
....أن تصبح ورقة صفراء أو زهرة لوز. أنتَ حرّ. المهمّ أنّك لستَ الإنسان نفسه الذي كان قبل قراءة الرواية.
"انقطاعات الموت" هي حقّاً رواية بطعم القهوة، تبدؤها على مضض، فإذا أنت متورط بها حدّ التّلذّذ بها. تستميل كلّ حواسك، وتجذبك من عالمك إلى عالمها، فلا تستطيع منها الإنكفاء، حتّى تقرأ الجملة الاخيرة .
لا أتذكّر أنّني قرأت كتابًا عميقًا في تناوله لجوهر الوجود الإنساني بقوّة هذا الكتاب. فالملاحم والأساطير تناولت مسألة الخلود في أبعادها الرمزية، ولعل ملحمة جلجامش هي الأبرز في هذا السياق، لكن ساراماغو يعرض الموت ضمن فرضية فانتازية هادفة، ورؤية تنزع تلك القشرة السطحية المخملية التي يتلذّذ بملمسها الإنسان، بحيث لا تنظر في عينيه، لا تواجهه عينًا لعين ولا تحاكمه، بل تنظر معه في الخلفية حيث تحدث الأشياء الأكثر قذارة في الحياة.
إنّ الكاتب يتناول في روايته علاقتنا بالزّمن. إنّنا نموت دائمًا في الأخير، ولكن ماذا لو توقّف الموت عن قتلنا؟ ... وهو لا يصوّر لنا ذاك الموت الفردي الذّي اعتدناه في الكتب المقدسة وفي الروايات والشعر، بل هو موت آخر، موت حيّ، يعرف ما يفعل ويقوم به بدقة وحرفية.. هو موت متكلّم، ساخر بالوجود وأهله.
... في الرّواية يتوقّف الموت عن القتل في بلدة صغيرة بعد الساعة الثانية عشرة من رأس السنة، ولمدة سبعة اشهر متتالية. في البداية، إنّ إضراب الموت عن عمله كان كافياً لبثّ حالة من الفرح العارم لدى اهالي البلدة ، إذ نكّسوا الأعلام على الشرفات ، كمبادرة للتعبير عن مدى رضاهم وسرورهم، لكنهم شيئاً فشيئاً يدخلون تدريجيًا في القلق، وتبدأ فئات المجتمع على اختلافها في إيجاد الحلول لهذه المأساة الضّاغطة، لا موت في الأنحاء، وإحساس الكارثة يتعاظم، وهنا يجد ساراماغو مساحات طويلة ليمارس طريقته الخاصة في الإغواء والتّشويق، ليدفعك لملاحقة الأحداث، محرّكاً ثالوث المخيلة والمشاعر والعقل لديك.
وفي خضمّ الأحداث، صوّر الكاتب السلطة الدينية قد وقعت في الحيرة، إذ يعلن الكردينال: “من دون الموت لا وجود للانبعاث، ومن دون الانبعاث لا وجود للكنيسة”. وللحق، توقّفت كثيراًعند هذا التصريح. فهذا يفسّر إذاً أن لا حاجة للأديان في غياب الموت، وأنّ الدّين مسألة أرضية...
كذلك أظهرَ السلطة الوضعية ممثّلةً بوزير الصحة ورئيس الحكومة وغيرهما.. يعملان على التقليل من آثار الصدمة المربكة، رغم إرتباكهما أيضًا، بحيث أكّد الوزير الأول قائلاً : “الحكومة مهيأة لكل الاحتمالات التي يمكن تخيلها بشريا، ومصممة على أن تواجه بشجاعة، وبمساعدة المواطنين الضرورية، المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية المعقدة التي ستنشأ، دون ريب، عن انقطاع الموت بصورة نهائية”.
... تقرأ فتشعر وكأنّك تسقط في وادٍ. المواطنون المحبورين بالموت، سرعان ما اتضحت لهم الكوارث الناتجة عن غيابه. إذ تعثر نظام المعاشات التقاعدية، وأضحت المستشفيات مكتظة بالمرضى وخاصة هؤلاء الذين يعانون من امراض خطيرة ومميتة، كذلك دور المسنين ما عادت تتسع للعجزة ،فطالبت الحكومة بإنشاء دور كبيرة لها للتخفيف من المعضلة، ناهيك عن الانعكاسات السلبية لعمل عدد كبير من الفئات الشابة في خدمة الكبار، فأضحوا - كما يصفهم ساراماغو- كالحوت العظيم الذي يأكل الصغار.
كذلك عمدت مؤسسات تجهيز الموتى ودفنهم، للاستعاضة عن دفن الإنسان بالحيوان لتفادي الإفلاس، أما مؤسسات التأمين على الحياة فصارت على شفير الهاوية، وتذمر الأهالي أنفسهم من مرضاهم الميؤوس من شفائهم، ومن الشيوخ الطاعنين في السن، فعملوا على نقلهم إلى خارج حدود بلادهم المحصنة ضد الموت، كي يلقوا حتفهم حيث لا يزال الموت ممكناً ...
... لوهلة يخترق ذهنك صراخ الكائنات "لا أريد هواء، أريد أن أموت!"... ثمّ يلفتك تضرّع الجميع من أجل عودة الموت، ولكن يصدمك أنّه حتّى في الموت يستعمل الناس الأسلحة الحقيرة نفسها التّي أفسدت الإنسانيّة، وهي الفساد والرّشوة والتّخويف واستعمال شبكات "المافيا".
أضف إلى ذلك، يتلمس القارئ في ثنايا الرواية عناصر إبداعية تميّزها عن غيرها، كتوظيف لبعض الأساطير والأسماء الإغريقية المتمحورة حول فلسفة الموت، واللجوء إلى اقتباسات ميتافيزيقية (عند حديثه عن نظرة الفلاسفة إلى موت الموت في البلدة)، واللجوء إلى السخرية المريرة، مركّزاً على المفارقات اللفظية واللغوية، حين يعلق مثلاً أحد الوزراء على ظاهرة انقطاع الموت بالقول: هذه نهايتنا!!! (أي الموت نهاية.. وانقطاع الموت نهاية !! )
وتحدث بعد ذلك في الرّواية أحداث كثيرة، لن أتطرّق لها، حفاظًا على عامل التشويق المرافق لفعل القراءة ، لكننا بصورة عامة، نشعر وكأن صاحب “العمى”، و”الكهف”، قد اختلق هذه المعجزة الاستثنائية، كي يصوغ ملهاة روائية مفعمة بالسخرية، لنستفيق على حقيقة كنّا غافلين عنها.
نعم. بعد القراءة أنت لست الشّخص الذّي كنته، كنت تعرف قبل القراءة أنّ الموت والحياة مترافقان، لكنّك لم تكن متنبّهاً للكارثة في غياب الموت. كنت تعرف أنّك حيّ، ولكنك لم تكن تعلم أنّك كنت دائما مستغلاًّ من أناس يخاطبونك باسم الله وباسم القيم وباسم الموت أيضًا، ثمّ تصل إلى ما يريد ساراماغو قوله: يجب تقبل الموت كوجه العملة الآخر للحياة، فالمرء لا يستطيع العيش بدون الموت، لطالما كان الموت حقيقة مطلقة لاشك فيها وفق القاعدة الدينية "كل نفس ذائقة الموت"، وربّما لم نكن نفقه السبب.
ومن جهة اخرى، لفتني تعليق حول الرواية للصحافي "سامي نصر"، وكأنه يفضح فيه سرّ نكهتها الطيبة: "إنّ حضور البعد الغرائبي، أي تعطيل الزّمن، سمح لرواية كتبت بعصا عون الأمن، وقبضة معاون الميكانيكي، وثقافة المترجم، وروح الصّحفي الجوّال، ودقّة المصحّح في جريدة سيّارة، وألم المصاب بسكتة دماغية، أن تكون، لا نصّا محلّيا بسيطا يعبّر عن معاناة شخص أو طبقة، بل صرخة في وجه القهر والاستغلال والفساد والمواضعات التّافهة، ودعوة للتفكير في مصير الإنسانيّة الذي غلبت عليه الحقارات بأنواعها".
في الختام، إن ساراماغو لا يذكرنا بالموت في روايته ليدفعنا للخوف والقلق، ولكنه يسعى إلى تكريسه كفكرة بديهية لدينا، وكشرط لا بد منه لكي تستمر الحياة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق