخترت الصور الخاطئة التي اعتمد عليها توماس مان في كتابة مسرحيته. لكنّني أصررت على أن هذه هي الصورة الحقيقية. فامتضعت الأستاذة وأدرت وجهها، وقالت إنّها متاكدة من خطئي. وعليّ أن لا أعبتره خطأً شخصياً، بل إنّه خطأ تاريخيّ شائع لدى العرب كلّهم. ويتعلق بضععف الرؤية البصرية لديهم. وكنت آنذاك "متعصباً بعض الشيء لعروبتي، فأخذت أروي لها التاريخ البصري للعرب وكيف أن الحسن بن الهيثم كاد يكتشف الكاميرا، وصنعت من ذلك نكتة وقلت لها "لكن الحمد لله لم يصنع الكاميرا وإلا لرأينا ملايين "الجهر الزفرة" die hässlichen Fratzen . وقلت لها إنّ العرب يستخدمون التجريد وتلاحظين ذلك بوضوح في الزخرفة والمنمنمات والهندسة المعمارية.
لكنّني استفدت إيما استفادة من ذلك النقاش القصير الذي استغرق نحو نصف ساعة، وصرت أقرأ الأعمال الأدبية عبر نظر الحواس والمنظور البصري وصرت أحصي الحواس في كلّ جملة أقرأها. واكتشفت بأن العرب لا يعيرون اهتماماً للبصريات ولا يهتمون بالوصف التفصيليّ أو البورتريه النثري، ربمّا باستثناء إداورد الخرّط. وعندما كنت أحضّر لرسالة التخرّج عن الأعمال المبكّرة لتوماس مان ونجيب محفوظ وجدت الفرق شاسعاً بين الكاتبين والثقافتين. ولا أستطيع التعرّض هنا بالتفصيل إلى هذا الموضوع. بيد أنّني صرت أطبّقه على كتاباتي قدر المستطاع واستخدم أكبر قدر ممكن من الحواس في كلّ جملة، وأحرص على التفريق بين الجملة الصحفية أو الإنشائية والأدبية.
وتذكّرت ذلك كلّه عندما تأملت لوحة الفنّان السوري مورازو جوجان والذي نفّذها ضمن مشروع يتحدّث عن ملكة تدمر زنوبيا التي قاومت الاستعمار الروماني. واكتفى بعين واحدة منها، لأنها كانت ترى كلّ شيء بوضوح شديد. فلم العينان إذاً؟ وتذكّرت مقطعاً من قصيدة للشاعر المكسيكي أوكتافيو باس يخاطب فيه وردة: "ماذا تريدين أن تقولي بكلّ هذه الشفاه؟". ونسينا أن نضيف أن مورازو فنّان كردي. بس يا لله، ماكو مشكلة، كرد وعرب فرد حزام، مثلما تقول الأغنية العراقية!
صورة حسين الموزاني.
Like
اشتركت عام 1986 بحلقة دراسية كانت تديرها أستاذة الأدب المقارن في جامعة مونستر الألمانية وكان اسمها ليا ريتر- سانتيني، وكانت من أصول عرقية ودينية مختلفة، ويغلب عليها الطابع اليهودين ثقافياً على الأقل. وكانت متخصصة بتاريخ الفن وعلاقته بالأدب، ووضعت عدداً من الكتب النقدية حول هذا الموضوع، ونشرت قصائد في شبابها بعنوان "الكتابة بالعينين". وكلفتني آنذاك بكتابة بحث عن مسرحية توماس مان Fiorenza، وهو الاسم الإيطالي لمدينة فلورنسا الإيطالي. وقد عرضت عام 1907، وهي المسرحية الوحيدة لتوماس مان والتي عالج فيها شخصية الواعظ الديني المتعصّب "جيرولامو سافونرولا" الذي أعدم حرقاً في فلورنسا، وزرت موضع محرقته قبل بضعة أعوام. وعندما دخلت إلى مكتب ريتر- سانتيني فاجئتني بأنها لم تقبل البحث، ولم تعطني شهادة النجاح، لأنّني اخترت الصور الخاطئة التي اعتمد عليها توماس مان في كتابة مسرحيته. لكنّني أصررت على أن هذه هي الصورة الحقيقية. فامتضعت الأستاذة وأدرت وجهها، وقالت إنّها متاكدة من خطئي. وعليّ أن لا أعبتره خطأً شخصياً، بل إنّه خطأ تاريخيّ شائع لدى العرب كلّهم. ويتعلق بضععف الرؤية البصرية لديهم. وكنت آنذاك "متعصباً بعض الشيء لعروبتي، فأخذت أروي لها التاريخ البصري للعرب وكيف أن الحسن بن الهيثم كاد يكتشف الكاميرا، وصنعت من ذلك نكتة وقلت لها "لكن الحمد لله لم يصنع الكاميرا وإلا لرأينا ملايين "الجهر الزفرة" die hässlichen Fratzen . وقلت لها إنّ العرب يستخدمون التجريد وتلاحظين ذلك بوضوح في الزخرفة والمنمنمات والهندسة المعمارية.
لكنّني استفدت إيما استفادة من ذلك النقاش القصير الذي استغرق نحو نصف ساعة، وصرت أقرأ الأعمال الأدبية عبر نظر الحواس والمنظور البصري وصرت أحصي الحواس في كلّ جملة أقرأها. واكتشفت بأن العرب لا يعيرون اهتماماً للبصريات ولا يهتمون بالوصف التفصيليّ أو البورتريه النثري، ربمّا باستثناء إداورد الخرّط. وعندما كنت أحضّر لرسالة التخرّج عن الأعمال المبكّرة لتوماس مان ونجيب محفوظ وجدت الفرق شاسعاً بين الكاتبين والثقافتين. ولا أستطيع التعرّض هنا بالتفصيل إلى هذا الموضوع. بيد أنّني صرت أطبّقه على كتاباتي قدر المستطاع واستخدم أكبر قدر ممكن من الحواس في كلّ جملة، وأحرص على التفريق بين الجملة الصحفية أو الإنشائية والأدبية.
وتذكّرت ذلك كلّه عندما تأملت لوحة الفنّان السوري مورازو جوجان والذي نفّذها ضمن مشروع يتحدّث عن ملكة تدمر زنوبيا التي قاومت الاستعمار الروماني. واكتفى بعين واحدة منها، لأنها كانت ترى كلّ شيء بوضوح شديد. فلم العينان إذاً؟ وتذكّرت مقطعاً من قصيدة للشاعر المكسيكي أوكتافيو باس يخاطب فيه وردة: "ماذا تريدين أن تقولي بكلّ هذه الشفاه؟". ونسينا أن نضيف أن مورازو فنّان كردي. بس يا لله، ماكو مشكلة، كرد وعرب فرد حزام، مثلما تقول الأغنية العراقية!
صورة حسين الموزاني.
Like
ليست هناك تعليقات