يتناول أهالي عرسال احاديث عن اجدادهم ان اراضيهم، كان جزءا كبيرا منها مغطاة بالاشجار المثمرة منها والحرجية، فرض عليهم المستعمر العثماني ضريبة الحطب لتشغيل القطار وكان هذا العمل احد الاسباب الرئيسة لفقدان هذه الثروة الطبيعية الخضراء من اراضي عرسال بالاضافة الى القطع الجائر الذي قام به اهالي البلدة النابع من الفقر وقلة التدبير، حيث اعتمد الاهالي على الحطب من اجل المقايضة في البلدات المجاورة على ما تيسر من سلع ومواد غير متوفرة في بلدتهم. وكان الحطب المادة الوحيدة للتدفئة والنار المنزلية، بالاضافة الى الاعتماد على هذه المادة في البناء حيث كل سقف منزل بحاجة الى عدد كبير من الاشجار العملاقة حتى ينجز.
وكان الحطب من صميم التراث العرسالي اذ كان العرس يبدء "بعزيمة" الحطب حيث كان يخرج شباب العريس مع دوابهم في رحلة حطب العرس يجلبون فيها عددا كبير من احمال الحطب، بالاضافة الى الرعي العشوائي والجائر للشجيرات الصغيرة، وعدا عن قلة نسبة الامطار والمناخ شبه الصحراوي، كل هذه الاسباب مجتمعة جعلت من اراضي عرسال صفراء جرداء قاحلة الا من اشجار العنب وعدد قليل من اشجار الاجاص على انواعه، وبهذه الحالة لجأ اهالي هذه البلدة للاعتماد على الغطاء النباتي من شيح وبلان وبقايا تقليم كروم العنب وما تبقى من اشجار مثمرة من اجل تأمين مصادر التدفئة بالاضافة الى بدء وصول المشتقات النفطية الى عرسال، وانحصر اهتمامهم بالرعي وزراعة الحبوب البعلية من قمح وشعير وحمص لافتقاد اراضيهم للمياه .
![]() |
ابو علي الجباوي بالكوفية المرقطة في مسيرة جزبية |
وفي عام 1952 جرت ندوة زراعية في المركز الثقافي السوفياتي في بيروت دعي اليها عبد الحليم الجباوي وخضر الحجيري من منظمة الحزب الشيوعي في عرسال وخلال مجريات الندوة ونقاشاتها تقدم احد المهندسين الزراعيين بنصيحة لابني عرسال بان يزرعا في اراضيهما المشمش والكرز، لان طبيعة ومناخ هذه البلدة تلائم هذه الانواع من الاشجار، وافقا على الاقتراح لكنهما لم يكونا يعرفان مصادر شتول هذه الاشجار، فأتى الجواب سريعا الشتول موجودة في قرية حزرتا، هنا تدخلت قيادة الحزب الشيوعي وتبرعت بثمن مئتي شتلة لكلا الاثنين تشجيعا ودعما لهما وعادا الى بلدتهما وهما حاملين مشروع التشجير المغامرة، جهزا الارض حسب نصيحة المهندس وذهبا الى قرية حزرتا البقاعية وجلبا الشتول ونفذا المشروع، وهما على ثقة تامة بعملهما لكن اهالي عرسال لم يقتنعوا بهذا العمل "المجنون" وتعرضا هذان الرائدان للكثير من التعليقات والسخرية والاستهزاء على عملهما، وخاصة الجباوي وفي احدى الجلسات سأل باستهزاء" شو اكلت كرز يا ابو علي؟ " فرد لم اكل بعد لكن بكرا بدي ابقى ذكرك بسؤال عندما تبدأ عرسال بتصدير الكرز بالشاحنات وهذا الجواب اضحك الجميع واتهم ابو علي بالجنون والخرف والخيالي الزائد، واستمر ابو علي وشيوعيته وكرزه مادة للحديث والتعليقات مدة خمس سنوات حتى بداية قطف اول موسم كرز، فاقتنع الناس بجدوى هذه الزراعة وانطلقت الى الغرس بالتدريج حتى بداية الحرب الاهلية في لبنان وعودة النازحين من مخيمات البؤس في بيروت وضواحيها حيث كانوا يقيمون من اجل لقمة العيش لينفذوا اكبر عملية تشجير في لبنان في حينه وقد تكون في المنطقة المحيطة، ولم تتوقف تأثيرات هذه الندوة وخطوة ابو علي الجباوي وخضر الحجيري على اراضي عرسال، بل امتدت لتشمل اراضي القرى المجاورة في لبنان وسوريا، واليوم تقدر عدد الاشجار بمليوني شجرة في خراج هذه البلدة وعدد ليس أقل في القرى المجاورة. أما الانتاج فقد وصل الى آلاف الاطنان والمردود يمثل جزءا اساسيا من الدخل للمواطن العرسالي، لكنه يبقى مثل كل القطاعات الانتاجية في مهب العواصف السياسية والامنية في ظل دولة النظام الطائفي المستقيلة من مهامها في متابعة ورعاية شؤون الشعب.
وبهذا تكون نبوءة "ابو الكرز " ابو على الجباوي تحققت، وحملت مئات الشاحنات الكرز والمشمش العرسالي الى الاسواق المحلية والعربية والاوروبية.
*(ناشط ثقافي)