..فتحتُ الباب بحركة سريعة وأغلقته دوني. وحالما ولجتُ المكان، أطلقتْ عيناي نظرات مشدوهة، على الرفوف الفارغة، فالكتب القليلة عليها، فالسقف وط...

..فتحتُ الباب بحركة سريعة وأغلقته دوني. وحالما ولجتُ المكان، أطلقتْ عيناي نظرات مشدوهة، على الرفوف الفارغة، فالكتب القليلة عليها، فالسقف وطلائه، فآلة التصوير المركونة في الزاوية، وصحتُ قائلةً:
- أهذه مكتبة "ضاد"؟!
استتبعتْ البائعة نظراتي بنظرة مرتبكة منها، وهي تقبع في زاوية خلفية تنبو بها، حاملةً بيديْها كتاب "الخيميائي" لـباولو كويلّو، ثمّ ردّت بصوت متهدّج:
- نعم هي .
فزادت حيرتي! ... وآثرتُ طرح سؤال آخر رديف كي أرويَ عطش فضولي:
- لكنّ المكتبة تبدو صغيرة جداً! .. ماذا حلّ بها ؟!!
- قسّمْنا المكتبة إلى قسميْن .. الجزء الأكبر منها صار مركزاً للتجميل، أمّا هذا القسم الصغير فهو المخصّص لبيع الكتب. أجابتني بلا هوادة.
حينها صمتُّ ولم أنبسْ ببنت شفه، واستأنفتُ نظرتها المرتبكة بنظرة أخرى مني باحثة عن الكتب، لأسدّ جوعي.
"أريج"، البائعة، هي ربّةُ المكتبة. تعرفُ كلّ شاردة وواردة فيها. تقرأ باستمرار... ترصف الكتب من الأهم فالمهم وكأنها تلعب بأقدارها... تستهل الرواق عند دخولكَ بكتب أمين معلوف في محاولة للفت نظرك، وفي أقصى غاية البعد وعند الأسفل تجد كتباً لأحلام مستغانمي، لطالما أستهزأت بكتاباتها، وكأنّها توزّع الحظوظ على الكتب ربطاً بأماكنها...
-"مجربي تعملي بوتوكس قبل؟"
سؤال باغتني من الخلف وانا أقلّب في صفحات "أرق الروح" ليمنى العيد!.. استدرتُ... فإذا بي أنظر إلى امرأة فاتنة، مغناج، طويلة القامة، شعرها أشقر ناعم ينسدل على كتفيْها كشلاّليْن من شهد، شفتاها غصنان متدلّيان يغُصّان بالكرز... وكرّرتْ سؤالها:
-"مجربي تعملي بوتوكس قبل؟"
- "عفواً؟!!"
تداركتْ أريج الأمر، فزمّت شفتيها لتخبرني، من خلفها، بإيماءات وحركات هوليوودية ساخرة من يديْها دون صوت يُسمع: "مرتو الجديدة لصاحب المكتبة اسم اللللللهْ!... صاحبة مركز التجميل بعيد عنّك!"
حينها وجدتُ القطبة المخفيّة!. الزوجة الجديدة العنقاء لصاحب المكتبة الهرِم فرضت عليه تقسيماً للمكتبة يضاهي وضعيْهما... مركز التجميل المتطوّر تديره هي، أما المكتبة الهزيلة فيُديرها هو.
ثمّ أردفتْ الزوجة قائلةً:
- "أنا صاحبة مركز التجميل اللي جنب المكتبة، إذا بتحبي تلقي نظرة على الآلات المتطورة لنزع الشعر الزائد والبوتوكس والسولاريوم وال....."
... خمس عشرة دقيقة استهلكتها لحملتها الدعائية، وأنا أقف مقابلها كطفل يشاهد قبلة على التلفاز للمرة الأولى. أنظر إليها حيناً وأغضّ نظري عنها حيناً آخر، فأداعب بأناملي غلاف الكتاب الذي أحمله، لأخفي أحاسيس تتخبط في داخلي، لا تقل عشوائية عن مظهري.
كنتُ أبدو كلاعبة تنس حمقاء بتنورتي البيضاء القصيرة، والقميص السوداء، وحذائي الرياضيّ الزهريّ، و"الكعكةً" المُلتفّة في رأس رأسي، مخترقاً إيّاها قلم رصاص من الجانبيْن... وحين أتتْ هي بأنوثتها الطّاغية، أزالت شكّي بسذاجة مظهري باليقين.
وقبل أن تختتم كلامها بالأسعار، قاطعتْها أريج بصوت حنِق يرتجف غيظاً، تخالها للحظة الزوجة الأولى التي عايشت المكان وتربّت فيه ومعه، ثمّ باغتتها غريبة على حين غرّة فأخذت منها عزيزاً على قلبها، وقالت:
- "طيب إنّو هلّأ الزبونة عم تشتري كتاب لتكبّر راسا.. شو خص تكبير الشفاف بالقصّة!!"
- "إنتِ ارتاحي". أجابتها الثانية دون ان تلتفت إليها.
...المشهد برمّته كان مؤسفاً !
فأريج الفتاة المثقّفة أضحت مغبونة مع الكتب المصفّقة فوق بعضها البعض في غرفة لا تتجاوز ثلاثة الأمتار طولاً وعرضاً مع آلة تصوير تحتكر لنفسها المتر الأخير، في حين تمثّل تلك الزوجة بمركزها التجميليّ، وشفتيْها الاسفنجيتيْن، وعينيها الزجاجيّتين، ورأسها الفارغ، وردفيها المحشوّيْن غباءً مساحة التفكير الغرائزي في مجتمعنا !
ضجرتُ... لم أستطع الاصغاء إلى الجدال بينهما... فدفعت ثمن الكتب التي اشتريتها، وخرجتُ من المكتبة وانا مرتابة أكثر من لحظة دخولي إليها.
خرجتُ... وانا أتمنى لو أشوط هذا المجتمع الفارغ جوفاً، بمضرب التنس خاصتي.
ليست هناك تعليقات