جيل كيبل برنار روجييه
الأربعاء، ٣٠ مارس/ آذار ٢٠١٦ (الحياة)
تكبدت الجامعات الفرنسية خسائر جانبية نجمت عن هجمات 2015. ويفترض بالعلوم الإنسانية والاجتماعية أن تساهم في تفسير ظاهرة الإرهاب التي تضرب فرنسا. ولكن المؤسسات الجامعية الفرنسية عاجزة عن تناول الظاهرة «الجهادية» الفرنسية. ويعود العجز هذا إلى سياسات في غير محلها أطاحت دراسات العالم العربي والإسلامي. فعلى سبيل المثل، ألغى معهد الدراسات السياسية، «سيانس بو»، في كانون الأول (ديسمبر) 2010، وهو الشهر الذي أضرم فيه محمد البوعزيزي النيران في نفسه في سيدي بوزيد، برنامجاً يتناول شؤون هذه المنطقة. وأطيحت قدرة الباحثين الشباب على المطالعة بالعربية أدبيات البروباغندا «الأصولية» و»الجهادية». وبرز محظور أيديولوجي: بين مطرقة ما يسمى «التطرف» وبين سندان «الإسلاموفوبيا» (رهاب الإسلام)، صار من العسير تناول الإرهاب «الجهادي» على أنه معركة تدور في ميدان الإسلام لحظة اندماجه في المجتمع الفرنسي.
و»التطرف» و»رهاب الإسلام» هما عبارتان ملتبستان تشوشان الأبحاث في العلوم الإنسانية. فالأولى تبدد ما تتسم به الظاهرة «الجهادية» من دون غيرها من حركات التطرف، وتحول دون تناولها ولو تناولاً مقارناً يتقصى أوجه الشبه والاختلاف. فمن الألوية الحمراء (الإرهابية الإيطالية) مروراً بـتنظيم «أكسيون ديركت» (الفرنسي) وصولاً إلى داعش، ومن مجموعة «بادر» (الألمانية) إلى شلة كوليبالي أو أباعود، التطرف واحد مهما اختلفت أشكاله. وفي الأمس كان الإرهاب «أحمر»، واليوم صار ملطخاً بـ»الأخضر». وعليه، إذ تخلط «الجهادية» بـمفهوم التطرف العام، تنتفي الحاجة إلى دراسة الظاهرة المستجدة وتعلم لغات صعبة، وإجراء دراسات ميدانية في الأحياء الفقيرة أو المحرومة حيث انتشرت «الأصولية» في العقود الثلاثة الماضية. ورواج هذا الموقف الثقافي، وأوليفييه روا هو أحد أعلامه الذي رفع لواء «أسلمة التطرف» (مقالة نشرتها صحيفة «لوموند» في 25/11/2015، و»الحياة- ملحق صحافة العالم» في 9/12/2015)، مدمر. فهو يترك الاعتقادات الإعلامية – السياسية السائدة على حالها من الجهل بالواقع الاجتماعي ويعزز غرورها الثقافي. وتذويب أو صهر ظاهرة «الجهادية» بظاهرة «التطرف» وثيق الصلة بالخوف من «رهاب الإسلام». وعليه، صار تناول دائرة الإسلام بالتحليل النقدي محرماً. والحملة على الروائي الجزائري كامل داود حين تناوله العنف الجنسي في ألمانيا، هي وليدة الموقف هذا. وشارك عشرات الباحثين في الحملة، ومنهم أوليفييه روا نفسه.
ويندرج التقرير الصادر عن مدير «المعهد الوطني للبحوث العلمية» والموسوم بـ»بحوث في التطرف على أنواعه» في سياق الموقف نفسه. وثمة سيل من المنشورات والباحثين ينحاز إلى هذه الأيديولوجيا، على رغم أن والد الدراسات الاجتماعية الفرنسية، إيميل دوركهايم، أرسى أسس المنهج العلمي، وركنه هو التمييز بين المفاهيم العملانية وبين المفاهيم المسبقة والتقريبية، وهذه «ضرب من المفاهيم المرتجلة والبعيدة من الدقة». و»المفاهيم المسبقة والتقريبية» لا تسلط الضوء على الوقائع الاجتماعية بل تساهم في التستر عليها. فهي من بنات الرأي العام فحسب وليست وليدة نهج البحث. ومفهوم التطرف على أنواعه يتحدر من الولايات المتحدة. وإثر هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، برز هذا المفهوم المسبق لتسليط الضوء على قطيعة «المتطرفين» مع معايير الاجتماع السائد. والتحليلات التي تستند إليه تفترض أن الأفراد في المجتمعات الليبرالية «مجردون» وأنهم ذرات منقطعة من كل ماض ورابطة اجتماعية. وسؤال هذه المدرسة الأميركية هو: لماذا يختار الفرد قتل الآخرين والموت، أي لماذا لا يرغب في التمتع بـ»طريقة العيش الأميركية»؟ ويتقصى الجواب قطيعة أولية بين الفرد القاتل ومجتمعه إثر تعرضه للمهانة أو العنصرية أو اللفظ...، ويتتبع «تطرفه» إليها، وكأنها نقطة الانطلاق والانزلاق في وقت لاحق إلى العنف. وكأن هذا التمرد على «طريقة العيش» السائدة ينتظر شكلاً أيديولوجياً يلبسه ويجلو على صورته.
وإذ يسعى الباحثون إلى فك لغز «تحول» شاب ما إلى «الجهادية»، تتقاطع تحليلاتهم مع تحليلات الشرطة في السوسيولوجيا الفردية السطحية التي تقتصر على جمع الوصف والعلامات المشتركة، ويجمعون على سردية أن المغرد خارج السرب أو المنبوذ يلتقي بزعماء من أصحاب السطوة يقدمون له حوافز دينية وتفسيرات سياسية ووعود بالجنة. فيسلك عالماً جديداً من التنشئة الاجتماعية، ويتحول إلى «متطرف». ولا يلم محللو مراكز الأبحاث في واشنطن التي تسبغ مشروعية على مثل هذه التفسيرات، بالعربية ولم يسبق لهم الالتقاء بـ»أصولي» واحد. وتلقف شطر من الباحثين الجامعيين الفرنسيين الذين لا يجيدون العربية كذلك، هذه الأفكار المستوردة من أميركا. وتحول ثنائية «التطرف- رهاب الإسلام» دون فهم كيفية استغلال الحركة «الجهادية» دينامية «أصولية» شرق أوسطية تدعو إلى القطيعة مع المجتمعات الأوروبية. وفكرة «رهاب الإسلام» توصد أبواب التفكير، فهي تدين ثقافة «البيض النيوكولونيالية» في العلاقة بالآخر، وتحملها تبعة اعتناقه (الآخر) التطرف، وترفع التهمة عن الاستعمالات الأيديولوجية للدين. وتساهم هذه التفسيرات في تفكيك الجمهورية، أي تكمل ما يسعى إليه المتطرفون. وتبارك الدراسات «الما بعد كولونيالية»، وهذه دراسات دجل وشعوذة، من حى التفسير هذا. والسبيل إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة وجبه التحدي «الجهادي» الذي بث الرعب والإرهاب في فرنسا، هو إعلاء شأن دراسة العالم العربي ولغته. وإنشاء وزارة التعليم العالمي (الفرنسي) مناصب شاغلها «تحليل التطرف» و»اللغات النادرة» (على رغم أن الناطقين بالعربية يبلغ عددهم مئات الملايين)، هو من قبيل معالجة المشكلة أو الداء بحبة أسبيرين. ولا مناص من الاطلاع على النصوص العربية وإجراء تحقيقات ميدانية لفهم ما فات الباحثين منذ عقود، وإدراك تحولات الحركة «الجهادية»، منذ إعلان «الجهاد» في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي في 1979 إلى حين إعلان «خلافة» داعش في الموصل في 2014 وبروز»الجهادية» في فرنسا ثم «الجهادية» الفرنسية. ويقتضي تحليل أشكال الانتقال من «الأصولية» التي تتبرأ من القيم الغربية الكافرة إلى «الجهادية» الدموية التي تهدر دم المرتدين والكفار واليهود وغيرهم، يقتضي الاستعانة بالفروع العلمية (علم النفس والتاريخ والأنتروبولوجيا وعلوما الداتا) على اختلاف أنواعها، وترك تكرار ما يقال في «ويكيبيديا» والمقالات الصحافية لفهم أعداء فرنسا والمجتمع الفرنسي نفسه وشوائبه التي تسلل منها «الجهاديون» فبذروا فيه بذورهم.
* أستاذ جامعي، صاحب «الرعب في فرنسا، ولادة الجهاد الفرنسي»، ** أستاذ جامعي، باحث، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 15/3/2016،
إعداد منال نحاس