أحمد شوقي علي... نهاية السعيدة لجمعة الغضب

alrumi.com
By -
0

(1)
لماذا وقد مرت على أحداثها سنوات خمس، تقودني –الآن- ذكرى "جمعة الغضب" بإلحاح نحو الكتابة؟
عبر صورة رأيتها بالفيس بوك منذ ثلاثة أيام في ذكرى اندلاع الثورة، لثائر في مواجهة أحد جنود الشرطة، كان وجه الثائر يصرخ وعينيه بالمثل، فيما تبحث خوذة الجندي لنفسها عن سبيل لمقاومة الانمحاء داخل الإطار، عبر تلك الصورة أطلت عليَّ "جمعة الغضب" ولم تمسسني رياح "يناير" رغم برودة الجو بالخارج.
لست أحمل من يوم الخامس والعشرين من يناير غير لمم الذكرى.
كنت أرتدي جينز أسود وقميصًا أبيض وبلوفر أحمر. لم أرتب ملابسي لتبدو وكأنها علم الدولة بألوانه الثلاث الأحمر والأبيض والأسود، وإنما اشتريت حذاءً جديدًا ارتديته للمرة الأولى في ذلك اليوم، وبدت قطع الملابس ثلاث أكثر أناقة من غيرها لتناسبه.
وصلت إلى ميدان التحرير في الرابعة عصرًا؛ نزلت إلى هناك لخلو التلفاز من أخبار المظاهرات، ولا يتبقى الآن في ذاكرتي من أحداث ذلك اليوم كله، إلا بلاء ذلك الحذاء الجديد، والأنفلونزا التي أصابتني جراء استخدام الشرطة لرشاشات المياه في تفريقهم المتظاهرين، ووجه الصديق "نائل الطوخي" وهو يجري هربًا من الرصاص المطاطي.
ربما لم يكن نائل الطوخي الذي رأيته يجري، ربما كنت أنا، وربما أيضًا لم يكن رصاصًا مطاطيًا ذلك الذي هربت منه، فلم يحدث أن واجهت رشاته من قبل، ولا أحمل على جسدي غير ذكرى رشقات وقعها أضعف من ضرب النبل.
لست أملك من 25 يناير، اليوم وليست الثورة، إلا ما يُمكنُ سارد مثلي من نسج قصة جيدة حوله، فالكتابة تقتات على النسيان، وبالرغم من ذلك لم أكتبها تلك القصة، أما "جمعة الغضب" فأتذكرها وكأنني للتو فارقت أحداثها، وأي كتابة يمكنها أن تنبع عن حدث لازلت أشعر بأنفاسه إلا مجرد التدوين!
(2)
الإنترنت مقطوع والاتصالات كذلك، وبيني وبين صديقي الصحافي والناشر محمد بعلي موعد للخروج في التظاهرات التي حملت اسم "جمعة الغضب" والمقرر انطلاقها من كل أرجاء مصر، لم أكن أعرف إذا كانت طائرته قد وصلت إلى القاهرة أم لم تصل بعد، حيث كان يعمل وقتها في جريدة الاتحاد الإماراتية، وقرر أن ينزل فجأة إلى القاهرة للمشاركة في "الجمعة الغضب الأولى"، واتفقنا ألا نتجه إلى التحرير ونشارك بدلا عن ذلك في المظاهرات التي تنطلق من "حلوان" كونه حينا الذي نسكنه سويًا.
نزلت من بيتي تلك المرة وأنا أرتدي سترتين اتقاءً لرشاشات المياه المتوقعة، وأنتعل في قدمي حذاءً قديمًا. كانت خطبة الجمعة على وشك الانتهاء عندما التقيت بـ"البعلي"، ولما وصلنا إلى مسجد "المراغي" كان المصلون في الركعة الأخيرة، وما أن انضممت إليهم حتى سلم الإمام، وقبل أن أنهض لاستكمال الصلاة التي فاتتني، خرجت "الله أكبر" هتافًا مزلزلا من جوف المسجد، وبدأت المظاهرة. وقفت يدي اليمنى فوق اليسرى ولا أعرف هل أكمل الصلاة أم أقطعها، فازداد صوت الهتاف علوًا، فحسمت أمري بقطع الصلاة وانضممت إلى المتظاهرين.
نجوب الشوارع وحناجرنا تهتف "يا أهالينا انضموا لينا"، فيأخذنا الطريق إلى "كابرتاج حلوان" في نصف ساعة أو يزيد، لقد قطعنا –فقط- نصف المسافة إلى الكورنيش، وكان طموحنا كبير في أن نصل بمسيرتنا تلك إلى ميدان التحرير، وبوتيرة السير هذه لن نصل إلى هناك إلا بحلول منتصف الليل، فقطعتْ المظاهرة نفسها بين جمعين، واحد يريد التجمهر أمام قسم الشرطة والآخر يبغي استكمال الطريق حتى التحرير، فسرت وصديقي مع السائرين إلى قسم الشرطة.
لم نملأ الشارع رغم كثر عددنا، وحدها ملأته، تلك السيدة الشابة التي خرجت من بيننا في جلبابها الأسود البسيط، لتقذف زجاج القسم بحجر، فنهرها دعاة الثورة النظيفة، وربما كان الذين نهروها من جماعة الإخوان، لكنها لم تتراجع، وردتهم بجملتها الحاسمة "لو بتم ليلة واحدة في عز برد الشتاء، أمام ذلك القسم، لأن أخوكم محبوسًا وأمناء الشرطة يذلونكم لتروه ثم يلقون بكم على هذا الصيف لفعلتم مثلي وأكثر"، ثم ألقمت الزجاج حجرًا ثانيًا، فسرت جلبة بين المتظاهرين، فيم لم تصدر أية مقاومة تذكر من قبل أفراد الشرطة المتراصين أمام القسم، بل دخل بعضنا في مناوشات لفظية معهم.
وجه أحد أمناء الشرطة الكلام لي ولصديقي ساخرًا :" كلها أيام ويتم الانتهاء منكم"، فرد البعلي "بل هي نهايتكم"، ففز أحد الضباط، وكان في هيئته يشبه البغل لزيادة وزنه، ليقارع البعلي بالكلام، وفي اللحظة التي قال له فيها صديقي "أنت تحتمي في سلاحك، أتركه ونازلني"، كان نصف المتظاهرين -الذين افترقوا في السابق باتجاه التحرير- قد حضروا إلى القسم وما أن صاروا أمامه حتى ألقوا على زجاجه الحجارة بشكل أوتوماتيكي، ليفر أفراد الشرطة لواءات وضباط وأمناء على وجوهم خشية أن تصيبهم الأحجار، وبالرغم من عبثية ذلك المشهد، وجنون سيارة الإطفاء التي انطلقت لتدهس راميي الأحجار لتفريقهم، بعده، لم أشعر بتفاهة الداخلية مثلما شعرت لدى رؤيتي ذلك الضابط الذي تجرد من سلاحه فعلا –قبل قليل- لينازل البعلي!
فرقتنا سيارة الإطفاء المجنونة، فصرت وحيدًا أجري مع وحيدين -وربما جماعات- إلى جواري، كان النهار قد انتصف، وبدأت الاشتباكات الحقيقية مع الشرطة خلف القسم وأمامه وفي الشوارع الموصلة إليه كلها، نصحنا المتمرسين في المظاهرات بشم البصل وبغسيل وجوهنا بالكوكاكولا أو الخل لاتقاء آثار الغاز المسيل للدموع، وجربت الطرق الثلاث، البصل لاينفع والكوكاكولا كذلك، أما الخل فيحرق الوجه، وإذا احتملته صارت لديك المناعة الأبدية من الغاز، أو كنت أظنه كذلك، حتى تزاملت في زجاجة مع رفيق "سلفي"، فتى طيب وهزيل كاد يموت إلى جواري بعد أن غسل عينيه بالخل. المحلات كلها في ذلك الوقت صارت تبيع الكوكا والخل، حيث رصت صناديقهم أمام واجهاتها، لتسهيل عملية البيع، فالإقبال على الشراء أوحى لهم بمكسب لن يتكرر مرة أخرى.
عثرت على البعلي في محيط محطة المترو، وبصحبته سيدة تضع البصل في فتحتي أنفها، وبينما نتحدث رأينا تصاعد النيران من فرع الحزب الوطني الكائن فوق محل "باتا" الشهير، فذهبنا إليه لنرقب احتراقه في سعادة، ساعتها لم نكن نعرف أي شيء عما يجري في باقي أنحاء الجمهورية، ولكننا هزمنا الشرطة هنا في حلوان، وأحرقنا النظام نفسه ممثلا في مقر الحزب، وفي تلك اللحظة بالذات تذكرت زوجتي "شيرين"، لم أكن قد تقدمت لخطبتها بعد في ذلك الوقت، خشيت أن يكون قد أصابها مكروه إن كانت قد شاركت في المظاهرات، وكان يكفيني الاتصال بالهاتف الأرضي لمنزلها للاطمئنان عليها، لكني قررت الذهاب إلى بيتها، فهي الأخرى إحدى ساكني حلوان.
ربما شعرت في لحظة الانتصار تلك بالفخر حد تقديم نفسي لوالدها للمرة الأولى دون رهبة أو خجل، كديكٍ في مقابل ديك، وعلى باب منزلهم تفحصت الهاتف الداخلي للعمارة حتى وصلت إلى اسم حماي، فطلبتْ شيرين مني الصعود، قابلت والدها على الباب فأدخلني، استرحت على الكرسي ورددت على دعوته لاحتساء مشروب بطلب الماء، لم يدم لقاءنا غير بضع دقائق، لم أسأل فيهم عن شيرين لأني توقعت ظهورها، ولم يسألني خلالهم حماي عن شيء مما جرى خلال اليوم، بل سألني إن كنت جائعًا فأجبت بالنفي رغم حاجتي للغذاء، واستأذنت للمغادرة، ولما هبطت إلى الشارع انتظرت نحو الساعة، فرغم خيبة الغرض من الزيارة، إلا أن رؤيتي لذاتي كفارس منتصر يستحق إنهاء يوم كهذا بعناق طويل وقبلة من حبيبته، جلعتني أنتظر ذلك الوقت كله، لكن حبيبتي لم تأت.
(3)
ربما ذكرتني صورة الثائر على فيس بوك بسيدة القسم أو موقعة "البعلي" والضابط، أو ربما ذكرني مشهد شوارع التحرير الفارغة في ذكرى الثورة بنفسي وأنا أنتظر حبيبتي أسفل منزلها، أو ربما يتراءى لي –الآن- وجه الثورة باهتًا تمامًا كوجهي وأنا أغادر ذلك المنزل إلى بيتي، لكنني في ذلك المساء، مساء جمعة الغضب الموافق 28 يناير 2011، مررت في طريق العودة بمقر الحزب الوطني الذي كان لايزال مشتعلا، فأبصرت أطفال الشارع وهم يرقبونه من بعيد بينما يرددون في سعادة "أحـه أحوه (...) جمال وأبوه"، فوقفت أشاركهم السعادة نفسها بترديد نشيدهم الجميل.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)