قصة

باكورة ابويها تقف على شباك الحياة تستقبل اشراقة الصبا بالابتسامة المرسومة على محياها لتكتمل لوحة جمال ربيع العمر وتبرز تضاريس الجسد تحت اثمال من نسيج شظف الحياة، الذي كان يخيم على الواقع ويعجن مع القوت اليومي، وقد بدأ الوالد يستعين بها وبقدراتها لتساعده في تخطي بعض الصعاب في سبيل تأمين ذخائر الحياة اليومية، وفي موسم القطاف اختارها ناطورة لبستان قريب من القرية لتحميه من عبث الاطفال الاشقياء، في الوقت الذي يكون فيه في رحلة بيع الثمار على دابته في القرى المجاورة وفي اشراقة ذلك النهار.
استيقظت على وقع اصوات والديها، وهما يحملان جنى اليوم السابق على ظهر الدابة فاقتربت لمساعدتهما، وعندما انطلق والدها في رحلته اوصاها بالاسراع الى البستان قبل ان تنتشر الاطفال على اطراف القرية وتعبث وتخرب الثمر، لم تتأخر او تناقش رأي والدها ومشت بخطوات واثقة، وبعد دقائق كانت تعانق بابتسامتها الشجيرات المثقلة بحملها وتنتقي ما اشتهت عينها وتضعها في فمها، تمضغها بهدوء وتلذذ وبعد جولة قصيرة على اطراف البستان لاثبات الوجود وتنبيه للاطفال بعدم الاقتراب، ووصلت الى المكان الذي يكشف كل زوايا البستان وافترشت ظلال شجرة، بعد ان نفت الحصى والحجار من المكان وخلعت حذاءها الرث والبالي وجعلت منه مخدة وتمددت لتستكمل نومها، وانطلقت احلامها تتراقص في ظلال الشجرة الرحبة حيث لم يتخط خيالها مكانا اخر او اوسع وبعد غفوة طويلة بين احضان الهواء المنعش استيقظت وهي مسرورة وسعيدة، لكنها بدات تشعر بالجوع والعطش وشاهدت مجموعة من الصبية يلهون بالقرب من منطرتها وهذا منعها من الذهاب الى البيت لتأكل، ولم تنتظر طويلا حتى وصل ابن عمها اليتيم والشقي الذي يعيش عندهم في البيت وهو يحمل لها الزاد، وهو عبارة عن بضعة قطع من الخشكار وابريق ماء وعندما حلت رباط الصرة الصغيرة، وبدات بتناول اكلها بنهم وشهية فطلب منها قطعة لمشاركتها، بدل اتعابه بحمله الزاد لها من المنزل، رفضت لأنها جائعة وهو قد تناول حصته في البيت اصر على طلبه وارتفع صوته فحصل الشجار فما كان منها ان اشبعته ضرباً وطردته من تحت الشجرة التي تستظلها، مع اصرارها على رفض اعطائه الخشكارة. بكى وجلس بائسا حزينا في ظلال شجرة، وهو يعبث بالتراب... وعندما اتت على محتويات الزاد وشربت وبندما شبعت وشعرت بالتخمة استلقت واسترخت مغمضة عينيها فما كان من ابن عمها الان ان وجد فرصة للانتقام على ما فعلته به، فاتى اليها بهدوء وهو يحمل بيده حجرا كبيرا وضربها به على وجهها، فأطلقت صرخة ألم مدوية اجتمع عليها العديد من اهالي القرية، فوجدوها مضرجة بدمائها مهشمة الوجه، فنقلوها الى منزل والدها لتعالج بالوسائل المتاحة بالضمدات والماء وبعض الاعشاب والوصفات الشعبية. وبعد ان توقف النزيف، شحب الوجه اختفى رحيق الصبا تحت معالم الكدمات وبقع الدم والازرقاق لأيام طويلة مترافقة مع الالم والعلاج من تجارب اهل القرية المخزنة في الذاكرة. وبعد الالم بدا الوجه يعود الى نضارته لكن الانف استمر شحوبه وهكذا اصبحت الفتاة في لحظات تفتح انوثتها مشوهة الجمال بضمور انفها واصبحت في الصفوف الخلفية في سوق الزواج المدبر وهذا جعلها حزينة وتدمع عينيها كلما نظرت الى المرات المثلثة المثبتة بين احشاء الجدران الطيني اما الام فقد بدات تنظر الى ابنتها بحزن وشفقة لما سببه ابن عمها الشقي الذي نال عقابه اكثر من مرة وجعله يسكن داخل عقدة ان كان من خلال نظراته الى وجه ابنة عمه المشوه او من خلال تذكيره بين الفينة والاخرى بفعلته الشنيعة وقد اصبح اكثر مطواعية في تنفيذ الاعمال التي تطلب منه، وقد بداء التاقلم على الواقع الجديد تحت عيارة هذه ارادة الله وهذا المكتوب على صفحة صبحية قبل ولادتها.
2
هو شاب وسيم في مقتبل العمر سليم البنية متوسط الطول، ولد ونشأ وسط الفقر والحرمان والعوز المغلف بالسذاجة والخنوع ومنذ بداية فتوته ظهر لديه حالة تمرد على واقعه ونمط الحياة الذي وجد فيه دون ارادته، وكانت اولى تجاربه في الحياة اختفاءه من ازقة القرية دون ان يعلم احد، وقد عاش اهله اسبوعين بحالة قلق وحزن عليه بسبب فقدانه المباشر قبل ان تصل لهم رسالة شفهية تسلم عليهم وتطمئنهم عليه وانه يعمل في احدى القرى البعيدة مع احد ابناء القرية، وبعد اشهر عاد الى القرية بلباس جديد وكمية من الالبسة وبعض النقود في جيبه، حيث كانت شبه نادرة وخاصة في ايدي الفقراء اذ كانوا يعتمدون في اغلب معاملاتهم اليومية على المقايضة، وعندم عاد كان ينطق بلكنة تميزه عن اهل القرية وبدأ يتحدث عن مشاهداته خلال رحلته بمعنويات عالية مع قليل من المبالغة، ومنذ ذلك الوقت وهو عامل متجول في القرى والمناطق، واصبح لديه خبرة في سوق العمل واوقات الطلب عليه، وارتبطت حياته بالترحال بحثا عن لقمة العيش . وكان يقوم برحلتين او اكثر خلال العام وصار شخصا مميز بلباسه وحديثه وفي العام الذي لحق حادثة تشويه وجه صبحية وفي نهاية موسم الحصاد وجني المحاصيل حل وقت الراحة والتسكع في الطرقات لرجال والتجمع في الساحات وامام الدكاكين وفي المقاهي لتجاذب اطراف الحديث واستهلاك الوقت ببعض الالعاب القروية، وفي هذا الوقت عاد نواف الى قريته من رحلة عمل طويلة، وفي اليوم التالي لوصوله لبس اجمل ما عنده من ثياب وخرج في جولة في شوارع وازقة القرية، يسلم هنا ويستمع هناك الى ان ساقته قدماه الى دكان ابو محسن فوجده قاعدا على طاولة الدكان المخصصة للميزان يلعب "المنقلة" مع والد صبحية، وهما منهمكان بالعد والحسبة المترافقة مع كلام التحدي، بعد السلام وقف الى جانبهما يراقب اللعب بين لحظة واخرى يسأله احدهما عن احواله وشغله، وفي نهاية مرحلة من اللعب فاز احدهما فرمى غنائمه من البحص لخصمه خارج "المنقلة" لكي يجمعها بنفسه عقابا له وتحد، فوقعت بحصة الى جانب الطاولة بين اقدام نواف فطلب منه ابو محسن ان يناوله البحصة وعندما انحنى نواف ليلتقطها تدلى من رقبته صليب خشبي صغير فثارت اعصاب اللاعبين واتهماه باعتناق المسيحية والتخلي عن دينه الحنيف! وانهالا عليه بالضرب المبرح ولم يتدخل الجيران الا بعد ارتفاع صراخه وعويله. وعندما اجتمع عدد من اهالي القرية ووقفوا امام الغاضين وانقذوا الضحية من بين ايديهما وبدات الملامة تصيبهما من دون معرفة سبب العراك من خلفية الاكبر والانضج امام نواف الشاب، وقد حمل الى بيته وهو شبه مغمى عليه بسبب ما لحق به من ضرب وكدمات وجرح بعدة اماكن في راسه وجسده وعندم وصل الى البيت ثارة ثائرة اهله وبدأوا يتوعدون المعتدين عليه بالقتل فدخلوا وجهاء القرية لتهدئة الخواطر وبعد مساعي حثيثة سمح لابو محسن ووالد صبحية بزيارة بيت نواف والاعتذار منه ومن اهله وعندم دخلا الى المنزل قبلا راسه المضمد بقطع قماش وحملا مسؤولية ما جرى للشيطان وابليس وقد صبا عليهما العديد من اللعنات والشتائم وفي نهاية الجلسة التي طالت الى منتصف الليل وقبل ان يغادروا كل الى منزله وقف ابو محسن ودعا الحضور الى وليمة عشاء في الليلة القادمة في منزله تكريما لنواف واهله حتى تستكمل المصالحة وقد ابدى الحضور ترحيبهم بكلام ابو محسن وغادروا منزل ابو نواف متمنيين الشفاء لنواف .
وفي مساء اليوم التالي وصلوا ملبين الدعوة وقد تاخر عنهم قليلا نواف ووالده وكان وجهه ما زال متورما واثار الضرب ما زالت واضحة , وعند وصولها باحة المنزل خرج ابو محسن وصديقه مرحبان ومكرران اعتذارهما مع وابل من الشتائم واللعنات على الشيطان عندم يسيطر على النفوس ويدفعها الى الشر , وبعد الانتهاء من تناول العشاء واثناء تجاذب اطراف الحديث قال والد نواف: نحن الآن نتصالح ونحن اخوة واهل لكن الحادثة تركت اثراً سلبيا على نواف وتعرفونه من قبل، والان انظروا الى عيونه لقد اصابها الحول!! وهذا سيمنعه في المستقبل من ايجاد فتاة تقبل ان تتزوجه..
- نظروا الى نواف...
وسيطرت لحظات من الصمت المرفقة مع الوجوم والشرود، واخترق هذه اللحظات صوت والد صبحية وقال: لا عليك يا ابا نواف انا من سيزوج نواف وامام الجميع... واعلن خطبة ابنتي صبحية على ابنكم نواف، هذا اذا قبلتم انتم، هذا الكلام اذهل الحضور ولم يتأخر رد أبو نواف بالقبول وشكر والد صبحية وتبعه الحضور بتهنئة نواف وشكر والد صبحية، وتم التفاهم على ان تتم حفلة الزواج خلال ايام.
(*) ناشط ثقافي