بولا الخ

وري - باريس
6 حزيران 2015 الملحق
يشكل المعرض – الحدث، "الهيب هوب: من برونكس الى الشوارع العربية"، الممتد على طبقتين ومساحة ألف متر في "معهد العالم العربي" في باريس، مناسبة للتعرف إلى تيار فني سريع النمو لكن شديد التهميش وخصوصا في الثقافة العربية. يلقي المعرض إضاءة أخرى على "الربيع العربي" الذي يبدو في دوام ازدهار إذا ما تجاوزنا قليلاً سطح الحوادث. هذا ما شعرت به بعد جولة استمرت أكثر من ساعتين في أرجاء المعرض.
منذ خطواتي الأولى في المدخل الضيق المؤدي الى الباحة الرئيسية للمعرض تملكني شعور بالألفة والغرابة في آن واحد. صوت فيروز المختلط بغناء ايقاعي أجنبي، الستريوات، الكاسيتات وصور المغنين والبوسترات، هذا كلّه مألوف لكنه يبدو عصياً على إدراكي. ماذا يجمع هذه الأشياء المعروضة باتقان في هذا المكان؟ شعرت بأنني جالسة في قطار قديم أعبر أرضاً لا أعرفها لكنها أليفة. المشهد متحرك، وعلى الرغم من ثبات الأشياء وفوضويتها الظاهرة، تتوالى المناظر متناسقة متناغمة. ما فاجأني على ما أعتقد، الأناقة والنظافة اللتان تحفّان بالأعمال المعروضة على نحو يجعلها تختلف عن الصورة التي في ذهني عن الأحياء الفقيرة المهملة على ضفاف المدن الكبرى وهوامشها، حيث نشأ الهيب هوب.
للهيب هوب رموز، كمسجلة الموسيقى نسخة السبعينات مع كاسيتاتها، الحذاء الرياضي أو التنس شوز، السي دي، الملابس الملونة، والعقد الحديدي والكوفية الفلسطينية. أحياناً يظهر كل هذا وغيره في المعرض مختلطاً في مظهر شاب واحد أوروبي أشقر أو أفريقي أسود، لا فرق.
انها رحلة في عالم الهيب هوب من خلال فنون متنوعة تنسب الى هذا التيار، كغناء الراب، ورسم الغرافيتي، ورقص الـ"بريك دانس" وتوزيعات الـ"دي جاي" الموسيقية والتصوير. المعرض تجهيز وتصميم فني لهذه الرحلة من برونكس في نيويورك الى ضواحي المدن الفرنسية، ومن ثم الى المدن العربية. إنه معرض معدّ بتناسق وجمالية يبديان الألوان كأنها ترتدي أشكالاً، وتستحضر القطيعة بين الموسيقى والكلام، كالتقطيع الذي نسمعه في غناء الراب وفي حركة الـ"بريك دانس".
كملامسة الأحاسيس
يتميز المعرض ببراعة في التجهيز الفني (انستالاسيون)، الذي نادراً ما ينجح في إفهامك موضوعه بالإعتماد على إثارة مشاعرك وإبهار نظرك فقط. أذكر تجربة مماثلة عشتها قبل أكثر من عشر سنين في مركز بومبيدو من خلال تجهيز موضوعه الوقت ومرور الزمن. في نهاية الطبقة الشاسعة التي يحتلها المعرض غرفة مستطيلة صمّم فيها ممر طويل بواسطة مصابيح مضاءة رصفت على الأرض ترافقها موسيقى خفيضة، رتيبة واحتفالية. في آخر الممر بدأتُ أشعر بالضيق وأسرعت الخطى في اتجاه الضوء الباهر في نهاية المطاف، فأدركت أنني عشت اختباراً ناجحاً لمخيلتنا الجماعية عن الموت. يشبه ذلك الشعور ما يثيره فينا معرض الهيب هوب، لكن هذه المرة بفرح الحياة أو بشجنها الرومنطيقي. يضع في متناولنا جمالية نجهلها نحن المؤمنين بأشكال محددة لما نسمّيه فناً، أكان غناء أم رقصاً أم رسماً أم كتابة، اضافة الى أساليب جديدة كالرسم على الجدران (غرافيتي) بدل اللوحات، أو ابتداع قواعد جديدة للرقص في كل رقصة.
تتخطى زيارة المعرض مجرد التجوال والتطلع في أرجاء المكان كما نفعل عادة في المعارض. انها تجربة ومشاهدة في آن واحد. فسرعان ما تذوب سحنات الزوار من الشابات والشبان والكهول من الجنسيات المختلفة في الصور المعروضة، كأنهم جزء من المعرض. كثير من الحضور شبان في عمر المراهقة، "يبعطون" في الردهات كالسمك في الماء. يضعون السماعات المعلقة على الجدران، يفترشون الأرض أمام شاشات ضخمة لمشاهدة "دي جاي" يلعب بأقراص الموسيقى فيؤلف لحناً جديداً، ويصعدون الى درج مركّب من كتب. لن تشعر بالغربة، حتى إن لم تكن ضالعاً في هذه الفنون، فذكاء التصميم يوحي بأن شخصاً عارفاً يرافقك أينما خطوت، يدلك على الطريق، على الأشياء والصور والأفلام والأصوات التي يحويها المكان. انه باختصار معرض يستدرجك و"يبلفك" إذا ما أتيته متعالياً لأنك ستكتشف انه "غابت عنك أشياء".
رحلة الهيب هوب القاريّة
نشأت ثقافة الهيب هوب من حفلات كان ينظمها أعضاء فرقة "غيتو برازرز" (اخوان الغيتو) في الشارع 163 وجادة بروسبكت في جنوب برونكس في نيويوك، وكانوا يصلون آلات الموسيقى ومكبرات الصوت بأعمدة الإنارة العامة ويبثون الموسيقى بغية كسر الحواجز العنصرية. بهؤلاء يتمثل الشبان الفلسطينيون الذين يحاولون بأيديهم كسر جدار الفصل الذي بنته اسرائيل كما نرى في احدى صور المعرض الجدارية. انه معرض يتحدث عن الهجرة من دون أن يذكرها. هجرة الأفراد كما هجرة الأفكار. في الخريطة الموضوعة في القاعة الرئيسية علامات لمحطات من برونكس الى القاهرة مروراً بمرسيليا والى حيث يلتقي المغرب بالمشرق العربيين. نرى أيضاً حركة الهجرة في الاتجاهين، كأنها طريق للتجارة القديمة، ونستمع الى موسيقى الراب المهاجرة بأصوات مغنين أجانب وعرب من خلال السمّاعات المعلقة على الجدار الى جانب موقع البلد المعني على الخريطة. وحين تنهي جولتك في الطبقة الثانية على شرفة تطل على باحة الطبقة الأولى تكون قد قمت بهذه الرحلة من نيويورك الى المدن العربية مروراً بمرسيليا وضواحي باريس.
منظّم المعرض هو فيليب فراجيون، مغنّي الراب الفرنسي، المعروف باسم أخناتون، لأن أخناتون هو فرعون أسود كما يقول. ربما نجد في اسمه كل عناصر هذا التيار، من جماعة مضطهدة لكن "مفرعنة" في الوقت نفسه. فراجيون هو ابن مرسيليا الأبيض الذي اعتنق الإسلام ويعتبر أن نبيّه ودينه ليسا بحاجة الى من يدافع عنهما بالقتل. يطلق على فرقته الموسيقية اسم "أي يام" (أنا بالانكليزية وأيام بالعربية). يعتبر اخناتون ان فرنسا بدأت تخاف من المسلمين منذ العام 2001 ويتساءل: كيف تجوز اعادة نشر كاريكاتور من احدى مجلات اليمين المتطرف الدانماركي في مجلة "شارلي ايبدو" الفرنسية؟
المعرض مساهمة لائقة ومرفهة ضمن النقاش الحامي الوطيس حول الاسلام في فرنسا. يقترح تغيير وجهة نظرنا إلى ما يجري اليوم في فرنسا والعالم العربي. فهو يذكّر بمهرجانات الفرح في الشوارع العربية ابان الثورات. كما يختار جمالية الآيات المكتوبة بالخط العربي بدل صور الدم والدمار باسم الإسلام. قوة التجهيزات الفنية تعيد الى الذهن صوراً انطبعت في الذاكرة من دون أن تجمعها أو تفقهها. وها هي تحضر في لحظة. أصبح الإسلام على لائحة الشرف في كل وسائل الثقافة السائدة في المجتمع الفرنسي، على الرغم من الضجيج حوله. تشعر أن الإسلام انتهى كما كنا نعرفه، أصبح شأناً عادياً وموضوعاً عاماً للنقاش. وهذا نوع من القبول بالإسلام في عزّ رفضه، كأنه بدأ يتحلل في المدن الأوروبية. لا بل ظهر تنوعه في ثقافات وطقوس كالإسلام الصيني مثلاً، فلدينا زميل يدرس في باريس صحة ترجمة القرآن بالصينية!
العالم العربي والمهجر
تقول المحاضِرة في "معهد العالم العربي" سيلفي سوشيوتو، ان الهيب هوب في العالم العربي تعبير عن تحدي الشباب للسلطات. هي لم تحاول محاربة هذا الفن لأنها لم تره، لانه غير منتظم، ولا بنية له، متقطع وآني. هذا ربما يفسر الثورات العربية في بدئها إذ انها لم تلفت السلطات السياسية. لم تقع في دائرة المتوقع. كأنها هيب هوب سياسي.
ليس هناك تدوين للهيب هوب في العالم العربي، وفق المحاضِرة. فالاهتمام بالموضوع جاء متأخراً، فبدأ البحث عن نصوص وأغراض وصور وتسجيلات وأفلام ورسوم وكاسيتات ومسجلات...الخ. من هنا الجهد المميز لهذا المعرض. فهو يوحي بأنك ستفتح ابواباً وتصعد أدراجاً لتكتشف خباياه. كما انه يستخدم الزوايا والممرات والجدران للإيحاء بأماكن تسكع وتجمع للشبان في الشوارع.
تقول مالكة، مغنّية الراب اللبنانية، عبر فيديو في إحدى قاعات المعرض، وهي تتحدث بثلاث لغات كنموذج للبنانيين البالغي العولمة والشديدي المحلية في آن واحد: "فنون الشارع هي رد على حروب الشوارع"، التي خبرتها في طفولتها ويختبرها اليوم للأسف أغلب الشباب العربي.
أما المهاجرون العرب، بالأحرى أبناؤهم المولودون في فرنسا، فوجدوا في الهيب هوب ملجأ للإقامة في بلدان المهجر. مثلهم مثل الشابة ميا لوف، أول عضوة سوداء البشرة في الحزب الجمهوري الأميركي تدخل الكونغرس الأميركي. تقول: "أتى اهلي الى أميركا وفي جيبهم 10 دولارات، مؤمنين أن اميركا التي سمعوا عنها موجودة بالفعل لكن حين ساءت بهم الأحوال، لم يتطلعوا صوب واشنطن بل في دواخلهم".
يقول الصحافي مايك كيملمان من "نيويورك تايمس" إن مغنّي الراب في مرسيليا يؤلفون قصائد حزينة لأحيائهم وتراتيل لمدينتهم. في مرسيليا يعتمد الراب إثارة المشاعر عبر البلوز والراغا الجامايكي. ويقول ابن مرسيليا، في أغنيته "رجل العدل" مخاطباً رجال الشرطة الفرنسيين: "أنا أعرف أن رجال الشرطة ليسوا كلهم سيئين/ ولكن لماذا تسألونني دائما عن هويتي؟/ إزاء عنفكم افضّل الإجابة بكلماتي/ الا يمكننا أن نتحاور حسب الأصول؟".
الراب وجدران الحرب والسلم
هناك جمالية فنية من خلال الرسم والكتابة على الجدران كذلك، مثل جدارية يزن حلواني اللبناني التي يرسم فيها فيروز على حائط درج الجميزة. من خلالها يقلّد حلواني الشعارات والرسوم السياسية على جدران بيروت خلال الحرب، لكنه يعمل على تحوير مضمونها الإيديولوجي برسالة فنية لا سياسية. وقد خصّ المنظّمون عمل يزن حلواني بصورة غلاف الكتاب الفني الذي صدر لمناسبة المعرض.
أسماء فرق الراب العربية مميزة وظريفة مثل "الحاقد" في المغرب، مجموعة "دم" الفلسطينية وأغنيتها "من هو الارهابي؟" أو من يطلقون على أنفسهم اسم "الولايات المتحدة العربية وفريق الأطرش"، أو "كتلة ثلج" ومن كلمات احدى أغنياتها: "فرنسا جريحة/ وأنا جرحها المتقرّح".
أصبح المهاجرون العرب مرئيين في المجتمع الفرنسي، حتى أن بعض تعابير الضواحي من أصل عربي دخلت القواميس، واللهجة المغربية بخليطها الفرنسي على الموضة بين الشباب والشابات في فرنسا. كما يستبطن المهاجرون الوصمات اللاحقة بهم ويجعلونها مفخرة لهم. ضمن مجتمعهم يتصرفون كأفراد مستقلين فيرفضون الإنتماء العائلي، القبلي والطائفي السائد في العائلات العربية. يقول مغنّي الراب المغربي "أنا لا أشبه أحداً بل أشبه نفسي/ أنا أحمل مسؤولية نفسي بنفسي".
كلمات الأغنيات ذات نبرة عالية، لكن غير عداونية. مغنية الراب الفلسطينية شادية منصور تقول: "هذه كوفية فلسطينية/ كوفيتنا/ هم يلبسوها كموضة/ لابئلهم/ مهما غيّروا لونها/ تبقى عربية". كأنها تقول بفخر: أنا صاحبة الكوفية العالمية برغم معاناتي كفلسطينية. تتماشى أغنيتها مع صورة في المعرض عن شبان يعتلون الجدار الفاصل في فلسطين ويتأملون ما وراء الجدار فيبدون أضخم وأعلى من الحائط، لكن أذرعهم ممددة على طول قاماتهم بهمود.
حمادة بن عمار، مغنّي الراب التونسي الشاب، الذي تم سجنه أياماً عدة إبان الثورة، نجح من خلال أغنيته "ريس البلد" بأن يصنع الحدث على الشبكات الاجتماعية ( ذي بظ) وفي جميع أنحاء تونس، إذ شكلت أغنيته نشيدا موحّداً ونظمت التحركات الجماعية. كما لعب الفنانون دورا بارزا في ثورة سوريا المجهضة، على الرغم من التهديد المستمر من الشبيحة، ميليشيات السلطة التي كان من مهماتها اخفاء الغرافيتي الثورية وإبدالها بأخرى مؤيدة للنظام. تقول الصحافية الفرنسية كوثر هيراشي إن "الحرب على الجدران" بدأت في العام 1975 خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لتغيب وتنبعث لاحقاً ما بين حلب ودمشق.
انتماء وكسر للحواجز
الراب شديد المحلية ويعبّر عن ذات المغنّي، لا بل انه تأكيد للذات بامتياز. من هنا تميّز النساء اللواتي يغنّين الراب. تغنّي اللبنانية مالكة بصخب وغضب، داعيةً شعبها إلى التصويت ومراقبة الانتخابات ونبذ رجال الطوائف: "صوّت ضد أيّا طائفية/ انت/ صوّت للحرية/ انت!". تقول مريم محمود التي كانت مفاجأة برنامج مباراة الأغنية "أراب غوت تالنت": لماذا حرام أن أغنّي أذا كنت محجبة؟
كلمات الراب تعبّر أيضاً عن الخروج من ثقافة الخجل والتواضع، تنطوي على عزة النفس لا بل على نوع من التعالي. يقول "جاي زد"، رداً على ما يقال عن الثروات الطائلة لبعض مغنّي الراب الشهيرين أمثاله: "لست رجل أعمال/ أنا الأعمال، يا رجل!"
I am not a businessman, I am business. Man!
أما بوبا المسلم الأسود الأفريقي الفرنسي، الذي يشبه سلوكه أكثر ما يشبه "زعران الشوارع"، والمتهم في فرنسا بأنه يبرر مقتلة "شارلي إيبدو"، فإنه محبوب جداً بين الشبان وبخاصة الشابات، لأنه يؤلف ويغنّي شعراً حزيناً ومتباهياً في الوقت نفسه: "إذا كان الأفاضل هم أول من يرحلون/ فلماذا أنا ما زلت هنا؟" (بوبا، للميس). لكن منظّمي معرض "معهد العالم العربي" قاموا باختيار مدروس للأعمال المشاركة. لا مشاهير الراب ولا رموزه المتجذرة. فالهيب هوب أصلاً هو تعبير عن ثقافة مجتمعية وسلمية بالرغم من فظاظته أحياناً. عبر الهيب هوب نجح أبناء المهاجرين في نيويورك بالخروج من العصابات والانتماء الى جماعة وثقافة جديدتين.
لزوار باريس هذا الصيف نصيحة بزيارة المعرض الذي يستمر حتى 26 ايلول.