فايسبوك لستَ بحاجة إلى قراءة كتاب محمد الحاج سالم كيف تفهم فكرته الأساسية، فهي معروضة في العنوان بوضوح: (من الميسر الجاهلي إلى الزكاة...
فايسبوك
لستَ بحاجة إلى قراءة كتاب محمد الحاج سالم كيف تفهم فكرته الأساسية، فهي معروضة في العنوان بوضوح: (من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: قراءة إناسية في نشأة الدولة الأولى). لكن إذا كنت غير قادر على التقاط المعنى من العنوان رأسا، فإن عرض الكاتب للكتاب في موقع الأوان يوضح، ومن العنوان أيضا، جوهر الأمر برمته: (الميسر الجاهلي: ابعاده ودوره في ممانعة ظهور الدولة).
بالتالي، فالأمر واضح وجلي. فالميسر الجاهلي كان مؤسسة إجتماعيية ما وقفت حجر عثرة في سبيل ظهور الدولة في الجزيرة العربية في نهايات الجاهلية. لذا، كان على الإسلام أن يحطم هذه العقبة كي تقوم دولته. وقد فعل الإسلام ذلك حسب الأستاذ سالم: حرم الميسر، واستبدله بمؤسسة الصدقة، كي يعوض المنافغ التي كان يحصل عليه الفقراء منه. يقول الأستاذ سالم في الأوان: (من هنا، رأينا أن تناول عملية تدمير "مؤسسة الميسِر الجاهلي" وتعويضها بمؤسسة أخرى نفترض أنها "مؤسسة الصّدقة" ضمن سياق تغيّر ديني واجتماعي هيكلي عميق، قد يكون أحد المداخل الممكنة لتناول مسألة تكوّن الدولة العربية الإسلامية الأولى وتحليل الأرحام الأولية التي تولدت منها وفيها أي إعادة قراءة مفردات "الدين الجاهلي" والأسس التي انبنت عليها طقوسه ومن أهمّها الميسِر).
وهذا يعني أن إلغاء الميسر كان خطوة حاسمة، بل كان الخطوة الأشد حسما، في قيام دولة الإسلام.
هذا هو جوهر أطروحة الأستاذ سالم وكتابه. وهي أطروحة لا سند لها ولا أساس إطلاقا. أولا: لم يثبت أن إلغاء الميسر قد أثار اضطرابا لا في مكة ولا المدينة. ولو كان الميسر مؤسسة جذرية حقا، لكنا سمعنا بصدى السقوط العظيم لهذه المؤسسة. وهذا ما لم يحصل. ثانيا: أن فترة لعب الميسر هي فترة سقوط الثريا مع الانقلاب الخريفي. وهي فترة تدوم أسبوعا في أغلب الظن، او شهرا على أبعد تقدير. بالتالي، فأسبوع من لحم ذبائح الميسر هو الذي كان يمنع ظهور الدولة في الجاهلية! يعني: اللحمة هي التي كانت تمنع ظهور الدولة، ويا للهول!
والحال، أنني أطحت بفرضية اللحمة هذه من خلال فقرتين اثنتين أو ثلاث من كتابي: (ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الميسر والقداح). وأظن ان هذا هو سر غضبه علي، وسر اتهامه لي بأنني (سطوت) على جهده العلمي. جهد الدولة واللحمة!
ولم يكن صعبا علي أن أطيح بهذه الفرضية الضعيفة عبر نصف صفحة. أعني لم اكن بحاجة إلى ذكاء كبير كي أفعل ذلك. فالقرآن ذاته، وهو الشاهد الأكبر والأكثر صدقا على نهايات العصر الجاهلي، يوضح بالنص سبب إلغاء الميسر: )إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) (سورة المائدة، 91). وهكذا، فالعداوة والبغضاء التي يثيرها الميسر- إضافة إلى الخمر- بين صفوف المسلمين كانت هي الدافع الأساسي للإلغاء اللعبة.
وهذا ما جاء في كتابي حول الأمر:
"فلو وافقنا أن الميسر كان بالفعل مؤسسة، وهو كذلك إلى حد ما، فقد كان مؤسسة صغيرة تقدم اللحم لمدة أسبوع في السنة (هي فترة نوء الثريا)، أو على أكثر تقدير لمدة شعر هو شهر رجب الخريفي. ومؤسسة تقوم على أسبوع واحد لن تكون مؤسسة هائلة التأثير. بالتالي، فهي مجرد مؤسسة صغيرة على هامش المؤسسة الدينية الجاهلية، الكبيرة، والقائمة على انقسام المجتمع إلى طوائف ثلاث: حمس وطلس وحله. بالتالي، فهذه المؤسسة الصغيرة لم يكن بإمكانها أن تشكل تحديا ضخما للدولة التي كانت قد بدأت تشكلها في يثرب، لكي يجد الإسلام نفسه مرغما على تحطيمها. لم تكن المنافع الاجتماعية للميسر هي ما يهدد الإسلام، بل (العداوة والبغضاء). لقد أراد الإسلام أن يتجنب العداوة والبغضاء التي كان يخلقها الميسر، ويخلقها الخمر. بالطبع، لا بد أن تشكل المؤسسات الإسلامية الاجتماعية قد جاء في جزء منه لسد الاحتياجات التي ضربت عبر حظر الميسر. لكن من دون المبالغة في ذلك".
وفي مكان آخر أقول، لكن ردا على باحثين آخرين:
"أما نحن فنعتقد أنه لم يلغ لسبب ديني مباشر، بل ألغي، مثله مثل الخمر، بسبب العداوة التي كان يثيرها بين صفوف المسلمين، الذين خرجوا حديثا من تقاليد الديانة الجاهلية. والحقيقة أن هذا ما أوضحه القرآن مباشرة. فهو يشير إلى العداوة والبغضاء كسبب أساسي: )إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) (سورة المائدة، 91). ومن الإجحاف أن يتجاهل المرء النص المباشر والواضح للقرآن عن العداوة والبغضاء لكي يبحث عن سبب آخر. فالقرآن لم يكن قادرا على تغطية السبب الفعلي، ثم الإتيان بسبب آخر مخالف هو العداوة والبغضاء، لأن الأمور كانت مكشوفة للكل وقتها. فقد كانت جلسات شرب الخمر تؤدي، عند لحظات فقدان التوازن، إلى العودة للمفاخرات القبلية بين حديثي الإسلام، مما يؤدي إلى نزاعات بينهم. كما أننا نعتقد أنها كانت تؤدي إلى اشتباكات بين من خرجوا من تقليد الحمس الخمري وتقليد الحلة اللاخمري. وقد كانت الحساسيات شديدة بين هذين التقليدين. بالتالي، فقد حسم القرآن الأمر بشأن الميسر في اللحظة عينها. وقد وضع الخمر والميسر معا لأنهما يسببان الصداع نفسه".
وهكذا، فالقرآن ذاته يكذي جوهر كتاب الأستاذ سالم، ويغيه. وهذا يعني أن 460 صفحة مما خطه ذهبت هباء. لقد أتعب نفسه في بناء فرضية يكذبها الشاهد الوحيد على نهايات العصر الجاهلي: القرآن.
نأتي الآن إلى اتهامات السيد سالم لي بسرقة جهده، كما عرضه في مقالته في الأوان. ذلك انني لم أقرأ كتابه. فقد صدر كتاب وكتابي في الوقت ذاته (سبتمبر 2014). وماذا يحمل عرضه في مقالة الأوان؟ يحمل أن لعبة الميسر تحدث عن سقوط الثريا والانقلاب الخريفي. لكن هذا ليس بحاجة إلى سرقة. فهو معروض في كل المصادر العربية الكلاسيكية. يعني هو كلام مرمي على جانب الطريق، ويمكن لواحد متوسط الذكاء أن يصل إليه خلال ساعتين من استعراضه للمصادر العربية. بالتالي، فلم أكن أصلا ملزما أن أستشهد بما كتبه حول هذا الأمر. فما موجود في كل مكان في المصادر العربية ليس اختراعه ولا اكتشافه، ولا يحق له تسجيله باسمه. مع ذلك فقد استشهدت في كتابي بما قاله في مادته في الأوان من باب الأمانة العلمية.
غير أن الأهم أن السيد سالم لم يدرك أن الانقلاب الخريفي وسقوط الثريا هو موعد (طقس الذبيح) أساسا. طقس الذبيح، الذي هو أهم وأخطر طقوس الجاهلية، يحين موعده عند سقوط الثريا. وهو فوق ذلك لم يدرك أن لعبة الميسر هي تقليد لهذا الطقس. إنها الطقس وقد تحول إلى لعبة مقامرة. لكن السيد سالم لمن يتمكن من أن يصل إلى هذا، على الأقل على حسب مادته في الأوان. فهو لم يعرض لهذا الطقس وعلاقته بالميسر.
أكثر من ذلك، فهو لا يدرك ارتباط طقس الذبيح والميسر بأسطورة (سرقة غزال الكعبة)، التي هي الأسطورة المؤسسة للديانة المكية الجاهلية كلها. ففيها انقسم الكون إلى (السقاية والرفادة)، إلى الحمس والحلة. ولأن الماء السفلي، ماء الينابيع، هو ملكيه إله الحمس، إله الماء السفلي، فقد كان على ممثلي الحمس إن ارادوا استخدام هذا الماء في حجهم الخريفي الشتوي، أن يدفعوا ثمنا لذلك. أي أن يدفعوا أضحية لإله الماء السفلي. وهذه الأضحية ذبيحة بشرية. لذا قال عبد المطلب، ممثل الحلة وإلههم، في قول شهير له: (إن سقيت الحجيج ذبحت بعض ولدي). وقد ذبح بالفعل ابنه عبد الله رمزيا، ثم افتدى عبد الله بالإبل. لكن الفداء الأصلي هو الكبش، الذي كان قرناه معلقان على ميزاب الكعبة. وهو ما يعني أن عبد الله الذبيح كان مثل إسماعيل الذبيح. كل منهما ذبح رمزيا، واستبدل بكبش، من أجل الحصول على الماء السفلي لسقاية الحجيج.
لكن من أين للسيد سالم أن يتوصل لهذا؟ من أين له أن يدرك تعقيد ديانة مكة في الجاهلية؟ هو يلتقط ما هو شائع في المصادر العربية عن ارتباط لعبة الميسر بالمطر الأول، مطر الثريا، ويظن أن يكتشف كنزا. وفوق ذلك فهو يحلط بين مطر الثريا وبين الاستمطار، الذي له طقس خاص مختلف هو (طقس التسليع)، الذ تربط فيه النار في أذيال الأبقار، وتطلق طلبا للمطر.
كتابي أنا عن طقس الذبيح وطقس سرقة غزال الكعبة وعلاقتهما بالميسر. اما كتابه فعن علاقة اللحمة بالدولة. عن كيف منعت لحوم الميسر قيام الدولة في الجاهلية. فكيف يمكن لي أن أسرقه وأنا لا أبحث عن اللحم ولا عن الدولة.
ولو عدنا إلى لعبة الميسر، فإن ما أثار التي ما أثار غضب السيد سالم بشدة، هو أنني زعمت في كتابي أنني كشفت طريقة لعبها. فمن وجهة نظره أنه لا يحق لي أن أعلن أنني فككت لغز الميسر. فهذه المهمة مخصصة له مع أنه لم يقم بتنفيذها. فهو لم يدع، حسب مادة الأوان، أنه حل لغز طريقة لعب الميسر. ولو كان فعل ذلك في كتابه، لكان قد بين في هجماته غير الكيسة علي كيف أنه حل اللغز. كما كان قد أوضح لي أن حلي غير صالح. لكنه لم يفعل. كان مشغولا بأنني سرقت منه فكرة أن الميسر يلعب عند سقوط الثريا. طيب يا حبيبي لماذا أسرق هذا منك، وهو معروض في المصادر العربية القديمة كلها؟ أليس الأفضل لي أن أسرق من الأصل على أن أسرق من الفرع؟
ثمة جدال دار على مدى 13 قرنا حول طريقة لعب الميسر، والسيد سالم لم يقدم فيه شيئا، لأنه كان مشغولا بفكرة الدولة واللاحمة. لم تكن يشغله اللغز، لغز طريقة لعب الميسر. اما أنا فقد كنت مشغولا بهذا اللغز. وقد حللته، رغم غضب السيد سالم.
فقد حددت وبالملموس في كتابي طريقة لعب الميسر، بحيث يمكن الآن لمن شاء أن يلعبها. كما حددت طبيعة القداح الداخلة في المقامرة والقداح الغفل، التي لا تدخل في المقامرة، ودور كل منها في اللعب. والأهم أنني اوضحت دور (القدح المنيح) الذي له علاقة مباشرة بالذبيح وطقسه. إنه قدح الذبيح.
أما الأستاذ سالم، فقد اكتفي بإزالة لحمة الميسر من أمام الدولة، فانبثقت الدولة فورا بعد ذلك. وهذا يشبه ما فعله ابن بيض في المثل المشهور: (سد ابن بيض الطريق). وقصة هذا المثل: "أن رجلا في الزمان الأول يقال له ابن بيض، عقر ناقة على ثنية فسد بها الطريق، فمنع الناس من سلوكها) (الميداني، مجمع الأمثال). لذا قال الشاعر:
سددنا كما سد ابن بيض طريقه
فلـم يجـدوا عـنـد الـثـنـية مـطـلـعـاً
وقد حصل في نهايات الجاهلية ما يشبه هذا إلى حد كبير، بناء على الأستاذ سالم. فقد ذبحت (ناقة الميسر) وسدّ لحمها الطريق أمام قيام الدولة في مكة. غير أن الأستاذ محمد الحاج سالم تمكن ومن خلال جهد ضخم، وعبر 460 صفخة و900 مرجع، من إزاحة الناقة ولحمها، فانفتح الطريق أمام قيام دولة الإسلام. وهذه مأثرته كبرى تحسب له. ولا يمكن لي شخصيا أن اماري في ذلك.
*
الأمر كله يتعلق بالتواضع. الذكاء المتوسط لا يستطيع أن يتواضع. ينفخ نفسه، ويظن أن الخرز البلاستيكي اللماع الذي يعثر عليه في الوحل على جانب الطريق هو الألماس ذاته.
ومشكلتي أنا كانت في الحقيقة مع الذكاء المتوسط لا مع أي شيء آخر.
ليست هناك تعليقات