أمسكتُ قوس "الكمنجة"، دوزنْتُها دوزنة شرقيّة بدءاً من الوتر الأسمك باتّجاه الأرفع: صول - ري - صول - ري، رفعتُ مسند كتفها إلى رقبتي، أغمضتُ عينيّ، وشرعتُ بالعزف، فإذا بصورة بهيّة تتراءى في مخيّلتي.
الغمامُ كراتٌ قطنيّةٌ بيضاء منثورة على أوراق شجرة لوز عملاقة، وعليها يضطجعُ سربُ عصافير لحين استئناف رحلته. يلثم قطرات الماء النديّة التي تتأرجح على الأغصان مع نسائم ربيعيّة حيناً، ويرفّ بأجنحته المحبورة حيناً آخر...
ما هي إلاّ دقائق معدودة حتّى عكّر صفوَ هذه الصورة طرقٌ على الباب. إنّها الجارة!
فتحتُ الباب، فإذا بها تُطلّ عليّ بسحنتها المكفهرّة. طلبتْ منّي التوقّف عن العزف لأنها ترغب في الإنصات إلى آيات من الذّكر الحكيم، مشدّدةً على أنّ اجتماع صوتيْهما خطيئة لن تتحمّل إثمها أبداً. وإلاّ فستضطرّ إلى رفع صوت مُقرِئ الكتاب المقدّس عالياً، إلى حدّ الجهورة، ليطمس نغمات كمنجتي، ثمّ ختمت بتعليق اربدَّ على أثره وجهي: "كلّما ارتفع صوتٌ مُدان، على الدّين أن يرفع صوته أكثر..كي لا يُسمع غيرُه"، ثمّ مطّت شفتيْها بابتسامة صفراء، وهي تستدير عائدةً إلى شقّتها.
اللّحن الذي اجترعتُه - قبل الفاصل الطارئ - وسرى في دمي، كان كافياً لأكون بالهدوء الذي يليق برقيّ الموسيقى، والمدرسة التي هذّبتني فكراً وسلوكاً، فنزلتُ عند رغبتها، بيد انه لم يكن متوفّراً لديَّ كاتمُ الصوت، وهو قطعة بلاستيكية سوداء توضع على ساندة الأوتار وظيفتها كتم صوت الكمان وتخفيض صوته، فاستعضْت عنه بملقط غسيل بلاستيكي.
...عاودتُ العزفَ، لكنّ اللّحن الشّجيّ خرج من آلتي هذه المرّة زعيقاً، وكأنّه شرب كؤوس اضطرابي من كلام الجارة، فصار يترنّح على غير هدىً كعازفٍ ثملٍ. توقّفتُ. لم استطعْ استكمال ملامسة الأوتار، وهبطتُ بجسدي المتثاقل على الكنبة، وأنا أداعب برأس قوس الكمنجا شعيرات السجّادة الحريريّة، ذات اليمين وذات اليسار، وانا أشعر بأني حجر سبينوزا الذي تدحرج بقوة خارجية واستمر في حركته رغم توقف القوة الدافعة له، كفعل إكراه بسبب العلة الخارجية...
أيّ حرّيّة نتغنّى بها في ظلّ الحتميّة؟! فالنفس لا تنطوي على أية إرادة حرة أو مطلقة، بل هي مجبورة على أن تريد هذا أو ذاك بمقتضى علة هي أيضا مشروطة بعلة أخرى، وهذه العلة محددة بدور علة أخرى و هكذا إلى مالا نهاية!
أيّ حريّة هي تلك وأنا محكومة بعقيدة جارتي، ومزاجيّة جاري، وجيناتي، وشراييني الوتريّة التي ورثتها من جدّي؟!!... أيّ حرّية هي تلك وأنا مرتبطة بشجرة عائلتي، واسمي ولوني وجنسي؟!
افكار فلسفيّة عديدة عاثت في ذهني فوضىً -ربما هي خلاّقة- من الحتميّة عند سبينوزا إلى السببيّة عند كانط، إلى الوجوديّة عند سارتر القاضية بأنّ الفرد قادر على صنع ماهيته حسب إرادته الحرة، دون أن تكون لظروف خارجية أو لأي قوة تأثير على حريته، وذلك لأن الوجود سابق على ماهيته...
.. بعد قليل، رفعت القوس من جديد،دوزنْتُ الكمنجة دوزنة غربيّة هذه المرّة: صول – ري – لا – مي ، رفعتُ مسند كتفها إلى رقبتي، أغمضتُ عينيّ ، لأتماهى بالجمال، ثمّ شرعتُ أنسج الألحان نغمةً نغمةً، وأنا أتمتم: "فليرتفعْ الكارهون إلى جنة السّماء، وليتركوا لنا جنّة الأرض".
التصنيÙ:
نصوص