
منصف الوهايبي
القدس العربي- January 30, 2016
مؤثّرات كثيرة ألمّت بنجيب محفوظ الذي يشكّل علامة فارقة في تاريخ الرواية العربيّة، هذا الجنس الأدبي الوافد على ثقافتنا، منذ أكثر من قرن بقليل. ويتهيّأ لي وأنا أعيد قراءة جيمس جويس مستأنسا بشروحه بالفرنسيّة، وما تيسّر منها بالعربيّة؛ أنّ محفوظ كتب بعض ما كتب، بما في ذلك رواياته التاريخيّة التي استلهم فيها تاريخ مصر الفرعونيّة، و»ثرثرة فوق النيل» و»الشحّاذ»، و»أولاد حارتنا» وهي موضوع هذا المقال؛ بتأثير من هذا الكاتب الإيرلندي الذي لا يزال يفتن الكثيرين؛ حتى أنّنا لا نفتأ نتعلّم كيف نكون معاصرين له كما يقول ريشارد ألمان.
تخيّر جويس لروايته مكانا مخصوصا هو ضاحية شابليزود غرب مدينة دبلن، على نهر الليفي؛ حيث تدور الأحداث، ومنها تبدأ وإليها تؤول، وجعل لبطل الرواية أكثر من اسم وهو آدم الذي ارتكب الخطيئة الأولى وزوجته»أنّا» ولهما أبناء في كلّ مكان (تل هوث ونصب ويلنجتون وحديقة فينيكس [جنّة عدن] والبنّاء تيم فينيجان الذي يشبّهه الدارسون بطائر العنقاء…). وتتغيّر أسماؤهم فهم: التوأمان شيم وشون، فجيري وكيفين، فمات وجيب، والأخت ايزابيل أو ايزولت. وكلّ من هذه الشخصيّات يحلّ محلّ الآخر، والأبناء يقتلون الأب، والبنت تحلّ محلّ الأم. ويلعب محفوظ لعبة الأسماء ذاتها. فـ»الجبلاوي» (الذات الإلهيّة) وعرفة (العلم) وأدهم (آدم) وأميمة (حواء) وولدا الجبلاوي: إدريس (ابليس وابنته هند التي تزوّجها قابيل القاتل) وأدهم وقد كلّفه الجبلاوي بإدارة الوقف بدل الحانة عند جويس. وقدري (قابيل) وهمام (هابيل). فالانتقال من آدم إلى موسى (جبل) وتاريخ بني اسرائيل وشعيب الحاوي الذي علّم موسى السحر. وربّما رأى البعض في ذلك استلهاما للقرآن في سورتي»طه» و»القصص» أو لسفر الخروج أو الاصحاح. وهذا حقّ لا جدال فيه. من ذلك أنّ موسى (جبل) وعيسى (رفاعة) ومحمد (قاسم) وقنديل خادم الجبلاوي (جبريل) وياسمينة (المجدليّة) ويوسف النجار (شفيع). وأنّ هناك ثلاثة أحياء في الحارة:حي رفاعة وحي آل جبل وحي الجرابيع (قوم قاسم) وزواج قاسم بعد بدريّة وقمر من يهودية حسناء (صفيّة) وأخرى مسيحيّة (مارية القبطيّة). وكذلك استخدام أسماء من قبيل دنجل وزفلة وجلطة وخردة وزنفل وحنش؛ بما يحيل على جويس وطريقته في اختزال بعض الأسماء وخلطها، وتوظيف الكلمات العاميّة أو المحكيّة، واللعب الماكر بالألفاظ؛ وما يسمّيه البعض بالانقطاعات المباغتة في السرد، والمفاتيح المضلّلة حيث اللغة تفلت من عقالها، وتكتسب الكلمات حياة خاصّة. والعنوان نفسه»أولاد حارتنا» إنّما يستمدّ حيويّته، من نكهته الدارجة، كما هو الشأن في رواية جويس التي تنهض على أغنية شعبيّة محورها البنّاء تيم فينيجان.
والحارة وهي الحيّ أو المحلّة التي تتساند المنازل فيها، أو المدخل الضيِّق لمجموعة من البيوت، إنّما تحيل أيضا على الحركة الدائريّة «السايكلودراميّة» التي هي ميزة تاريخ العالم؛ في الروايتين.
والنصّان يغطّيان زمنيّة مطوّلة ويشتملان على شخصيّات عديدة. ولكنّ السارد يكتفي بوضع عدد محدود منها في الصّدارة على أساس دورها الأساسيّ والمفصليّ في مجريات القصّة . وكلاهما يحرص على إبراز فرديّة كلّ شخصيّة من هذه الشّخصيّات وتفرّدها إبرازا قويّا. ويتولّى توجيهها بحسب علاقاتها بمجمل الشخصيّات. ويمكن أن نشير في هذا السّياق إلى جورج لوكاتش في «نظريّة الرواية»، إذْ يقدّر أنّ هناك شكلا جديدا للملحمة يعلن عن نفسه في بعض أعمال دوستويفسكي. والروايتان يمكن تصنيفهما من حيث هما روايتان ملحميّتان ينتظمهما إيقاع سردي دائري.
لا غرابة إذًا أن ظفر نجيب محفوظ، وهو يكتب «أولاد حارتنا»، بضالّته في رواية جويس «فينيجانز ويك» [يقظة فينيجان] حيث تتمازج الأديان كلّها، أو هي تتبادل الأدوار، وتتداول مسرح الكون؛ وإنْ بأقنعة وصيغ مختلفة. على أنّ عقيدة مصر الفرعونيّة، هي التي وفّرت لجويس النماذج أو الأصول التي تستوقفنا في كلّ الديانات حيث الآلهة تجسّد قوى الطبيعة؛ ومآثرهم وصنائعهم تتمثّل النظام الشمسي و دوران الأفلاك والأجسام الفضائيّة. والأسطورة التي شغفت أكثر جويس هي أسطورة أوزوريس أوّل الفراعنة. وهو باختصار شديد المحسن الذي يغدق على البشر نعمه وخيراته، وصانع السلام، وربّ الكلام. وقد غار منه أخوه «سيث» فحبسه في تابوت، وتركه على ضفّة النيل. وما كان من أخته ورفيقته «إيزيس» إلاّ أن تحوّلت إلى سنونوّة، وحلّقت حتى وقعت عليه ميّتا، فردّت عليه الحياة، وهي تخفق فوقه بجناحيها؛ برهة كافية لتزاوجهما [سفادهما]. ومن هذا الزواج بالإله الميّت، ولد حورس. وقد أخفته عن سيث؛ في قصب دلتا النيل حيث يتجمّع الطمي، وتتشعّب المصابّ. وما كان من سيث إلاّ أن انتقم، فقطّع جثمان أوزوريس 14 قطعة، ونثرها في البلاد كلّها. ولكنّ إيزيس تشكّله من جديد، وهي تسوّي من الصلصال عضوه الذي لم تعثر عليه؛ ثمّ تقوم بتحنيطه. ومن جسده تنجم سنابل القمح والأشجار. وهكذا فإنّ الطبيعة التي جدّدتها إيزيس، هي التي تتمثّل انبعاث أوزوريس هذا الإله الميّت الذي يُجسّد عادة في هيئة رجل مستلق قضيبي، محفوف بالخضرة كل عام؛ وقد أخصبه فيضان النيل. ومن المعروف أنّ قدماء المصريّين عبدوا إيزيس على أنّها الإلهة الأمّ والجوهر الأنثوي الفعّال الذي ارتبط بتعاقب الفصول وبحركة الأفلاك الدوريّة، والخصب والنماء. ويذهب البعض إلى أنّ بقايا أو رواسب من عبادتها، اندمجت بالمسيحيّة؛ فقد استعارت العذراء المقدّسة بعض سماتها. من ذلك «الوعاء» من حيث هو رمز الأرض البكر التي لم تحرث، أي بوصفها وعاء للبذور. ويدعَم هؤلاء رأيهم، بنقش لإيزيس وقد توجّت رأسها خصلة من الشعر؛ هي في تقديرهم رمز لانبساط نور القمر على الحشائش والأعشاب، وزانته سنابل القمح، وقد استقرّت على إكليل من الزهر، إشارة إلى سيطرتها على عالم النبات. وفوق رحمها يستقرّ هلال؛ فيما إحدى رجليها على الأرض، والأخرى في السماء. وفي هذا كلّه إشارة إلى هيمنتها على عناصر الكون.
وثمّة أيضا أسطورة مصريّة أخرى تتعاود في «فينيجانز ويك» هي رحلة مركبة الشمس التي أسْرت ليلا (أمون رع وابنه توت). ويبدو أنّ جويس كان يسعى إلى تحقيق نوع من التوفيقيّة الدينيّة أي التأليف أو التوفيق بين الأديان، على أُسٍّ من العبادات والشعائر في مصر الفرعونيّة. وربّما رأينا في ذلك نوعا من «التيوصوفيّة» أي الإشراقيّة الدينيّة التي تنشد الاتّحاد بالربّ، أو الإيمان بربّ قادر طيّب، لكنّه لا يحتاج إلى عبادة. وهذا وغيره ممّا يستوقفنا أيضا في «أولاد حارتنا». على أنّ جويس ـ وهذا ما يفعله محفوظ أيضا ـ لا يضمّ العقائد بعضها إلى بعض، إلاّ ليشقّها، بواسطة الكلمة الحيّة التي مصدرها التوراة (خروج شعب اسرائيل) حيث تلوح ايرلندا الكاثوليكيّة، كأنّها مصر أخرى جديدة. وكذلك «أولاد حارتنا» على ما نرجّح؛ ممّا يعزّز من وجاهة القول بإنّ النصّ الاستثنائي إنّما يحيا، ويبسط سلطانه، بواسطة التأويل الذي يغنيه، ويعدّد من دلالاته.
«التاريخ كابوس، أحاول أن أصحو منه». كما يقول ستيفان دوداليس في «عوليس». وهذا هو الخيط الذي ينتظم النصّين حيث نعيش حلما ملتبسا مشوّشا، يخترق التاريخ؛ منذ أفول الخطيئة الأولى، حتى فجر البعث. والكابوس إنّما هو كابوس العود الأبدي؛ من فصل إلى فصل، ومن جيل إلى جيل؛ بكلّ ما يحمل في مطاويه من متعارضات ومتآلفات يشدّ بعضها بعضا، أو هي تسبح جميعا في فلك واحد: حرب وسلام، وازدهار وانحطاط، ويقظة وسقوط، وخطيئة وخلاص… وهي محكومة كلّها بانتقال الانسان من الحياة الحيوانيّة إلى العالم الانساني؛ أي لحظة ولادة الكائن البشري في انسانيّته الخالصة وظهور الثقافة حيث الكائن البشري «انصار» (وهذا اشتقاق من الفعل صار، نجازف به) أو هو درج أوّل ما درج في العالم الانساني، بواسطة «قتل الأب». والابن في النصّين، إنّما يشارك الأب في جوهره أو طبيعته، أو هما متعايشان كائنان معا، كما هو في أولاد حارتنا حيث يقتل عرفة الجبلاوي: ثنائيّة العلم والدين.
وقبل هذا الزمن الحسّي لا التاريخي، لم يكن هناك أيّ مجال للعيش معا، وإنّما هناك عالم العشيرة أو القوم الرحّل؛ حيث سلطان الذكر الذي يزيح أو يقتل كلّ من يتهدّد سلطته أو ينافسه على ملكيّة الإناث. هذا الأب «الأوّلي» لا يخضع لشيء؛ وإنّما هو يتجلّى في كامل قوّته أو قدرته، ولا قانون يحتكم إليه سوى متعته اللامحدودة الملغزة التي يبسط بها سلطانه. والحقّ هو ليس أبا (بحرف التاج) إلاّ في عالم الاستيهامات، خاصّة أنّه يقع خارج أيّ نسب أو نسل. فهو مصدر نفسه أو أصل نفسه أو هو قانونه الخاصّ. إنّ «أبا العشيرة» هو «اللاّأب»، أي هو بعبارة أخرى «أب» ينفي أن يكون «ابنا».
كيف نخلص من هذا الموت حيث الموتى يدفنون الموتى؟ كيف نهرب من التكرار؟ كيف يمكننا تحويل هذا الموت إلى شكل من أشكال الحياة الأبدية؟ لعلّه سؤال الروايتين.. أو هو العود الأبدي.. لعلّه!