Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

صفاء عباس... لماذا أكتب؟!

لماذا أكتب؟! إنه بمجرد التفكير في هذا السؤال واستنتاجه من دهاليز الذاكرة، فلا بد أن يثير ألف استفهام.!! التفكير في هذا السؤال هو ...



إنه بمجرد التفكير في هذا السؤال واستنتاجه من دهاليز الذاكرة، فلا بد أن يثير ألف استفهام.!!
التفكير في هذا السؤال هو الشروع لإحصاء الثقوب والندوب في الذاكرة، واستجداء لكل تلك الصفحات الموثقة في خبايا الروح.

فقد نمارس الكتابة كما يمارس أحدنا لعب الشطرنج، أو يحترف حل الأحجيات،
أو يُسلّي نفسه بمشاهدة عروض الخِفّة في التلفاز.

نمارس الكتابة لأننا أحيانًا نشعر بها كنزهة للروح نحتاجها من حينٍ لآخر،
وتحتاجنا هي لترسمنا وتفاصلينا.
علاقتنا بالكتابة علاقة تفاعلية لا يمكن لأحدنا أن يعيش فيها بمعزل عن الآخر.
تعطيك الكتابة حين تعطيها جزء من ذاتك، بل ذاتك كلها وتشاطرها مكنونك وكُنْهَك.

نمارسها أحيانًا لنعرض مهارتنا في حَبْك الصور ونسج التراكيب اللغوية، كما كانت جدتي تستعرض قصصها الضاربة في عمق الخيال والخرافة وهي تحيك أسطورتها وتصنع الدهشة على ملامحنا.
وكما يستعرض أحدهم درجاته وتفوقه الدراسي على أقرانه، وكما يستعرض الرسام لوحاته متباهيًا بألوانها وأسرارها، بزهوٍ وتباه.

نحن نعشق الدهشة حين نصنعها في وجوه الآخرين، ولا يملأ فراغنا غير الشعور بالزهو الذي يحملنا أن نمتطي صهوة الحرف ونكتب. ننسج من عمق الخيال حكاياتنا، ونبث فيها الحياة، وكأنها مخلوقات نفخنا فيها من روح أقلامنا لتدبّ فيها الحياة، ليس على الورق فحسب؛ بل على منصة أحلامنا التي ننظر إليها وتتسلل عبرها.

الكتابة هي مهارةٌ لا يجيدها أي أحد؛ في إمكان الجميع أن يكتب، وأن يضع الحروف في تراصٍ متناهي الجمال،
ولكن المعنى والمدلول اللغوي فارغ بلا وجود أو بارد بلا روح.

هي تشبه إلى حدٍ كبير ذاك الشخص الذي يجيد إلقاء النكات والطرائف، فتضحك له،
وتسترسل بالضحك حد القهقهة، ولربما يقولها على أسماعنا شخص آخر
ولكننا لا نضحك.

فما الفرق إذن؟!
الفرق واضح.
وكيف ذاك التشبيه يقع؟! التشبيه ممكن؛ فما يجعل إلقاء النكات أمرًا مذهلاً ومثيرًا للضحك هي المهارة التي أبدَع فيها الأول، وأسَر قلوبهم بها، بينما الآخر لم يتمكن، برغم أنه أعاد نفس النكات.

هذه الميزة هي شيء قابع في روح الإنسان، تأتي كهبة وترتوي بالمهارة وتنمو، وهنا يكمن التمايز، وتقبع الفتنة والإبداع، وهكذا نحن في الكتابة.

فما يميّز هذا عن غيره هي حالة الانجذاب الحسِّي والشعوري التي يمتلكها
الكاتب الجيد حين يكتب، فيجعلك تقع في قيد حروفه وتحت وطأتها.

إنه إحساس الدهشة الذي يباغتك بعد كل فاصلة، إنه الشغف الذي يملأ روح الكلمات فتنضح بالحياة، وتظل مشدوهًا مسترسلاً تقرأ بدهشة وشغف حتى تصل
إلى نقطة النهاية،وأنت ما زلت عالقًا بالجملة الأولى بل بالكلمة الأولى.

ليس ذاك وحسب، بل إن سحر الانجذاب هذا يظل قابعًا في تلافيف الدماغ وصور الذاكرة، وكأنه خيط يربطك بكل ما قرأته ويبقيه حيًّا أمام ناظريك، وأنت تحلم بقصيدة الكاتب وقافيته وأبطاله وقصته، وكل تفاصيل خياله التي وسمها على وجدانك.

لذلك؛ إن سألتني: لما تكتبين؟

سأجيبك: بأنني أدركت أن لدي ما أقوله، والكثير مما يستحق أن أتحدث عنه وأحكيه.

أكتبُ؛ لأني أُدوِّن عالمًا من حروفٍ غزلتها بيدي وشعور قلبي وجوهر روحي.

أكتبُ؛ لأن الكتابة حياة أخرى تحيا بنا بجموحها وشغفها الممتد فينا غير تلك التي نحياها.
--------
وهذا رابط المقال:

ليست هناك تعليقات