
ابن مقلة لم يطوّر ويحسّن الكثير من الخطوط (كالثُلث والنسخ)، والتي هي من أكثر الخطوط استعمالاً في طباعة الكتب حتى اليوم، فحسب، بل أسّس قواعد علمية لهذا الفن، فكان أول من وضع مقاييس الحروف وأبعادها وضبطها ضبطاً جيداً. بقي من آثاره رسالتان هما: ميزان الخط، موجودة في مكتبة العطارين في تونس، ورسالة في علم الخط والقلم، موجودة في دار الكتب المصرية. مازالت قواعد نظام هندسته للخط سارية المفعول حتى اليوم. هذه المقاييس للأحرف هي أشبه اليوم بالالتزام بالإيقاعات في مقطوعة موسيقية. فقد أضاف أربع قواعد على قواعد الحروف وهي "حسن الوضع": الترصيف، التأليف، التسطير، والتنصيل. ووضع قواعد لبدايات الحروف ونهاياتها، وفي علل المدّات، وأنواع الأحبار، وفي أصناف بري القلم.
لاحظ "ابن مقلة" بأن الخط العربي ليست هبة إلهية، كما كان يدّعي علماء الإسلام المتزمّتون، بل إن اليد البشرية هي التي تبدعه. أما الخطوة التي كان يعدّ لها، ولو تكلّلت بالنجاح لكانت حملت اسمه إلى أرجاء المعمورة، هي توسيع نطاق الخط العربي ليتقاطع مع اللغات الأخرى. أي ابتكار أبجدية عربية جديدة يمكن عبرها نطق أحرف وأصوات كل اللغات التي كانت شائعة وقتها، وكان هذا سره العظيم. لكن الدولة العباسية التي كانت تمثّل آنذاك أقوى حضارات العالم (كان إنتاج بغداد من الورق والكتب يضاهي إنتاج أوروبا كلها ومكتبات المدينة أكثر من جميع مكتبات الدنيا) كانت فقد بدأت بالتهاوي سياسياً. فعلى الرغم من أن "ابن مقلة" أصبح وزيراً أول لثلاث مرات متتالية عند ثلاثة خلفاء، لكن الخليفة الأخير "الراضي بالله" كان أضعف من ثقة "ابن مقلة"، فحين هدّده رجال الدين في حال رضي بتغيير "ابن مقلة" للخطّ فسيرفضون طاعته وينقلبون عليه، قَبِل باتهام "ابن مقلة" بالتآمر، فاعتقل وعذّب وحرق قصره، ثم قُطعت يده اليمنى.
بعد أن عاد الخليفة وندم وأطلق سراحه أسّس "ابن مقلة" أول مدرسة للخط، ليهب علمه للشباب كي تستمر مشاريعه الابداعية التطويرية بهم، فعاد الظلاميون واعتقلوه، ثم قطعوا لسانه هذه المرة، ليموت سنة 328 ه/ 940 م.
كتاب "رفيق الشامي": قرعة جرس لكائن جميل"، الصادر عن منشورات الجمل، والذي يحتفي بالكتابة العربية واللغة العربية، ذاك الكائن الجميل، وبمبدعيها وفنانيها، كتاب يستحق بحق الاهتمام والقراءة.