(القدس العربي) MARCH 28, 2016
فارقنا النهضوي ا لأول وترك فينا، وترك لنا فجأة ثقباً أسود بحجم نيزك كبير، لمع طويلاً وأضاء كثيراً ثم عبر. ثقب أسود في الفضاء العربي شكله شكل ثقافة تنهض وتتعثر، فكر يستقيظ ويغفو، نقد يعرّي ويخبو، بحث يتحرك ويموت في أرضه، سياسة تنطلق ولا تصل، حداثة تمشي ورأسها مندار إلى الوراء.
وكما عهدنا في كبار النهضويين في العصور الحديثة، لم يترك جورج ناحية من نواحي ثقبنا الأسود هذا إلّا وأشعل فيها أكثر من شمعة.
شمعة في السياسة، شمعة في الأيديولوجيا، شمعة في الأدب، شمعة في النقد، شمعة في الترجمة، شمعة في التراث، شمعة في الدين، شمعة في الفلسفة، شمعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، شمعة في عموم حياتنا الثقافية الحائرة والمتمردة دوماً.
كأي نهضوي كبير قاوم جورج، بثقافته الموسوعية وبمراجعته النقدية الدائمة للمناهج المعرفية وللأدوات البحثية عنده وعند غيره، نزعات النكوص القروسطية وميول الاستغراق في الماضوية العقيمة، كما قاوم توهمات وإغراءات المشاريع الكبرى الرائجة لاستنباط الحاضر من التراث السحيق ولصنع المستقبل من الماضي القديم على طريقة: «من العقيدة إلى الثورة»، «من الثابت إلى المتحول»، «من التراث إلى الثورة» ، «من العرفان في المشرق إلى البرهان في المغرب» ، «من سيمياء العلاقات التراثية إلى حاضر الحداثة العربية»، «من خيمياء تأويل تأويل التأويل النصوصي إلى المعاصرة الحياتية».
وكأي عقل نهضوي ناضج، منفتح على وقائع العالم المتجددة وعارف بوقائع التاريخ المتحركة وشاعر بقوى العصر الفاعلة، لم يتجمد جورج أبداً في موقع واحد بعينه، من دون أن يأبه بما يجري حوله، ولم يتمترس يوماً خلف عقيدة كنسية دنيوية كانت أم دينية، ولم يتشبث للحظة بفكرة استخلصها بعيداً عن كل فحص وتمحيص وتدقيق وامتحان، ولم ينغلق يوماً على نتيجة توصل إليها بعيداً عن كل نقد وسجال ونقاش. أحاط إحاطة نهضوية شاملة، حريّة بكبار نهضويي التاريخ الحديث، بهموم عصره وشؤونه وشجونه ومعضلاته، عربياً وإقليمياً وعالمياً، أضاءها كلها بحثاً ومعرفة وفكرا وثقافة، وذلك في الحقول والمجالات كلها من النقد الأدبي إلى النقد التراثي مروراً بالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة، كما تبنى دوماً أكثر المواقف تقدماً في كل مرحلة من مراحله ودافع عن أكثر المواقع طليعية في كل لحظة من لحظاته. وكأي نهضوي حق لم تخدعه الادعاءات العدمية الرائجة «بموت الإنسان» و»نهاية الكاتب» و»فناء الكتابة» و»انعدام التقدم» و»انسداد التاريخ».
لذا بقي هذا النهضوي الأول ساخطاً وناقماً على واقع حال الثقب الأسود ومتطلعاً في الوقت ذاته إلى المستقبل بإمكاناته المفتوحة وإلى التاريخ المقبل بمفاعيله المستمرة، على الرغم من قتامة الحاضر وإحباطاته وشناعاته كلها.
أكاديمي سوري