فلسفة... نص لفرح دهني

alrumi.com
By -
0
فلسفة!
مددتُ الإبهام والسبابة داخل علبة السجائر. كانت فيها واحدة من النوع الذي أحب، مستوحشةً وكأنها تتمنى لو تحترق على أن تتسوّس في وحدتها.
أخذتُها، شممتُها برفق، فأخذتني رائحتها إلى أروقة الجامعة، حيث كنت عضواً في شلّة "أُف ف ف " نلفظها مضمومة الألف في فترة الإمتحانات المُرهقة، ومفتوحةً، نسبة إلى حرف اسمي الأول، في أيام الفرح والشغب.. وكم كنّا نبتدع النظريات الحمقاء! آخرها "الله خلق التبغ في الأرض وجعل لنا الأيدي لندخّن"، كنت قد كتبتها كتعليق على إحدى العبارات الحديديّة الملصقة على باب القاعة في "يوم الصحة العالمي".
الهدوء الذي حقنتُ به نفسي في المقهى، جعلني في غياب تام عن الحاضرين، وكأن نظام عمل آلي يحرّكني. أقلّب السيجارة بين أناملي بحركات مملّة، شاخصةً في طفل يحلّ شريط حذاء زوج أمه (كما علمت لاحقاً)، غير المكترث سوى لدخان نرجيلته الممجوج في منخاريه وفمه...
طلبتُ قهوتي بصوت نقيّ... استغرب الجميع حالي.. أنا لا أطلبها عادةً... أكتفي بإلقاء التحية على الناذل فيردها بحركتين: إبتسامة وفنجان الفُرجة كما يسميه ممازحاً.
بدأ لقائي بأصدقائي بعبارة افتتاحية " فرح، وسيم.. وسيم، فرح"، لطالما أحببت هذه الطريقة اللطيفة للتعارف، بحيث تقذفني مباشرة وبحركة عفوية، إلى أرجوحة "بحر العيد"، فأراها تروح وتجيء وتجيء وتروح... تأخذني محبورةً، وتعيدني متطايرة مع شعري الطويل وفستاني. وحين لامستْ هذه العبارة مسمعي، شعرتُ للوهلة الأولى وكأنّهم يصفون كلاًّ منا باسمه، الضيف وسيم، أما أنا فالفرح... لكنّ سماتنا لم تصدُق ولم تكن في وجهيْنا... هو لم يكن وسيماً، وأنا لم أكن فرِحة .
 ...هو أستاذ في مادة الرياضيات، ذو عينين زرقاوين تعمّدت عدم النظر فيهما، لطالما كرهتُ الألوان التي تغترّ على الأسود القاني في عينيّ... وشيئاً فشيئاً راح يحدّثني عن الكتب التي يقرؤها، محاولاً لفت إلى نظري إلى عجيبته.. .رجل آتٍ من عالم الأرقام، يطالع كتباً أدبية وفلسفية !
بضع نظرات طائشة تسللت من مقلتيّ إلى حركات يديه... لم ترُق لي، لا يحسن عزف الكلام بهما.. بدا مربكاً، أما أنا فكنت هادئة مملّة حدّ قساوة الصمت في حنجرة .
اكتفيت بالإنصات.. كان صوته هادئاً.. هادئاً جداً. حدثني عن نيتشه وعن الوجود الذي يسبق الماهية، والدجاجة التي تسبق البيضة، بحسب دراسات أثبتت ان البيضة تحتوي على مواد في قشرتها لا تتوفر سوى في رحم الدجاجة،مبدياً تأييده لأرسطو الذي يرى أن السبب الاول للكون لا يفعل شيئاً وإلا لسبّب تحركه تغييراً، مستأنفاً كلامه عن أهمية عقلانية المرأة، مبدياً استياءه من ساقيّ "مايا دياب"، ومعقّباً بإرشادات معلّبة عن الإدارة الصفية وتنظيم الوقت...
كان رجلاً مملاً... مملاً جداً كلوحة الموناليزا... تعبتُ من ابتلاع ترياق سكينتي، في حين لم يتعب هو من مضغ كلماته.. ظلّ يحدّث الجميع كماكينة ألمانية، في حين كنت أتآمر في خيالي مع ذاك الطفل الذي يربط شريط حذاء الرجل، زوج أمه، برجل الطاولة... أنظر إليه بعينين كحيلتيْن وأبتسم.
 ...ها هي موسيقى زيد ديراني تصدح في المكان... تنبهت إلى السيجارة التي اهترأت في يدي، فأطفأتها دون أن أشعلها.. وإلى غير رجعة ...
بدأ مزاجي بالتغير شيئاً فشيئاً مع معزوفة "نور" على البيانو ومقلب الطفل الظريف ولذّة القهوة، فرحتُ أتمتم النغمات وكأنني اعزفها على شفاهي وحركات أصابعي على بنطالي...
وما ان انتهت المعزوفة حتى نهض ذاك الرجل المربوط فكراً وحذاءً من مكانه بسرعة مهيبة، فسقط كحيوان بري انقضّ على طاولتنا!
ارتاب الجميع لعظم السقطة، اما انا فصرتُ أضحك مع الطفل.. أضحك .. أضحك كطفلة خبيئة، كمراهقة نديّة، أو كعجوز شمطاء..
حينها ابتسم "وسيم" محملقاً بي بنظرة دسمة تملأ حدقتيه وكأنها تقول لي بكل ما للكلمة من معنى:
 " وأنا مقضّاها فلسفة!!!"



عن الفايسبوك


إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)