Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

محمد شعبان(بورتريه مدينة ثائرة": ما كان.. ما تبقى)

خاص الرومي كحال كثيرين من السوريين، لم ينتظر المخرج غطفان غنوم، كثيرا، ليروي عطشه لقول شيء ما، بلغة بصرية صرفة، لكن، دونما قيود أو رقاب...


خاص الرومي
كحال كثيرين من السوريين، لم ينتظر المخرج غطفان غنوم، كثيرا، ليروي عطشه لقول شيء ما، بلغة بصرية صرفة، لكن، دونما قيود أو رقابة. العطش الذي تراكم يوما إثر آخر، وقهرا تلو ظلم، في بلاد اُحتجزت وغُيبت، بأهلها وأمكنتها، وعلى مدى ما يزيد عن عقود أربعة، خلف عبارة: "ممنوع الاقتراب والتصوير..".
من مدينة القصير، (غرب محافظة حمص – وسط سوريا)، سيخرج علينا المخرج الشاب بالوثيقة الوحيدة، تماماً، عن مكان ارتبط اسمه، لدى السوريين، ومناصري ثورتهم، بأقسى درجات المرارة، فكان: ("بورتريه مدينة ثائرة"، 2013).
عن الظروف التي قادته لتصوير الفيلم، وعن اختياره المكان، يقول المخرج غطفان غنوم، "في الأيام الأولى للثورة، كنت قيد إنهاء عمل مع "المؤسسة العامة للسينما". آنذاك، تلقيت رسائل تهديد و(تشبيح)، قررت إثرها ترك دمشق، ولم أخبر أحدا عن وجهتي القادمة: حمص..".
في ظروف حصار قاسية يشهدها المكان، عدا عن القصف والاشتباكات، سيمضي المخرج الشاب سبعة أشهر في مدينة القصير، يتمكن خلالها، بمساعدة نشطاء، من الحصول على كاميرا بسيطة دون أية معدات تقنية أو فنية.
حال الانتهاء من التصوير، يحاول غطفان التواصل مع إحدى جهات المعارضة لمساعدته على إخراج المواد، "قلت لهم لا أريد مقابلاً مادياً؛ أريد نشر الفيلم فقط؛ على الجميع أن يسمع صوت الناس المحاصرين ومعرفة حقيقة ما يجري على الأرض؛ عبثا..". لاحقاً، ستشهد المدينة قصفا مكثفا ومنظما من قبل قوات النظام السوري وميلشيات حزب الله تمهيدا لاقتاحمها، وهو ما حصل لاحقاً منتصف العام 2013.

ما كان..
في "بورتريه.."، يبدو جلياً للمشاهد ذلك التماهي بين الثنائيات: المخرج مع الإنسان، الشخصي مع العام، التوثيقي مع التسجيلي، وغيرها، والتي قلّما يمكن تفاديها عند العمل ضمن سيرورة حدث ما، والحدث هنا ثورة على حافة الانجراف نحو حرب، ومكان على وشك الامحاء، أي أننا إزاء شريط التقطت مشاهده على المحك، أو "السينما على الحافة"، بحسب التسمية التي أطلقها الكاتب والناقد الصحفي، راشد عيسى، في إحدى مقالاته.
لا استعادة تاريخية في الشريط. الحدث الرئيس هو الثورة؛ حجر الأساس للبناء السردي في الشريط. من هنا، يتخير المخرج البدء مع صوت الشهيد ابراهيم القاشوش، (اعتقل في حماة واقتلعت حنجرته لاحقاً)، منشداً أغنيته المشهورة، "يلا ارحل يا بشار". ثم لا تلبث أن تؤسس مشاهد متتالية، ومباشرة، لما هو آتٍ: قناص يضبط عيار بندقيته. طفل يدلل على مكان التصوير، "أنا من القصير، مدينة القصير..". قبور اكتست شواهدها بعلم الثورة السورية. مشاهد الدمار والخراب في المدينة.
لم يختر غطفان شخوص فيلمه من أولئك الذين شكلو "رموزاً ثورية" لدى البعض، لكنه حاول أن تشمل، ما أمكن، مختلف وجهات النظر آنذاك، وعن ذلك يقول، "باعتقادي، الشباب في الفيلم يمثلون الأفكار والمبادئ الحقيقة التي قامت الثورة لأجلها..".
يشرع القناص، أحد شخوص الفيلم، بينما يستمر في ضبط وتنظيف بندقيته القديمة، بالحديث عن الأوضاع الميدانية للمدينة: الأماكن التي طالها القصف. استهداف جيش النظام للمدنيين. السبب الذي دفع بالثوار إلى حمل السلاح، "حاولنا الإبقاء على سلمية الثورة. لم يرغب النظام في ذلك. على مدى ستة أشهر، حملنا في مظاهراتنا أغصان زيتون، فيما كان جيش النظام يقابلنا بالرصاص، فكان لابد من حماية المظاهرات..".
لا تشي ملامح الرجل بخوف أو تعب. لكن عدم اكتراثه لوجود الكاميرا، واللا مبالاة في صوته، يظهران عمق الشعور بالخذلان.
فيما بعد، سيعلن، "..لسنا نريد الحرب. نريد لهذا النظام أن يسقط فقط، بعدها، فليحكم سوريا من يشاء، أيا يكن دينه أو ملته..".
تنتقل كاميرا غطفان صوب مقاتل شاب، محمد رعد، يجلس على الأرض وقد أسند بندقيته بجانبه. من البداية، يعلن محمد عدم انسجامه مع فكرة حمل السلاح. لاحقاً، يسهب في الحديث عن أمر هام، قلما تطرقت إليه سرديات الثورة، "اختار كثر التطوع في الجيش الحر، إلا أن ذلك كان يخضع لضوابط محددة؛ لم يتم قبول صغار السن، وكان لأخلاقيات المتطوع المعيار الأساس ليتم قبوله..". ويقول أيضاً، "عدا عن عدم توفر السلاح؛ إذْ رفضنا مصادر التسليح الخارجية؛ كنا نقاتل بما نغنمه من المعارك..".
لقطة سريعة نسبيا، وذات رمزية عالية، تتخلل حديث محمد: رجل عجوز يستلقي عند باب بيته وقد أسند عكازه على الحائط، على يمين الصورة شجرة زيتون. مشهد لا يمكن إلا أن يعيد للأذهان الصور التي وثقت اقتلاع الفلسطيني من أرضه إثر نكبة عام 48. الفرق، أن مشهد الراهن بالألوان.
فيما بعد، سنعلم أن محمد كان قد ترك دراسته ليلتحق بالثوار، وسيتحدث عن نيته الزواج وإنجاب أطفال، وأيضاً، عن المستقبل المأمول، "سوريا تعددية، تتسع الجميع، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم..".
يتخير غنوم شخصية دينية لتشكل العنصر الثالث في البنائية السردية للشريط. داخل مسجد صغير، يكتظ بالناس، يقف الشيخ عبد السلام مخاطباً الجمع، ".. لو كنا فعلا مجموعة من اللصوص كما يدعي النظام، فلم يعجز جيشه عن القضاء علينا..؟". وفي مشهد آخر، تتوضح الذهنية الحقيقية لما كان يدور داخل المساجد، وقتئذ؛ حيث وُجهت للمتظاهرين الذين خرجوا منها تهم التطرف والطائفية وغيرها، ".. لن نحمل السلاح، ولا حتى سكيناً؛ مظاهراتنا ستكون سلمية.."، ويضيف، "باسمي، وباسم أول امرأة خرجت إلى الشارع، وباسم الجميع، نحن، أبناء الثورة، ولأجل الثورة، نسامح كل من اعتدى علينا..".

ما تبقى..
تتابع الكاميرا تنقلها، برفقة مجموعة من المقاتلين تارة، وفي مشهديات بانورامية تقف على خرائب المدينة تارة أخرى، قبل أن تقف الكاميرا، مطولا، عند مقبرة، فيما يبدو أن مكانها قد اختير عشوائياً لاستيعاب جثامين الشهداء. عند أحد القبور تقف امرأتان، فقدت إحداهن والدها وأحد إخوتها وابن خالتها. تذرفان، بحرقة، دمعاً وقهراً وأدعية.
على مدى الدقائق الست والأربعين، تقريباً، يسير البؤس يدا بيد مع قتامة المشاهد. الرجفة في حركة الكاميرا تشي بقلق المخرج حيناً، وبعجالته آحايين أخرى. وليس ثمة الكثير ليقال عن اللغة البصرية للشريط، إذْ افتقرت لمعايير وضوابط لا بأس بها. عدا عن انعدام التناغم بين المشاهد والأصوات في بعض مواضع الشريط، ويعود الأمر، كما أسلف المخرج، لظروف التصوير السيئة، والإمكانيات شبه المعدومة.
لم تسعف المدينة، كحال شقيقاتها من المدن السورية، كل نداءات الاستغاثة التي أطلقت لنجدتها. ولا حالت آثارها التاريخية، أو ما تبقى منها، مثل "القنطرة" الأثرية، وطاحونة "أم الرغيف، (منذ العهد الروماني)، عدا عن البلدة الأثرية، "جوسية"، دون تدميرها وتشريد أهلها.
لكن، أبداً، سيشهد التاريخ أنه، إذْ تُذكر القصير، ستقفز للأذهان، تباعاً، الرستن، البياضة، الشياح، الخالدية، وأخريات. هي حمص إذاً، المدينة التي تقمص ثوارها، فعلا لا مجازاً، شخص نهرها، "العاصي"، فكان لقبها، عن استحقاق: "عاصمة الثورة السورية".


ليست هناك تعليقات