زهير دبس... الحاجة نهيل.

alrumi.com
By -
0

الحاجّة نهيل التي كانت دارها تقع في أوّل حيّ «الزيّات» في الضيعة، لم تكن قد سمعت بعد بعمليّة جمع النفايات وفرزها وإعادة تدويرها وصولاً إلى طمرها أو حرقها واستخراج الكهرباء والطاقة منها، ولم يكن وصل إلى مسامعها مصطلحات «الفرز من المصدر» و«المواد العضويّة» و«المواد الصلبة»... ولم ترَ عيناها شاحنة من شاحنات «سوكلين» تمرّ أمام دارها أو عاملاً من عمّالها يقوم بتنظيف «الدرب» - وهو الاسم الذي كان أهل الحيّ يطلقونه على الطريق - ولم تكن ظاهرة العاملات السريلانكيّات والأثيوبيّات وغيرهنّ قد بدأت بعد.
الحاجّة نهيل كانت تسابق نسمات الفجر الأولى وصياح الديكة، فتخرج إلى فناء الدار ومنه إلى الدرب، فتبدأ بمكنستها المصنوعة من «البلان» أو «الذرة» الكنس يميناً ويساراً.
لم تكن الحاجّة نهيل وحدها مَن يقوم بذلك، بل معظم نسوة الحيّ اللواتي كانت بيوتهنّ تتناثر على جوانب الطريق التي تفضي إلى الحقول والبراري، أم أديب وأم زكي وأم عبد الله وأم أحمد وأم عدنان وأم فوزي وأم ابراهيم وأم هاشم والحاجّة نوف وأم عفيف وصولاً إلى بيت «الحجّة ميري»، يصبّحن بعضهنّ وكلّ واحدة منهنّ تلاقي جارتها وتقوم بالعمل نفسه. وبهذه الطريقة البسيطة والعفويّة كان يتمّ تنظيف حيّ «الزيّات» وسائر أحياء الضيعة.
النفايات التي كانت نساء الحيّ تكنسها وتجمعها في أكوام صغيرة على جوانب الطريق قبل رميها في الحواكير وحرقها، كانت خليطاً من أوراق الشجر اليابس المتساقط من العرايش التي كانت تظلّل معظم مداخل بيوت الحيّ. وأيضاً بقايا زهر الياسمين المنتشر بكثافة على معظم التصاوين الحجريّة التي كانت تسيّج الطرقات. أمّا الباقي فهو ما كانت تتركه قطعان المواشي من «بعر» أثناء مرورها في طريقها إلى البراري والتي غالباً ما كان الناس يستخدمونها كسماد لمزروعاتهم.
هكذا كان حيّ «الزيّات» يتعامل مع نفاياته التي كان معظمها خالياً من التصنيع، مصدره الأرض وإلى الأرض يعود، قبل الفرز وإعادة التدوير.. قبل الحداثة والرفاهية والتكنولوجيا الرقميّة.. كانت الدرب أيّام الحاجّة نهيل أنظف، والهواء أنقى ورائحة الورد أطيب. القمر كان قريباً و«أحلى» وكان «يضوّي» أكثر. اختفت رائحة الصيف، غادرت مع نساء الحيّ اللواتي رحلن تباعاً الواحدة تلو الأخرى، ومع رحيلهن لم نعد نسمع صوت «زيز الليل» و«نق الضفادع»، لم يعد لأصواتنا صدى، ولم تعد بريّة الله واسعة! ضاقت واختنقت بالاسمنت وبالنفايات. البيوت كانت قريبة ومتلاصقة وناسها أيضاً، يشبهونها وتشبههم، والصعود إلى أحد السطوح هو صعود وتجوّل على سطوح بيوت الضيعة كلّها.
وحدها حكايات البيادر حول مواقد النار هي التي كان يُعاد تدويرها لتصبح أجمل وأطرف، ووحدهما الحقد والكراهية هما ما كان يطمرهما الناس ويحرقونهما في مواقدهم. وحدها بقايا الحكايات المزروعة بجانب الدروب كانت تبقى مواد صلبة عصيّة على التدوير. ووحده صليل «الميابر» منغرساً في أوراق شتلات التبغ يبقى عصيّاً على النسيان. وحده وجه جدّي بعينَيه الزرقاوَين وطربوشه الأحمر المزنّر بتلك اللفافة الخضراء يبقى لمّاعاً برّاقاً يشعّ طيبة ومحبّة.
لم يبقَ من بيت الحاجّة نهيل سوى أطلال تحاكي ذكريات، ولم يبقَ من مكنستها التي نظّفت بها الدرب طويلاً سوى بعض «جبوب البلان» وقصبات ذرة تقف وحيدة بين ما تبقّى من براري بعدما هجرها أهلها. لم يبقَ من الدرب شيء سوى بقايا الحكايات التي زُرعت في جوانبها وبقيت شاهدة على ناس كانوا هنا وعبروا، وبقيت مناديلهم تلوّح من بعيد. لم يبقَ من الدرب سوى أسماء انغرست في فضاء مكان يتداعى يوماً بعد يوم وفي زمانٍ يتلاشى ويبتعد رويداً رويداً.
في زمن النفايات العابرة بروائحها الكريهة للمناطق والطوائف تبقى الحاجّة نهيل وجاراتها يعبرن بمكانسهنّ البسيطة إلى عالم بالرّغم من أنّه كان مليئاً بالتعب والشقاء، لكنّه يبقى أقلّ قسوة وتوحّشاً وتلوّثاً وضوضاء.. يسابقن نسمات الفجر الأولى وصياح الديكة إلى هناك حيث ورق العرايش وزهر الياسمين إلى «ورقو الأصفر شهر أيلول».
زهير دبس
إستراحة - العدد ٤٤ - مجلة المغترب

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)